إن جرد ختامي لمحصول الحركة الإسلامية وكسبها العام، يظهر حالة التمركز حول الأنموذج التنظيمي الهرمي مركزي التخطيط مركزي القيادة والمتمركز هو بدوره حول النموذج السياسي بشدة، والذي كانت نتيجته هي تحقيق غايات الوجود السياسي الفعال، وتمكين الحركة الإسلامية "سياسياً" من الوصول إلي السلطة بطريق الغلبة والشوكة والحفاظ عليها بطريق التعبية والعمل الجبهوي والتحالف والمناورة ونحو ذلك.
بيد أن ذلك كان له انعكاسه السلبي علي نماذج الحركة في الفكر والاجتماع والثقافة والاقتصاد، كونها المجالات التي كانت نماذجها النظرية شبه غائبة، ولم تكن استراتيجيتها إلا وسيلة ضمن وسائل عدة لدعم النموذج السياسي، ومصداق ذلك تظهره ثمرة علاقات الحركة بأنظمة الحكم كسمة سياسية فارقة وبارزة تسم السلوك العام الذي انتهجته الحركة الإسلامية، عبر تاريخها المفعم بزخم الأحداث والوقائع السياسية الكثيرة. في مقابل قلة من الخبرات في العمل الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والعمل في أوساط المرأة ونحوها، وهي وعلى قلتها إنما كانت خبرات وبرامج وسياسات خادمة ومساندة لأنموذج العمل السياسي ورافده له بأنواع المساعدة المطلوبة في كل حين.
هنا تبرز عبرة إشكالية الحركة مع أصولها النظرية التي ترتكز عليها، كون إن الحركة في نظرتها العامة كانت ذات تأثير على قطاعات اجتماعية مثل الطلاب والمرأة والمتعلمين ونحوهم، إلا إن هذه القطاعات وجهت جهودها نحو الفاعلية السياسية، مما يؤشر على قصور نظري وتنظيمي في تصور معالم مشروع الإصلاح المرجو لتحقيق صلاح الإنسان وبناء المجتمع الصالح، بالرغم من الوجود والمساهمات التنظيرية في مجالات الأدب والفكر والفنون وقليل من الاقتصاد.
لتكون العبرة العامة هي ضرورة تجديد خطاب وعلاقات الحركة الإسلامية، والاتعاظ على المستوي الفكري بالنظر إلى الإسلام والمجتمع السوداني في شموليه متطلباته الفكرية والثقافية ولاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في سياق واقع حاجاته الاجتماعية المتجددة باستمرار، بعد أن كانت عناية الحركة محصورة في الجوانب السياسية والقانونية.
وشرط ذلك كله هو إطلاق سراح الحركة الإسلامية من "اسر الدولة" في المؤتمر الوطني ومن "اسر الشيخ الترابي" في المؤتمر الشعبي، لان طرح الحركة لنفسها، بنسختيها السابقة أو الراهنة "المنقسمة على نفسها" سيكون محاولة تاريخية يائسة، تعمد لاستعادة دور جديد في مستقبل السودان والعالم بآليات قديمة.
ولذلك فانه لا خلاص من حالة الإرباك والشلل والشك والتناقض الراهنة، إلا بإعادة تعريف الحركة من ناحية، وإعادة تعيين رؤيتها ومقاصدها وتوضيح طبيعة علاقتها بالمجتمع والدولة استناداً على مبدأ التدافع لا منطق المغالبة. وابتداءً بإمكاننا أن نعطي الحركة الإسلامية تعريفاً مفتاحياً فحواه: إنها عبارة عن مجتمع مسلمين ذو طبيعة تعاقدية وهو مجتمع منظم يسعي للإصلاح الاجتماعي، عماده اجتماع من المسلمين، يقوم على التعاقد والتحالف الحر الارتضائي بينهم، يكونون تحالفاً وتواثقاً اجتماعياً واسعاً ومنفتحاً على الناس على معاني الإصلاح والتواثق على الإيمان بالله، كونها المعاني القرآنية المطلقة والكلية والمتجاوزة، التي تملي علينا ضرورة الاستهداء بأبعاد الرؤية الإسلامية المستوعبة والمتجاوزة في آن لمدافعات الواقع السوداني والإسلامي الحضاري، كما تملي علينا واجب بزل الجهد الجماعي والعمل المشترك وخلق الوعي الجمعي، والإرادة المتضامنة، والقيادة المختارة، والتقدير العالم، والخطة العالمة الآجلة باجل، وأدواتها في ذلك ولاية إصلاحية تعاقدية تتوسل بالخطة المضروبة والأجل المسمى إلى تحقيق مقاصدها الإصلاحية، فتنتقل بمعاني الإيمان بالله تعالي وتقواه من حيز الخطاب المقدس إلى صفحة الواقع التاريخي.
ومفتاح ذلك – ومن الناحية الإجرائية- التنادي لعقد مجلس شورى تحضيري تأسيسي، كضمانة إجرائية ضرورية لإعادة بناء الحركة المتجددة، بناءً تتكامل فيه أبعاد الشورى والفاعلية معاً، فيكون هو جهة التنظيم وهيئة الإشراف العليا علي إعادة البناء، أما العهد إليه بابتدار الإصلاح وإعادة البناء فيرجع لارتباط هكذا نظام بتحقيق المقاصد والمكونات الإصلاحية في مجموعها، فضلاً عن سعة رؤيته في الإشراف على الولايات والقطاعات الحركية المتجددة، وهو يصدر قراراته بالإجماع، ومهمته الإشراف والرقابة على تأسيس جميع شئون وولاية القطاعات الإصلاحية والمحليات مباشرة، سواء بالرجوع إلى أجسام الحركة الإسلامية المتكاثرة الحاضرة في الحاضر أو بدونها، ثم ما يلبث هذا المجلس وبعد انتهاء عهد التأسيس أن يتحول إلى مجلس منتخب من جمهور الحركة في مجموعها، ويتولى رئاسته أمين عام منتخب من جمهور الحركة في مجموعها، ويضاهي عدد عضويته عدد ولايات العمل الإسلامي كما تنتهي إليها المداولات، أو كما قدمنا مقترحنا لها في دراستنا "الحركة الإسلامية : مشروع لم يكتمل بعد" والصادر عن مركز ركائز المعرفة ، الخرطوم ، 2015م، فيتولى عندئذ الإشراف والتنسيق بين سائر شؤون الولاية العامة بأكملها، وتسرى قراراته مباشرة على جميع القطاعات التابعة للولايات الحركية العامة المختلفة.
أما ما نراه من تجديد للمسمى العام، لهكذا إطار حركي متجدد، يتبني نهج الإصلاح بعد التأسيس، ويستند على مرجعية الإسلام، التي هدتنا إلى تسميتها حكمة النبوة الإبراهيمية، التي سمتنا المسلمين، وفي ذلك حتى نكون شهداء على الناس ويكون الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم شهيد علينا، لاسيما بعد أن طال الاتهام الإسلام بالانغلاق لاستبداد النظام الراهن، ولان هذه المعاني المرجوة مما لا يحتويها معني مفهوم "الجماعة" أو "الحزب" أو "النخبة"، بل هي من معني حركة عامة وشاملة في مجالات الحياة الاجتماعية المختلفة، فلا بد للمسمى أن يعبر عن معني الحركية والديناميكية، كما لا بد له أن يعبر عن معنى الإصلاح ومشروع الإصلاح والنهضة