أزمة الخرطوم الاقتصادية وعلاجها الأمني بقلم: د. عبدالوهاب الأفندي

awahab40@hotmail.com
(1)
بحسب تصريحات أولية رسمية وغير رسمية لمسؤولين سودانيين فإن البلاد قد نجت بحمدالله وحفظه من الأزمة المالية الاقتصادية العالمية. وبهذا يكون السودان هو البلد الوحيد في العالم الذي حظي بهذه النعمة الإلهية، والتي عزاها بعض المسؤولين إلى عزلة السودان عن الاقتصاد الأمريكي خصوصاً والرأسمالي الدولي عموماً بسبب الحصار والمقاطعة التي واجهها السودان، مما يستوجب شكر أمريكا وبقية الأعداء المتربصين الذين نفعوا السودان من حيث أرادوا ضره.
 (2)
بعد أيام، وأحياناً بعد سويعات، من إطلاق هذه التصريحات كان عين المسؤولين يذهبون إلى البرلمان أو إلى اجتماعات رسمية ويعلنون عن إجراءات لمعالجة الأزمة والتعامل مع آثارها. ولا شك أن هذا المنحى الواقعي هو الأولى بعيداً عن الشعارات، لأن دعوى أن السودان معزول عن الأزمة لا تستقيم، ببساطة لأن عماد اقتصاد السودان حالياً هو صادراته النفطية، وهي سلعة سريعة التأثر بالتقلبات المالية الدولية والاقتصادية، بدءاً من قيمة الدولار وانتهاءً بالطلب في اقتصاد الدول الصناعية. إضافة إلى ذلك فإن السودان غارق حتى أذنيه في الديون الخارجية، ولا يكاد يمر أسبوع حتى نسمع خبراً عن قرض جديد.
  (3)
أحد المعالجات التي اتخذتها الحكومة للأزمة المالية  كانت اعتقال بضعة وثلاثين من كبار رجال الأعمال من المعسرين (أو المتعثرين كما يطلق عليهم في الخطاب الرسمي) بواسطة الأجهزة الأمنية وإيداعهم في معتقلات سرية وحرمان أسرهم ومحاميهم من الالتقاء بهم، وفي حالة أحد المعتقلين أيضاً من تلقي العلاج (بحسب إفادة أسرته). وبحسب مصادر ذات صلة فإن إدارة المصرف المركزي على صلة بهذه الاعتقالات وأنها تستخدمها للضغط على رجال الأعمال لتسديد قروضهم المتأخرة. وقد تم إجبار البعض على تصفية وبيع أصولهم أو الاقتراض من جهات أخرى لتسديد ماعليهم.
(4)
في السودان كما في غيره من بلاد الدنيا قوانين تحدد قوانين التعامل الاقتصادي، ومحاكم تقوم على تطبيق هذه القوانين. ولكن الملاحظ في المعالجة الأمنية المذكورة أنها التفت حول القانون بل ومثلت تحدياً له، لأنها حرمت رجال الأعمال المعنيين من حقوقهم القانونية. فكما هو معروف فإنه في حالة الشركات المحدودة لا تكون مسؤولية صاحب الشركة ولا إدراته شخصية عن ديون المؤسسة، إلا إذا كانت هناك عمليات فساد أو ممارسات غير قانونية. وفي هذه الحالة فإن المحاكم هي الجهة المخولة التصدي لهذا الأمر.
(5)
هذا التعامل الأمني خارج القانون مع رجال الأعمال يذكر بممارسات العصابات التي يقوم رجالها بالاعتداء بالضرب (أو القتل أحياناً) ضد مدينيهم، أو خطفهم لإجبارهم على تسديد ما عليهم. وهذا التشبيه يثير سؤالاً في غاية الأهمية حول الباعث على هذا التدخل الحماسي من قبل الأجهزة الأمنية في مسألة هي علاقة تجارية بين المصارف والمقترضين. فهل يعني هذا أن هذه الأجهزة أو جهات حكومية أو شبه حكومية قد أصبحت طرفاً في هذه التعاملات؟
(6)
هناك علامات استفهام كثيرة حول ملكية بعض المضارف، وحول علاقة بعض الشركات والمؤسسات بالحكومة أو ببعض كبار المسؤولين وأقاربهم. وهناك تدخلات تثير أكثر من سؤال للأجهزة الرسمية وشبه الرسمية (من أمنية وحزبية وعسكرية) في العملية الاقتصادية عبر إنشاء شركات تكون واجهات لهذه الأجهزة، وهو أمر يضر كثيراً بحرية الاقتصاد والمنافسة وبالشفافية الضرورية لأي تعامل اقتصادي.
 (7)
قد لا تملك الحكومات منع وقوع الأزمات الاقتصادية والمالية، ولكن أسلوب معالجة هذه الأزمات هو الذي يميز العمل الحكومي الفعال من ذلك الذي يزيد الطين بلة. وفي كثير من الدول التي ضربتها الأزمة الأخيرة كانت البداية هي الاعتراف بالأزمة ثم الاستعانة بأهل الخبرة لوضع المعالجات المناسبة. ويكاد يكون التوجه بغير استثناء في كل المعالجات هو دعم القطاعات المتعثرة وليس الهجوم عليها، وبالقطع ليس بالاعتقالات وممارسات غير قانونية أخرى تهز الثقة بالاقتصاد وتصرف المستثمرين عن البلاد. ذلك أن أهم عامل يعزز الثقة في العملية الاقتصادية يتمثل في شفافية الإجراءات واحتفاظ الدولة بمسافة بينها وبين السوق.
(8)
لا شك أن كثير من رجال الأعمال غير مبرأين من إثم الاحتيال والممارسات غير المسؤولة المضرة بالاقتصاد. وهؤلاء يجب محاسبتهم ومعاقبتهم في إطار القانون، حتى لو تطلب الأمر تشديد القوانين. ولكن الأهم من ذلك هو أن تعمل أجهزة الدولة من بنك مركزي وأجهزة أمنية وغيرها في إطار القانون، وألا تكون محاربة الممارسات المالية الخاطئة بدورها غطاء لمخالفة القانون (مثلما أصحبت الحرب على الإرهاب عند البعض ذريعة لكل كبيرة).
عن “القدس العربي” 6 فبراير 2009

 

شاهد أيضاً

عبقري الزمان

الشيخ بابكر بدرى اول مؤسس للتعليم الأهلى للبنات بالسودان من المرحله الاوليه الى الجامعيه لله …