أزمة سياسية نحو الانتقال الديمقراطي

 


 

 

قد تكون السياسية ممارسة للازمة أكثر منها كما في دارج القول فن الممكن ومن المقبول أن تكون السياسية هي ممارسة الأزمة إذا كانت بتصادم الإرادات أو اختلاف وجهات النظر. ولكن عندما تتصاعد الأزمة دون أفق للحل يكون التدحرج نحو الكارثة محتوما لا يمكن تجبنه، وعندها يكون الحديث حول ما أدت اليه الأزمة. وإذا الحديث عن الأزمة وأزمة بلد موبوءة بالأزمات فهي ليست أزمة واحدة تدور حول خلاف سياسي حاد طابعه التنازع حول تفسير تقديرات مواقف سياسية معلومة وهذا ربما تطلب تدخل ناعماً بالوساطة التفاوضية على أسس آلية فض النزاعات Conflict Resolution ولكن عندما تكون الأزمة عرضاً لمتلازمة أزمات لا حصر لها كالأزمة الاقتصادية وأولويتها الملحة في المعالجة والأزمة الأمنية وما يليها من تناسل لأزمات متداعية يكون الأمر قد انتقل من معاناة الأزمة الى الفناء المحقق؛ ويتطلب ذلك تدخلاً يتعدى وساطة الأجاويد. ولكن ما هو المخرج من الأزمة الحالية التي تقف بوجه ما ينتظر مستقبل السوداني السياسي الذي انصبت عليه كل وجهات الخلاف في بلد يعج من بين أكثر بلدان العالم بالساسة والجدل السياسي؟ فهي بين كل الأزمات ليست أزمة دستورية ناشئة عن فراغ سياسي تعطلت معه أجهزة الدولة التشريعية أو رحيل مفاجئ لحاكم خلى منصبه بانتظار اختيار من يخلفه ولكنها أزمة له جانبان يعبر كل منهما عن وجه الأزمة لا الحل: أزمة وصراع سياسي بين طرفي حكم المرحلة الانتقالية في أدارة الدولة، وأزمة اقتصادية معيشية وكلا الأزمتين تعبير صارخ عن أزمة سياسية محتدمة.
المنعطف الخطير الذي يمر به على -تكرار التوصيف -السودان الآن يعد الأخطر في تاريخه السياسي لا من حيث عدد المتنافسين على انتزاع سلطة المرحلة الانتقالية أو بين قوة عسكرية تنجح الى المواجهة المفتوحة، وقوة مدنية تستمد قوتها من شرعية ثورة لها استحقاقاتها المشروعة وتجهر بالتصدي لحمايتها. ويخرج ربما للمرة الأخيرة السودان منقسماً ومعاقاً تمزقه النزاعات الجهوية والصراعات السياسية لتنقض على ما تبقى فيه من مكان في العالم كان يسمى السودان على طريقة انهيار الدولة الفاشلة. ومع أن القوى السياسية ما بعد ثورة ديسمبر لاتني تشدد على الوفاء بكل ما جاء في الوثيقة الدستورية وصولاً الى نهاية المرحلة الانتقالية في فترة قابلة للتمديد إن لم يكن بنص الكلمات فبمدى نيران المواجهات! فالقضية لم تعد في النظام الجديد الذي يبشر به الانقلابيون لأنه لن يكون نظاما على نمط الديكتاتوريات العسكرية السابقة فيأخذ أي نظام أو بصريح العبارة انقلاب جديد الى البلاد إلى الوجهة الأخرى من التاريخ.
اضطرت بوادر الأزمة السياسية التي لاحت في أفق المشهد السياسي منذ أن تكونت الشراكة الفصامية حول كيفية إدارة العملية السياسية بين مكونات سلطة الحكومة الانتقالية إلى البحث عن صيغ معالجات تجبناً لما هو محسوس من خطر داهم على المستوى السياسي تمثل في مبادرة رئيس وزراء السلطة الانتقالية التي عرفت ب (مبادرة حمدوك) أو مبادرة المجتمع المدني في (مبادرة جامعة الخرطوم) بكل مرتكزاتها وبنودها وتصورها لحلول الأزمة السياسية. والملاحظ أن القوى السياسية التي بما فيها المنظومة العسكرية لم تعر مثل هذه المبادرة اهتماماً كما لو أنها ترغب في التصعيد المباشر وصولا الى اهداف مبتغاة. ومع أن غاية ما تدعو اليه هاتان المبادرتان وغيرهما هو تأمين مسار المرحلة الانتقالية والتوافق على حد أدنى من الاتفاق حول رؤى سياسية والتزامات أخلاقية لتسيير المرحلة الانتقالية. ولكن يبدو أن الأزمة السياسية المفتعلة منها والحقيقية تشكل من جانب آخر جواً مثالياً للحالمين بالعودة الى المربع الأول من حكم النظام المباد تدفعهم إلى ذلك جرأة ووقاحة سياسية لا تقل عن ممارساتهم الفاضحة عندما كانوا يمارسون سلطتهم المستبدة.
والقول بأن الأزمة السياسة في السودان وغيره في العالم الثالث تدخل في صميم تصنيف النزاعات ذات الوتيرة الحادة أو غير المتحكم بها لما تتصل به من تحيزات قبلية وجهوية تكون آخر مرجعتيها المؤسسية السياسية، قول فيه شيء من الحقيقة وليس كل الحقيقة. فالسلطة الدستورية وأجهزة الدولة ومؤسستها هي من يعبر عن هذه الكيانات إلا أن توظيفها السياسي الخاطئ من قبل الدولة ذاتها جعل منها مطية لتلك النزعات فمهما حاولت تلك الكيانات القيام بدور الدولة تظل حركة محدودة بأفقها المحلي الجهوي أو القبلي وهذا لا ينفي الجانب الآخر من الحقيقة في تراجع دور الدولة الدائم أمام سلطة تلك الكيانات.
وإذا كانت الأزمة السياسية التي تواجه المرحلة الانتقالية مصطنعة من طرف أو يحاول أن يستغلها لفض شراكة غير مرغوب فيها فإن ذلك يمثل أخطر مراحل الأزمة السياسية وهو شهدته الأحداث الجارية. وبصرف النظر عن التناقضات التي عجلت من المواجهة بين المكونين (المدني) و(العسكري) كان لابد من مقاربة حل لأزمة مستعصية تنتهج الحلول السلمية بما أنها ازمة سياسية مع كل مخاوف ما يتصاعد منها عنف وعنف مضاد. فأزمات السودان لم تكن قدرا ً لا يملك سياسيوه بكل ما ملكوا من (إمكانيات) في اختراع حلول لها وهي شاخصة أمامهم ومن يثيرونها يشغبون في وضح النهار، إلا أن إمكانية تجاوز الأزمة السياسة وإن بدت مستحيلة بما يبدو عليه مسار الأمور في تصعديها الأخير. وإذا كانت الأزمة آخذة في التمدد بعد المحاولة الانقلابية الأخيرة الفاشلة والتصريحات العنيفة المتبادلة بين طرفي الأزمة يجعل استمرار الفترة الانتقالية والمرحلة الديمقراطية القادمة على المحك.
نشر بجريدة_ الديمقراطي# عدد اليوم 29/09/2021م

anassira@msn.com

 

آراء