أســرار في بيان الرِحْلَة: صِّنَاعة الخائن

 


 

 

 

حِيْنَ أجريتُ اتصالاً في ديسمبر 2018م للمرة الأولى بكازان صانعة طائرات الهليكوبتر، لم أكن متأكداً من النتائج التي سأحصل عليها. كانت كازان تبني مروحيات تم تصميمها في مصنع ميل موسكو لطائرات الهليكوبتر منذ العام 1961م، قبل ثلاثة عقود من سقوط الاتحاد السوفيتي. انتظرتُ لمدة أسبوعين أن يُعَاوِدُ موظفوهم الاتصال بيَّ، وعندما عَاودُوا الاتصال؛ كان عبر مكالمة هاتفية. لم تكن المحادثة ممتعة بسبب طبيعة ما أحتاجه. 

وفقاً لكازان، لم تحصل قوات الدفاع الشعبية الأوغندية (UPDF) على الطائرة المِرْوحيَّة منهم، بل تم شراء المروحية (M1-712) التي سيضع الأوغنديون سِمَةً عليها لاحقاً باسم (605) مِن مصنع طائرات الهليكوبتر الروسية، وهو مُشَغِّلُ سوق ثَانْوِي مقره في بولشايا بيونرزكايا، إحدى الضواحي الداخلية في مدينة موسكو. واستمر السعي المُضْنِي دون أي انفراج لمدة شهرين آخرين.
في شهر فبراير 2019م، تلقيتُ رسالةً في البريد الإلكتروني من استانيسلاف غولوبيف المتخصص في طائرات الهليكوبتر الروسية، والذي عمل مع الشركة لأكثر مِن (21) سنةً. أجاب غولوبيف عن أسئلتي مِن خِلَالِ توفير معلومات مفصلة حول ترتيب المقاعد داخل المروحية (MI-172 605) المَشْؤُومَة التي أقلت جون قرنق .. راجع الملحق (أ).
كان الغرض مِن ذلك هو إثبات الوضوح حول ما إذا كان بإمكان شخص ما التسلل إلى الطائرة دون أن يُرى، وهو ما وصفه غولوبيف بأنه "مستحيل ما لم يتم عمداً". وعلاوة على ذلك، عدم وجود أركان أو زاويا داخل الطائرة بسبب تصميمها الداخلي. لا يمكن أن يحدث ولم يحدث، ولم يكن العدو داخل المروحية، بل كان على الأرض. ولكن قبل أن نصل إلى هذه الخلاصة، سنقدم أولاً مقدمات أساسية ومنطقية لما أصبح قضية اهتمام تتعلق بالموت ومشكلة يَحْذَرُ الكثيرون من متابعتها.
ترتفع سلسلة جبال لوتوكي بارتفاع منخفض يبلغ طولها (900) متراً إلى ارتفاعٍ يزيدُ عن (2300) متراً نحو الجنوب، ويرتفع الجهة الجنوبية بلطفٍ مِن سهول السافانا الجافة، ويتحول في غضونِ بضعةِ كيلومتراتٍ إلى قمةٍ خضراء. إنه منظرٌ جُوِيٌّ أَخَّاذٌ.. وتتبع القمم الشرقية نفس النمط في جبل زوليا على الحدود الأوغندية، وتبلغ قُنَّة زوليا حوالي (2184) متراً وينحدرُ بلطفٍ بعيداً عند السفوح إلى (900) متراً على الحدود الكينية. مِن القمم الشرقية والجنوبية، تقع نيو كوش ضمن دائرة نصف قطرها (10) كيلومترات مِن أي مِن الجهتين. كما أنه يتسطح على امتداد ونطاق المنطقة بتصاريح كافية تتيح فرصةً لهبوط عدة طائرات.
وفقاً لتقرير الأرصاد الجوية من الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء، المعروفة بوكالة (ناسا/NASA)، في 30 يوليو 2005م، كان الأُفق الممتد ومحيط لوتوكي ساخنٌ بشكلٍ معتدلٍ لفترة طويلة بعد الظهيرة، وبلغت ذروته (28) درجةً مئوية، مع وجود سحب متفرقة ورؤية مِن مسافة (30) كليومتراً عند الساعة السادسة مساءً، و(20) كيلومتراً عند الساعة السابعة مساءً، ما يعني أنه كان لا يزال من الممكن الحصول على رؤيةٍ مناسبة في مثل هذا الطقس إلى حوالي الساعة السابعة والنصف مساءً. وبحلول الساعة السادسة مساءً، انخفضت درجات الحرارة إلى أقل من (23) درجةً مئوية مع رؤية كافية لهبوط طائرة (MI-172).
تم تصميم مروحيات (MI-172) ببراعةٍ لتحقيق أقصى قدرٍ مِن التنوع والفعالية التشغيلية، ويمكن أن تحلق تحت نقطة التجمد بـخمسين (50) درجةً مئوية، وأعلى من (50) درجةً مئوية. كما يمكن للمروحية أيضاً استيعاب ما يصل إلى (26) راكباً. وتمتاز بعض المروحيات بمواصفات تفصيلية لكبار الشخصيات بحيث تسع لــ(12) شخصاً، ولكن المروحية الرئاسية تم تصميمها أو جرى تعديلها لاستيعاب أقصى عدد (26) راكباً. كانت مناسبة وواسعة لرئيس الدولة، وتم استخدامها قبل يومٍ واحدٍ من قبل الرئيس موسيفيني وتم تجديدها لراحة جون قرنق.
كان الترتيب النموذجي للمقاعد، بحسب غولوبيف، أن يكون العقيد الطيار بيتر نياكايرو والطيار المساعد النقيب بول كييمبا في قُمْرَة القيادة، مع وجود الطيار على الجانب الأيمن. ساعد كييمبا نياكايرو في تشغيل الأجهزة الأُخرى، مما منح الطيار وقتاً كافياً للتركيز على الضوابط الدورية. جلس مهندس الطيران باتريك كيغوندو في قُمْرة القيادة أيضاً، ولكن في المقعد الثالث خلف الطيار مباشرةً. جلس ضابط البروتوكول سام أندرو باكوا على مقعد النافذة في الصف الأمامي على الجانب الأيسر خلف الطيار المساعد. كانت المضيفة الجوية ليليان كابايجي مع باكوا، وجلست في الممشى لسهولة الوصول إلى كبار الشخصيات، وكانت تتحرك دائماً. جلس جونسون مونانورا، ضابط الطائرة المروحية، ومدير الإشارات الرئاسية العريف حسن كـيزا، في الصف المجـــاور خلف الطيار كما كانوا يفعلون دائـمـاً.
قامت ليليان كابايجي بتقديم خدمة للراعي كما فعلت دائماً للرئيس موسيفيني. كانت جميلة ومثابرة ومتواضعة للغاية. كانت شخصيتها متماشية مع استراتيجية العلاقات الدولية في بلادها. وقد أدركت أهمية العلاقات العامة وما يعنيه دورها في العلاقات بين أوغندا والسُّودَان بشكلٍ عام، وجَنُوب السُّودَان بشكلٍ خاص. كما أنها قدرت موقفها على نطاق أوسع مِن الأشياء، وجعلت جون قرنق ورفاقه يشعرون بأنهم في البيت، كما فعلت مع جميع الركاب الآخرين البالغ عددهم (12) على متن الهليكوبتر (MI-172 / AF 605). وقد قدمت خدمة لضيوفها في أغلب الوقت خلال رحلة الساعتين المحتومة لتضمن قيامها برعاية الجميع. لم تكن تعلم أن تلك ستكون آخر خدمتها لبلادها وعملاً دوؤباً لطيفاً لكل الذين قابلتهم.
وفي الجزء الأوسط، تأكد المقدم جمعة علي ميان مجوك، وهو من كبار الحراس الشخصيين لجون قرنق، من جلوس الجميع في أماكنهم الصحيحة. رافقه المقدم أمات ملوال، وهو ضابط بنفس الرتبة. كان الأساس المنطقي لشخصين بنفس الرتبة في مرافقة قائدهم هو أنه في حالة حدوث أي شيء مؤسف لأي منهم؛ يتولى الآخر السيطرة ويوجه الثلاثة الآخرين: الملازم أول دينق مجوك كوانج، الملازم أول أوبوكي أوبور أمايبيك، والملازم أول ميان دينق مبيور لحماية جون قرنق بأي ثمن كلما كان ذلك ممكناً وفي مقدورهم.
عند الساعة الخامسة (5:02) ودقيقتان مساءً، غادرت المروحية (MI-172 / AF 605) عنتيبي متجهةً إلى نيو كوش، على مسافة (486) كيلومتراً من عنتيبي فوق بحيرة كيوجا وبورورو، وبمسافة (502) كيلومتر مِن مسارٍ بديل عبر سوروتي محلقةً فوق أوبالانغ وأبيم. وتبلغ أقصى سرعة مروحيات (MI-172) 280كيلومتراً في ساعة، فيما تبلغ سرعة الإنطلاق (260) كيلومتراً في ساعة. باستخدام المسار الأول الذي يمر في وسط أوغندا، مع المحافظة على السير في الاتجاه الشمالي الشرقي؛ كان الوقت المقدر للوصول هو الساعة السادسة وستة وأربعون (6:46) دقيقة مساءً بأقصى السرعة، والسادسة وأربعة وخمسون (6:54) دقيقة مساءً بسرعة الإنطلاق.
لكن الطيار لم يتخذ هذا المسار مساراً للرحلة، ربما بسبب عدم معرفته بمسار الطيران في ذلك الممر، أو ربما اعتبر احتمالات إسقاط طائرة الهليكوبتر من قبل المتمردين الأوغنديين في الشمال. ويمكن أن يكون السبب هو الاحتمالان كلاهما، وربما كانت هناك أسباب أُخرى. على أي حال، اتخذ مسار سوروتي، محلقاً بالمروحية شرق جينجا وفوق أوبالانغ، وحافظ عليها على ارتفاع منخفض تحت (1900) متراً. كان هذا أطول مسار في مسافة (500) كيلومتر، مع الوقت المقدر للوصول عند الساعة السابعة مساءً، وانحراف محتمل لمدة خمس دقائق.
بعد مسافة ساعة التي وضعت موقع المروحية على بعد (18)كيلومتراً شمالي أراباي، إحدى ضواحي سوروتي، وصل اتصال التحكم الأرضي في مدينة عنتيبي إلى الطيار الذي قال إنه كان يُحَلق على ارتفاع (6000) قدم، ما يعادل (1830) متر. وكشف مسجل البيانات في وقت لاحق أنه كان يحلق على ارتفاع (5500) قدم، ما يعادل (1670) متراً. وتعتبر منطقة سوروتي بشكلٍ عام منطقة مستوية، ولكن الارتفاع يزداد تدريجياً شمالاً وشمال شرق البلاد. كانت الساعة الآن السادسة مساءً قبل وصولها إلى نيو كوش بقليل.
لكن تلك الساعة أصبحت نقطة التحول في مصير المروحية (AF 605). استمرت الرحلة في مسارها، وبحلول الوقت الذي عبرت فيه المروحية الحدود الأوغندية إلى جَنُوب السُّودَان، كان على الأرجح حوالي الساعة السادسة وخمسون (6:50) دقيقة مساءً مع اختلاف زمني بنقصان أو بزيادة عشر دقائق. كانت الرؤية لا تزال بسرعة (20) كيلومتر في الساعة، ولذلك لم يكن الطيار قادراً فقط على رؤية نيو كوش، بل حاول أيضاً الهبوط. لكنه قام بإجراء مكالمة نداء القبطان، مشيراً إلى سوء الأحوال الجوية وضعف الرؤية، وأعاد المروحية جنوباً إلى أوغندا. التقطت المروحية السرعة وتوجهت إلى الجنوب مِن نيو كوش، في محاولة لمسح نطاقات أو آفاق لوتوكي.
لكن الطائرة المروحية (MI-172 / AF 605) لم تصل بسلامة. تم إسقاطها وسقطت في الجانب الغربي من جبل لوتوكي، على بعد أقل من (10) كيلومترات جنوب نيو كوش في طريق العودة إلى أوغندا. كان حادث التحطم شديداً، مما أدى إلى تمزيق المروحية إلى أجزاء واحتراق كثير من جسمها والركاب. كان الطيار يحمل براميل وقود إضافية تم التقاطها في عنتيبي، والتي تم تخزينها في منطقة الشحن أسفل الصفوف الخلفية، وزادت الوقود الإضافية مِن هول الاحتراق، وقد ساعد ذلك على حرق المروحية بشكلٍ لا يمكن التعرف عليه.
ولكن كان هناك تضارباً في نظرية التصريح غير الكافي. حاولت المروحية الهبوط شمال نيو كوش، وليس وسط المدينة أو جنوبها؛ ولكن الطرف الشمالي. كان للطيار مسافة إضافية تقدر بـ(8) أو (10) كيلومترات، بما يكفي لإعطاء المروحية الوقت الكافي لمسح قمم عالية في طريقها إلى الجنوب. إذن ما الذي منع بيتر نياكايرو من الحصول على تصريحٍ كافٍ؟ كان طياراً متمرساً في قيادة المروحية ولديه سجلٌ حافلٌ ولا يعمل طياراً خفياً في بعض الطائرات التجارية غير المعروفة، بل كان طياراً للرئيس. لم تكن الأحوال الجوية السيئة هي السبب وراء الحادث؛ تم إسقاط المروحية بواسطة متفجرة عالية الجودة أو عبوةٌ ناسفةٌ زُرِعَتْ قبل أن تغادر المروحية عنتيبي.
لوضع الحيرة تحت الدراسة المنظورية، هل كانت طائرة الهليكوبتر (MI-172) مجهزة بذيل، ودوار علوي، وتحسينات لجسم الطائرة للأحمال الثقيلة، وهي تتدلى محلقة بارتفاع (1000) متر، بعد أن غطت مسافة (10) كيلومترات (من شمال نيو كوش إلى غربي لوتوكي)؟ كان على الطيار الذي أحبط عملية الهبوط تَوَّاً بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة أن يرتفع ارتفاعاً كبيراً فوق القِنَان العالية، ويمسحها في أقل من دقيقة، ويعود إلى الجنوب على ارتفاعٍ عالٍ لأن قرار العودة بالمسار المعروف كان قد تم اتخاذه. لم يكن هناك سبب لإبقاء المروحية تُحَلِقُ على ارتفاعٍ منخفضٍ.
هذا ما فعله الطيار بيتر نياكايرو. كان يتصرف كطيار جيد وقام بزيادة الارتفاع الرأسي، ثم قام بضبط الرحلة أفقياً، واتجه جنوباً. بدلاً من محاولة الاختراق من الطرف الغربي من النطاقات، قام بيتر بتصريح ثالث واتجه إلى أوغندا، محافظاً على التحليق من مناطق ذات ارتفاعات منخفضة. كان الطرف الغربي أفضل جزء من الجبل لأسباب الارتفاع، لكنه لم يحالفه الحظ. تم ضرب المروحية من على الجرف إما بصاروخ من منحدرٍ قريب في لوتوكي أو من جبل زوليا في أوغندا، أو تم تضليل الطيار عن بعد عن طريق التحكم الأرضي في عنتيبي. إن كلاً من السيناريوهين يقدمان سبباً وتفسيراً لتلف المروحية بشدة عندما قامت وكالات النقل الدولية بعملية التفتيش.
في يوم الإثنين الموافق الأول من أغسطس، بعد أكثر من ستة وثلاثين ساعة من تحطم المروحية، تم العثور على الجثث المتفحمة لِكُلٍّ من جون قرنق، جمعة علي ميان، بيتر نياكايرو، بول كييمبا، والركاب العشرة الآخرين في جبال لوتوكي بواسطة الجنرال الراحل أتيم أقوانق أتيم. سقطت بعض الجثث وتناثرت في المنحدرات واستقرت في الصخور، وتشوهت البعض الآخر بين المواد المعدنية جنباً إلى جنبٍ مع أجزاء المروحية. كانت بعض الجثث لاتزال مربوطة في مقاعدها لكنها احترقت بشكل يصعب التعرف عليها.
بعد العثور على الجثث، بدأ المحققون بالبحث عن سبب الحادث. وبشكل افتراضي، تم إلقاء الشك على الجبهة الإسلامية بسبب تاريخها الخرافي وعدم جدارتها بالثقة وارتباطها بالتواطؤ. فقد الكثيرون من الناس حياتهم في الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد. وفي حين أعتقد الكثيرون أن الجبهة الإسلامية مسؤولة عن الحادث، كان البعض يتشككون في دقة مثل هذا الاتهام. كان جنرالات الحركة الشعبية الذين يكرهون فكرة السُّودَان الموحد ساخطين، لكن هل كان لديهم دافع كافٍ لقتل جون قرنق؟ وحتى لو فعلوا ذلك، هل كانوا مستعدين لاحتمالية وقوع هجمة قوية؟ لا، لم يكونوا مستعدين لذلك. مارس قرنق سيطرته المطلقة على الحركة الشعبية لأكثر من (22) عاماً، وشعر الكثيرون أن الحركة ستنقرض بدونه. ليس لهؤلاء الجنرالات ما يكسبونه في موت زعيمهم. كان ذلك أمرٌ لا جدوى منه وفَوْضَوِيٌّ للغاية.
لكن شخصاً آخر، (الخائن الفُلان الفُلاني)، وهو نفس الشخص المسؤول عن صناعة وتكثيف الخلافات بين جون قرنق وسلفا كير قبل تسعة أشهر، مما أدى إلى انعقاد مؤتمر رومبيك في شهر نوفمبر 2004م، كان نفس الشخص هو من مثل له وفاة جون قرنق مكسباً كبيراً. لم ينجح ذلك الخائن في تخريب عملية السَّلَام، ولكنه قام بتلفيق كثير من المعلومات المضللة من مقر إقامته في نيروبي، حيث كان مختبئاً على مرأى ومسمع مِن الجميع؛ وعَمِلَ على تغذية المقربين من سلفا كير بمعلومات تم تفسيرها على أنها حقيقة. مضى سلفا إلى الدفاع عن نفسه، معتقداً أن كُلُّ شيء تم تزويده به من معلومات كانت حقيقة، لأنها تم تأليفها بطريقةٍ تبدو بأنها حقيقة. لكن اجتماعات رومبيك قللت من حدة التوتر، الأمر الذي جعل الخائن غير ذي صلة وتأثير لفترة زمنية مؤقتة.
لم يتم وضع فكرة وجود خائنٌ يتربص من خلف الظلال في الاعتبار. كانت النظريات التي لكثير من الناس الدراية بها هي نظرية المسح غير الكافي، الأمر الذي يرسل تلميحاً يفضى إلى اتهام الطيار، بيتر نياكايرو، بأنه لم يقم بمسح الجبال بالسرعة الكافية، لكن هذه النظرية كانت غير دقيقة. وكما ذكرنا آنفاً، قام بيتر بمسح ارتفاع رأسي يزيد عن (2000) متراً في أول ثلاثة (3) كيلومترات من رحلة عودته إلى أوغندا بعد أن قام بإلغاء الهبوط. في الوقت الذي وصل فيه بيتر إلى مسافة (2) كيلومتر من جبل لوتوكي، كان في ذلك الحين يُحَلِقُ على ارتفاع (3300) متراً. لم تكن نظرية المسح غير الكافي منطقية ولا تزال تفتقر إلى المصداقية ولا يمكنها تحديد خطأ الطيار بشكلٍ كافٍ.
كانت النظرية الثانية هي نظرية الحرس المحتال الشرير. تُوحِي النظرية بأن جمعة علي ميان مجوك، الحرس الشخصي لجون قرنق لمدة طويلة، والذي أصبح أخاً له في الجندية مدى الحياة، وهو يمثل يداً مساعداً يمكن أن يعتمد عليه ابن السُّودَان الأكثر ذيوعاً وشَّعْبِيَّةً، كان مسؤولاً عن وفاته. لم يكن لدى جمعة علي سوى القليل من الحياة خارج دائرة حماية جون قرنق. كان أباً لعائلة، بزوجة وأطفال أحبهم كثيراً. كان زوجاً وأباً، وقبل أي شيء، كان مسؤولاً عن حماية جون قرنق من الأعداء الذين سلحوا أنفسهم جيداً ليلاً؛ فيما كانوا يتنكرون نهاراً كأصدقاء. جلس جمعة علي إلى جوار جون قرنق حتى في لحظة الموت.
وقد عُثر على جثته متناثرة بين قطعة معدنية وتم انتزاع أجزاء منها بين الشقوق الصخرية. أحب جون قرنق وعمل على حمايته بكل ما لديه من قدرة. تقول النظرية التي لا تستند إلى البراعة والحذاقة أنه قال شيئاً لجون قرنق الذي بدروه "حذره" ألا يقول أياً كان ما قاله.
ثُمَّ زُعِمَ أن جون قرنق أشار إلى جمعة علي، لكن هذا الزَعم كان إيحاءً لا أساس له سوى التشهير وإلصاق تهمة بِرَّجُلِ تخلى عن كل شيء وكَرَّسَ حياته لحماية الدكتور قرنق. ولتوسيع دائرة الطبيعة الخارقة للنظرية، تم إضافة تلفيقات تُوحي بأن عائلة جمعة علي قد تم تعويضها بشكلٍ كبير عن "التزامه" بعد وفاته، كإشارة تلميحية إلى مؤامرة أعمق. وإذا تم تفكيك هذه النظرية، فسيتم وضع الفرضية على البديهية التي أطلق بها جمعة علي النار على جون قرنق. ولكن يا ترى ماذا حدث بعد ذلك؟ ماذا فعل المقدم أمات ملوال؟ هل وقف هناك مكتوف اليدين بينما كان جون قرنق يتلقى رصاصات قاتلة؟
إذا كانت النظرية صحيحة، فماذا كان رد فعل باقي الضباط الصغار: دينق مجوك وأوبوكي أوبور وميان دينق؟ لم تكن هناك مجالاً "لاِرتشائهم للقتل". إذا كان جمعة علي قد أضحى مارقاً، فماذا كانت الوحدات الأوغندية تنتظر؟ كانت لديها تعليمات لحماية جون قرنق كضيف. إنَّ كثيرٌ مِن القُرَّاء والمُتَكَهِّنُون يمكن أن يخدعهم الألقاب الوظيفية للأوغنديين السبعة، لكنهم كانوا جنوداً محترفين في المقام الأول، ثم بعد ذلك أي شيء آخر.
ثالثًا، كان كلاً من بيتر نياكايرو وبول كييمبا في كابينة القيادة مغلقة الباب بشكل تام. إن حدوث أي فوضى كان سيؤدي إلى إجراء مكالمة طارئة، لكن لم تكن هذه هي المسألة. لا يوجد تقرير رسمي أو غير رسمي يُؤكد إجراء مكالمة الطوارئ؛ لأنه لم يكن هناك سبباً لذلك، ولم يكن هناك وقت لحدوث ذلك.
من الضروري الآن أن نلاحظ أن الخطأ الذي يفترض بأنه ارتكبه الطيار، ونظرية التصريح غير الكافي ونظرية الحرس المحتال، يمكن استبعادها لسبب نقاط ضعف كثيرة. تم تطوير نظرية خطأ الطيار لكونها النظرية الجديرة بالثقة أكثر. ومع ذلك، تم كُلُّ ذلك في نطاق محدود دون النظر إلى عوامل أُخرى، بما في ذلك تاريخ سجل الطيار في السابق والذي لا يشوبه شائبة. كانت النظرية الثانية غير رسمية، ولكنها رأي شائع لدى الكثيرين حين أصبح واضحاً أنهم لا يستطيعون فهم كيف فقدوا زعيمهم. لم يتمكن الآخرون الذين ذهبوا إلى أبعد من ذلك واقتربوا من الحقيقة من الإشارة بوضوح إلى أفضل طريقة للوصول إلى التفاصيل، لكن الحقيقة كانت تحدق إليهم في وجوههم.
كان رحيل قرنق نبأً حزيناً، وقد تسبب في إثارة أعمال الشغب في البلدات والمدن في كل أنحاء البلاد. كان بالنسبة للكثيرين نهاية عالمهم الذي عرفوه. تعاظم عدم ثقتهم بالجبهة الإسلامية عشرة أضعاف، وفي يوم الاثنين الموافق الأول من أغسطس، بعد اكتشاف الجثمان، سمع الملايين بالنبأ عند الغسق. كانت هناك تكهنات حول هبوط المروحية في بعض المواقع التي لم تُفسح عنها في جبال إماتونق، ولكن بحلول الليل، أصبح الأمر واضحاً أن ابنهم الحبيب قد لقي حتفه في المروحية المشؤومة. انغمسوا في النحيب وألقوا باللوم على الحُكُومة السُّودَانِيَّة الماكرة الخبيثة المتواطئة، لكنهم لم يدركوا حجم المؤامرة وتورط أولئك الذين كانوا على وشك أن يأتمنوهم إدارة شؤون بلادهم.
أصبح سلفا كير خليفة قرنق، محققاً بذلك رغبة أمد طويل في أن يكون له صَوْت في صفوف الحركة الشعبية، ليس لأنه لم يكن لديه أي صوت؛ ولكن بقدر ما كان قلقاً، إذ جرى عدم إعطائه مكانه المستحق منذ فترة قصيرة. لم يعد الآن الرَّجُلُ الثاني في القيادة، بل كان المسؤول الأول؛ ولكن كانت هناك مشكلة. كانت اِتِفَاقِيَّة السَّلَام الشَامِل والبيان الاستراتيجي الإطاري الآن في يديه بالكامل، كما هو موضحٌ إلى حدٍ ما في محضر اجتماعات رومبيك، ولم يكن أبداً مشاركاً فاعلاً في تحضير أيٍّ من الوثيقتين.
قبل أشهر من توقيع السَّلَام، كان كير ينتابه شعور بالإِرتعاب والتَوَجُّس حول ما كان يتشكك فيه أن يكون حيلةً ذكيةً لإبعاده عن منصبه كرَّجُل ثاني في القيادة. وقد نأى بنفسه عن حضور ورش عمل القيادة التي تناولت البنود الرئيسية والتغييرات التي أُجريت في وثائق المؤتمر العام الذي انعقد في العام 1994م. كان كير بعيداً وغريباً عن كُلٍّ مِن اِتِفَاقِيَّة السَّلَام الشَامِل والبيان الاستراتيجي الإطاري. ولزيادة الطين بِلَّة، قام بحل اللجنة الاقتصادية، الهيئة التي كتبت البيان الإطاري للعمل بتوجيه من الدكتور قرنق.
تولى السيطرة الكاملة على الحُكُومة وحاول إعادة إنشاء الحزب وإدارة البلاد على طريقته. جرى الحداد على قرنق وَدُفِنَ في ضريحٍ سُمي باسمه، ثُمَّ تم تشكيل الحُكُومة؛ لكن جوبا لم تهدأ، إذ لم يعلم أحد ولو بقليل أن خطة الاغتيال في الأصل جرت تدبيرها وتنفيذها في دولة أوغندا المجاورة في شارع لويرو بعنتيبي.
بدأ والتر بوكينيا شركة أولستار (Allstar) لوقود الطيران في العام 1998م، في الوقت الذي كان من الصعب فيه الحصول على قروض في أوغندا، ولم تنجح أولستار في مرحلة البداية، بل تعثرت حتى تحايل والتر على قرض من ابن عمه البعيد في نهاية العام 2001م. لم تكن زوجته مريم حريصة على إنفاق المال على أعمال وقود الطائرات عندما كانت هناك مشاريع أكثر قابلية للإدارة ومنخفضة التكلفة ذات عوائد مادية أعلى. ولكن والتر اتخذ قراره بحسب مريم. لقد أحب انجذابه للطيران ولم يثبط التحديات عزمه.
لم يكن والتر يُدِيرُ نشاطاً تجارياً أبداً قبل شركة أولستار، وكان يخشى مثل جميع رجال الأعمال المبتدئين، من احتمالات الفشل. وحين حصل الزوجان على القرض، كانا قد أنفقا كل مدخراتهما وكسبا مزيداً من المال من بيع مزرعة العائلة في نياكاباندي وكيسورو في وسط أوغندا. لم يكن النشاط التجاري رابحاً في كيسورو. كان المطار الصغير يفتقر إلى مقومات الهبوط والمساعدة، وكان طلب وقود الطائرات نادراً.
في شهر مارس عام 2001م، انتقل الزوجان إلى عنتيبي واستأجرا منزلاً من الطابق الأرضي في شارع لويرو. وجد والتر منشأةً تجاريةً يستئجرها بسعر معقول خلف صف من المساحات المكتبية الفارغة في فيكتوريا مول. أعتقدت مريم بأنها فكرةً غبية أن يكون لديهم منشأة يستخدمونها كمستودع لوقود الطائرات بعيداً عن مركز البيع. بعد ثلاثة أشهر من الدفع مقابل مساحة محدودة دون وجود عملاء لإحداث التوازن في المبالغ النقدية المصروفة، أنهى والتر عقد الإيجار. وجد والتر مكتباً على شارع بوكو، وهو امتداد لطريق النفق الذي يمر بمدخل بحيرة فيكتوريا ويربط شمال شرق بالطريق المؤدي إلى كمبالا.
قامت مريم بالتسجيل واحتفظت بالأوراق، وأدار والتر ناقلة الوقود من مستودع في كمبالا. كانت عملية تخزين وقود طائرات (A1) الثمينة في الخارج مكلفًا للغاية، وكان بناء منشأة تخزين تحت الأرض باهظاً. اتصل والتر بالموردين في كمبالا مقدماً ودفع ثمن البضائع، وتوجه إلى المستودع قبل نفاد الوقود. كان هناك لاعبون آخرون لديهم المزيد من المال ويمكنهم شراء إمدادات الشهر بأكملها إذا أرادوا ذلك، لكن والتر كان يحمي نفسه بعقد طويل الأجل بما لا يقل عن ألف لتر من الوقود شهرياً.
في معظم فترات العام 2001م، عمل والتر على إنماء أولستار، حيث وفر الوقود في الوقت المحدد للمروحيات والطائرات الخفيفة في المطار المحلي. في بعض الأحيان، كان على أساس التخصيص. كما حصل على عدد قليل من العقود قصيرة المدى لطائرات الهليكوبتر العسكرية المتجهة إلى قواعد العمليات في شمال أوغندا والطائرات السياحية التي تسافر إلى حديقة كيبالي الوطنية عبر مطار كاسيز. كان عملاً قائماً على الثقة، وقد حصل على أكثر من نصيبه العادل من ذلك. ويمكن أن تنهار تلك الثقة تحت وطأة انعدام الثقة والوعود الكاذبة، وقد تجنب عائلة بوكينيا ذلك بأي ثمن.
لكن الأمور تغيرت في العام 2002م. كانت انتخابات يونيو 2001م لحظة فارقة بالنسبة لأولستار. فقد كُلٌّ مِن والتر ومريم الثقة في الحكومة الحالية. وقالت مريم إنه كان قراراً مشتركاً أن يصوتا لأغري أووري غير المعروف والذي لا يحظى بشعبية. كان أغري أكاديمياً، ولكنه سياسياً كان يُكافح في ظروف غير مؤاتية سياسياً. تم حظر الأحزاب السياسية، وكان من المتوقع أن يقوم كل مرشح يُرشح نفسه لمنصب الرئاسة أن يقوم بذلك بمفرده دون الحاجة إلى مناظرة سياسية قوية بمشاركةٍ شعبية. جاء أغري في المركز الثالث بعيداً عن الرئيس موسيفيني وكيزا بيسيجي. كان من المفترض أن يكون الاقتراع سرياً، ولكنه لم يكن كذلك.
تلقى والتر رسالة بعد ذلك بأيامٍ قليلة، من هيئة الطيران المدني الأوغندية، تفيده ببعض "الحقائق" حول الوضع غير المستقر لخدماته. وتم إلغاء رخصته الخاصة بخدمات الطيران في مواجهة مجموعة من اتهامات متنوعة من التناقضات في عملياته، "حول مسائل تتعلق بالسلامة". ذهبت عائلة بوكينيا إلى هيئة الطيران المدني للاستفسار عن الأمر، ولكنه إلتقى بأشخاص إما كانوا غير مبالين بأمره أو لم يقدموا له مساعدة. استمرت القضية لأشهر حتى تخلوا عنها، وباعوا ناقلة الوقود وخططوا بعد ذلك للانتقال إلى بلدتهم.
تلقى والتر مكالمة مِن رَّجُلٍ عَرَّفَ نفسه على أنه مايكل سالي. لم يلتقِ والتر أبداً بسالي، لكنه كان يعرف عن والتر وشركة أولستار وعن الفواق التجارية الأخيرة. رتبوا للقاء في مقهى في مولٍ تجاري. كان سالي عميلاً في المخابرات العسكرية، وقد سأل عما إذا كان والتر يُرِيدُ وظيفةً. تحير والتر واستفسر عن نوع العمل الذي يُعرض عليه. قال سالي إنه يريده أن يعمل في عنتيبي، في مستودعٍ خاص يخدم المروحيات الرئاسية. لم يستغرق والتر وقتاً طويلاً حتى يستنتج أن سالي جاء إليه بأكثر من مجرد عروض عمل.
سأل والتر سالي إذا كان لديه خيار. قال سالي إنه لديه خياراً، لكن والتر لم يصدقه. قال لسالي إنه بحاجة إلى التحدث إلى زوجته أولاً عن الوظيفة، وربما يجب أن يكون لديهم اجتماع ثانٍ. لكن ذلك كان اقتراحاً لا طائل من ورائه. لاحظ والتر أن سالي عديم الصبر، وأن طلبه بعقد اجتماع ثانٍ يعد مضيعاً للوقت بالنسبة له. ولذلك طرح السؤال الأخير: لماذا أنا؟ وهل لهذا علاقة بإلغاء هيئة الطيران المدني لرخصته؟ أجاب سالي عن السؤال الأول. كان لوالتر المهارات المناسبة لشروطهم. رفض سالي الإجابة عن السؤال الثاني، قائلاً إنها مسألة تخص هيئة الطيران المدني. تساءل والتر في نفسه ما إذا كان سالي يعرف لصالح مَنْ صَّوَّتَ في الانتخابات، لكن طرح ذلك السؤال مباشرةً، كان سيكون أمراً ساذجاً. من الواضح أنه كان يعرف. وإذا لم يعرف، فلن يجري بينهما ذلك الحديث. كانت المفارقة هي أن والتر لم يستطع أن يفهم لصالح من يعمل سالي بالضبط.
ماتت أحلام المشاريع التجارية لوالتر بوكينيا في شهر أبريل عام 2002م، وهو الآن موظف في جمهورية أوغندا، يعمل في تزويد طائرات الهليكوبتر التابعة لقوات الدفاع الشعبية الأوغندية حين تغدو وتروح إلى شمال البلاد. لم يِقُمْ قط بتزويد مروحيات (MI-172) التابعة للرئيس موسيفيني. كانت الوظيفة بعيدة عن كونها وظيفة مثالية. كان دائماً يتواجد في مضخة المستودع في انتظار هبوط طائرة الهليكوبتر التالية. بعد أسابيع من بدء العمل، اتصل بسالي، لكن لم يكن هناك مجيب. انتظر رداً لمكالمته. مضى يومٌ ثم يومان ثم ثلاثة أيام بلا رد لمكالمته. استمر والتر بالاتصال بسالي. وبعد أسبوع، تلقى اتصالاً من سالي، وتحدثا معاً. لكن مريم اعتقدت أنها لم ترَ زوجها كالحاً ومُتَجَهِّم الوجه للغاية حينما عاد إلى المنزل في تلك الليلة. أخبرها والتر أن سالي جاء إليه، لكنه قال أن (مايكل سالي) ليس اسمه، وأنه لا ينبغي أن يناديه به إطلاقاً.
أعطى سالي أوامراً لـوالتر ألا يدعوه سالي مجدداً وألا يتصل به هاتفياً أيضاً. سأل كذلك والتر إذا حصل على راتبه الأول. قال والتر انه حصل عليه. كانت تلك آخر مرة تحدث فيها والتر مع مايكل سالي. لم يعرف والتر إلى مَن يتحدث، لكنه لم يكن بحاجةٍ لمزيدٍ من الاتصالات. كان الراتب جيداً، أما عدد الطائرات التي يزودها بالوقود فلا يهم. كان سعيداً لأنه لديه المال لرعاية مريم وبناء الأسرة.
لم يترك والتر أبداً وظيفته التي كانت خامة وغامضة في أفضل أحوالها. استمر فيها لمدة عامين آخرين حتى أواخر العام 2004م، شهر نوفمبر تقريباً. ثُمَّ قِيْلَ له إنه سيصرف أموالاً نقدية من سُّودَانِيَّاً "ثرياً" (سُّودَانِياً جَنُوبِياً على الأرجح)، بدلاً عن صرفها من خلال كشف رواتب قوات الدفاع الشعبية الأوغندية التي اعتاد عليها. ظن الزوجان أنه أمرٌ غريبٌ، ولكن عندما اتصل الرَّجُل الغامض بوالتر وسلمه مظروفاً سميكاً، لم يكن هناك سبباً يدعو للشك فيما يتعلق بالوضع المالي للرَّجُل. كان من الواضح أنه رجلاً مزدهراً وميسور الحال. لكن السؤال الذي كان يدور في ذهن والتر لم يتم إجابته، ولن يتم الإجابة عنه أبداً.
في صباح يوم السبت الموافق 30 يوليو، تلقى والتر مكالمة من (السُّودَانِي) لمقابلته في موعدهم المعتاد عند الكشك في زاوية على شارع لويرو للحصول على راتبه لشهر يوليو. وبحسب قول مريم، تم تسليم المظروف لوالتر كالعادة، ولكن بدلاً أن يعود إلى المنزل، أخبره الرَّجُلُ أن سالي ينتظره في المطار، وأن والتر سيتصل بها. كُلُّ ما كان على والتر فعله هو أن يكون حاضراً. وبعد ساعة، اتصل والتر بمريم وأعلمها بالتغيير في الخطة. كان ذاهباً إلى العمل في ذلك السبت لأن ضيفاً مهماً كان يدخل ويخرج من عنتيبي. لم تكن مسؤوليته إطلاقاً أن يقوم بتزويد المروحيات الرئاسية بالوقود، ولكن مَن كان مسؤولاً عن ذلك تغيب عن العمل في ذلك اليوم. اعتقد والتر أنه كان يُكافأ لتزويد المروحية وتحميل )براميل الوقود( في الخزينة الخلفية. لم يتحقق ما إذا كانت تلك وقوداً، بل فعل ببساطة ما قِيْلَ له.
كانت تلك آخر مرة تسمع فيها مريم بوكينيا من زوجها. بعد الظهر، صعد جون قرنق على متن الطائرة (MI-172 605) من بلدة رواكيتورا. استغرق والتر نصف ساعة على الأقل لتزويد المروحية بالوقود وإضافة براميل الوقود الأُخرى التي لم يهم محتواها جنود قوات الدفاع الشعبية الأوغندية ولا والتر نفسه فحصها. بعد أن أقلعت المروحية عند الساعة (5:02) ودقيقتان مساءً. أبلغ والتر زوجته أن دراجته النارية قد تعطلت وأن سالي تطوع بتوصيله. عندما لم يحضر والتر، اتصلت مريم بكل شخص تعرفه وسألت عما إذا كانوا قد رأوه.
وبعد مرور (14) عاماً، لا تزال مريم بوكينيا لا تعرف مكان زوجها. لقد فقدت الأمل نهائياً في البحث لمعرفة ما حدث له وما إذا كان سالي يعرف ذلك. هل قتل سالي والتر بوكينيا للتستر على وفاة جون قرنق؟ إذا كان هذا هو الحال، فإن حل لغز اغتيال جون قرنق يكمن في تحديد مكان بوكينيا، وإذا مات، فمن الذي قتله؟ يعرف (الخائن الفُلان الفُلاني) وهو مسؤول حكومي وجزء من أعلى مستويات الحكومة في جوبا، أكثر مما يُرِيدُ الاعتراف به. من الممكن السير في الينابيع السياسية، ولكن نادراً ما يدعم هذا ثقل الأدلة الواضحة والتدقيق.
يكمن الجواب لهذا البحث والتنقيب الطويل عن الإجابات والوصول إلى ختامه وخلاصته في بيانات الرحلات لشركات الطيران التي حطت طائراتها في مطار عنتيبي بين الساعة السابعة صباحاً والثالثة ظهراً يوم السبت الموافق 30 يوليو. وإجمالاً، كانت هناك طائرتان إثيوبيتان دريملاينر وطائرتان من طراز بوينج تشغلهما الخطوط الجوية القطرية، أقلعت إحداهما مباشرةً من الدوحة وأتت أُخرى مِن نيروبي. كما كانت هناك طائرة تشغلها خطوط مارسلاند الجوية، وصلت صباحاً مِن الخرطوم عبر جوبا. كانت هناك شركات طيران أُخرى رفضت التعاون معنا في توفير المعلومات، ولم تتعاون هيئة الطيران المدني الأوغندية في هذا الصدد أيضاً.
لدى شركات الطيران هذه كلاً من اسم (الخائن) وأغراض زياراته المستمرة في غضون اثنى عشر يوماً في تلك الأشهر الأربعة من شهر مارس إلى يوليو 2005م. لتحديد المعلومات، أُعطيت الأولية عندئذٍ للرحلات القادمة من الخرطوم ونيروبي وأديس أبابا ومدينتي دبي وأبو ظبي ويحتمل أن تكون لديها اسم (الخائن الفُلان الفُلاني). والإستراتيجية هنا ليست البحث عن الأسماء الشائعة لأنها قد تكون مضللة، ولكن لتقييم مدى تكرار ظهور أسماء الركاب.
مِن جانبها، وعلى ضوء هذه المعلومات، ينبغي على حُكُومة جَنُوب السُّودَان، أن تُطَالِبُ شركات الطيران المدرجة بتسليم بيانات رحلاتها – والتي عادةً ما لا تسلمها شركات الطيران طواعيةً – وفتح تحقيقاً جديداً يبدأ بتقييم عدد المسافرين من يوم 15 مارس 2005م حتى 30 يوليو 2005م. ولتحديد النطاق والحفاظ على عمق ودقة المعلومات المستهدفة، تعتبر عطلات نهاية الأسبوع الثمانية من تلك الأشهر الأربعة حاسمة. إنها الخطوة الأكثر منطقية التي ينبغي اتخاذها إن لم تكن لدى الحكومة شيئاً لاخفائه.

ملاحق الصور:

الملحق (B) .. مسار رحلة الطائرة (MI-172 AF 605) الساعة (5:02) – (6: 54) مساءً 30 يوليو 2005م.
الملحق (A) .. رسم اسكتش (تصويري) خارجي لطائرة (MI-172 AF 605) وتفاصيل داخلية مقدمة من استانيسلاف غولوبيف، المتخصص في المروحيات الروسية. توضح التفاصيل الداخلية حالة المروحية في الوقت الذي تحصلت عليها قوات الدفاع الشعبية الأوغندية ليستخدمها الرئيس. حتى تاريخ 30 يوليو 2005م، لم يتغير شيء ولم يكن هناك دليل على أنه تم تعديله.
1.
2.
3. المقاعد الأمامية مقابلة لبعضها
4. المقعد الرئاسي الذي استخدمه الدكتور قرنق في اليوم المشؤوم
5. مشهد أفضل للمقاعد في صورة رقم (3)
6. المشهد الخلفي للهليكوبتر


ترجمة وتحرير: دينقديت أيـوك
يونيو 2020م


dengditayok88@gmail.com

 

آراء