أقوى من الدول: الملياردير كدولة

بقلم: إدوارد كورنيليو

في زمنٍ تتقلص فيه سلطة الدول وتتضخم فيه ثروات الأفراد، يبرز كتاب “أقوى من الدول” للصحفية الفرنسية كريستين كيرديلان كتحقيق استقصائي جريء في قلب التحولات الجيوسياسية للرأسمالية الرقمية. عبر تحليل نفوذ ستة مليارديرات — إيلون ماسك، مارك زوكربيرغ، لاري بيدج، سيرغي برين، جيف بيزوس، وبيل غيتس — يكشف الكتاب كيف تحوّلت الثروة الفردية إلى سلطة سيادية تتجاوز الحدود، وتعيد تشكيل وظائف الدولة نفسها.

لم تعد الدولة هي الفاعل المركزي، بل رأس المال الفردي الذي يحتكر أدوات الإنتاج، المعرفة، والصحة، ويعيد تشكيل البنية الرمزية للمجتمع. إيلون ماسك، عبر Starlink وSpaceX، يملك أدوات الإنتاج السيادي نفسها التي كانت حكرًا على الدولة: الاتصالات، الفضاء، البنية التحتية. مارك زوكربيرغ يسيطر على تدفق المعلومات، أي على الوعي الجمعي، بينما يتدخل بيل غيتس في الصحة العالمية، أي في إعادة إنتاج القوى العاملة، وهي وظيفة مركزية للدولة الحديثة.

هؤلاء الأفراد لا يملكون فقط الثروة، بل يحتكرون الوظائف الحيوية التي كانت تُعرّف الدولة: التعليم، الصحة، الإعلام، البنية التحتية، وحتى السياسات الفضائية. إنهم لا يحكمون فقط عبر المال، بل عبر المنصة، الخوارزمية، والرمز.

في حالة بيدج وبرين، نرى كيف أن البنية الرقمية (Google، الذكاء الاصطناعي، البيانات) تُستخدم لإعادة تشكيل البنية الرمزية عبر مشاريع مثل Calico (الخلود، الترانسهيومانية). هذا يُعيد إنتاج أيديولوجيا ما بعد الإنسان، حيث يُستبدل العامل البشري بالآلة، ويُعاد تعريف “القيمة” خارج علاقات العمل التقليدية. الاستغلال لا يختفي، بل يُعاد تشكيله: من استغلال اليد العاملة إلى استغلال البيانات الحيوية والوعي الجمعي. التحوّل نحو الترانسهيومانية ليس مجرد حلم تقني، بل مشروع لإعادة إنتاج الهيمنة خارج الزمن البيولوجي، حيث يُصبح الخلود نفسه سلعة، ويُعاد تعريف الإنسان ككائن قابل للترقية، لا للمساواة.

أمازون، بدورها، تُعيد إنتاج منطق السيطرة عبر استغلال العمال في سلاسل التوريد، واحتكار السوق بخوارزميات تسعير وتوزيع، وتحويل كل عملية شراء إلى تراكم بيانات تُستخدم لاحقًا في توجيه الاستهلاك. أمازون ليست مجرد شركة، بل بنية تحتية بديلة للدولة، حيث يُعاد تعريف السوق كمنصة خوارزمية، ويُصبح العامل مجرد وحدة قابلة للاستبدال، تُراقب وتُقاس وتُستغل في الزمن الحقيقي.

بيل غيتس لا يمارس فقط سلطة اقتصادية، بل سلطة حيوية عبر التحكم في الصحة العالمية. مؤسسة غيتس تُعيد تعريف الصحة كسلعة، وتُخضعها لمنطق السوق. في هذا السياق، اللقاح ليس مجرد أداة طبية، بل أداة سيادية تُستخدم لتحديد من ينجو ومن يُهمّش، ومن يُدمج في السوق ومن يُستثنى منها.

مارك زوكربيرغ لا يبيع منتجًا، بل يبيع الوعي. عبر منصات Meta، يُعاد تشكيل الرأي العام، وتُعاد هندسة الانقسامات الاجتماعية، وتُستخدم البيانات الشخصية كأداة للتوجيه السياسي والثقافي. الانتخابات لا تُعبّر عن إرادة شعبية، بل عن خوارزميات توجيه تُعيد تشكيل الرغبة والاختيار. لم تعد السيطرة تكتفي بالإنتاج، بل تُعيد تشكيل الوعي نفسه، وتُعيد إنتاج القبول الجماهيري للهيمنة.

في المقابل، تُظهر الصين نموذجًا مختلفًا، حيث لا تزال الدولة تُمارس دورها كأداة ضبط. الرقابة على جاك ما تُعيد تأكيد أن الدولة يمكن أن تُقاوم الانزياح نحو سلطة فردية، لكنها تفعل ذلك ضمن منطق قومي، لا تحرري. الرقابة ليست مقاومة للهيمنة، بل إعادة هندستها ضمن منطق سيادي يُعيد إنتاج السوق كأداة للسيادة، لا للمساواة.

في هذا السياق، تُطرح أسئلة جوهرية: هل نحن أمام نهاية الدولة كما نعرفها؟ أم أمام إعادة تشكيلها كواجهة لسلطة فردية؟ في الواقع، الدولة لا تختفي، بل تُعاد هندستها لتخدم مصالح الأفراد المسيطرين، وتُصبح أداة تنظيم لا مساءلة. Cloud Act، الذكاء الاصطناعي، الصحة الرقمية، كلها أدوات تُستخدم لإعادة تشكيل وظائف الدولة. التعليم، البيئة، البنية التحتية، تُصبح مشاريع فردية، لا سياسات عامة. السيادة تُصبح غلافًا قانونيًا لسلطة اقتصادية فردية تُمارس وظائف الدولة دون تمثيل.

في القرن التاسع عشر، كانت أدوات السيطرة هي المصانع، الأراضي، والعمالة اليدوية. اليوم، أدوات السيطرة هي البيانات، الخوارزميات، والوعي الجمعي. العامل لم يعد في المصنع، بل في الشبكة. الاستغلال لم يعد جسديًا فقط، بل معرفيًا ونفسيًا. فائض القيمة يُستخرج من التفاعل، لا من الإنتاج المادي.

الخاتمة في كتاب كيرديلان تُقترح كدعوة لتنظيم، تفكيك، ومساءلة. لكن هذه الحلول تبقى إصلاحية، لا جذرية. الحل لا يكمن فقط في الضرائب أو الشفافية، بل في إعادة تعريف الملكية نفسها: من ملكية فردية لأدوات الإنتاج الرقمي إلى ملكية جماعية تُعيد للسيادة معناها الحقيقي. من خوارزميات احتكارية إلى منصات تُدار جماعيًا. من استغلال البيانات إلى حماية الوعي كحق عام. الذكاء الاصطناعي، الصحة، التعليم، يجب أن تُعاد إلى المجال العام، وتُدار كسلع جماعية، لا كاستثمارات فردية. هذا يتطلب ليس فقط أدوات قانونية، بل أدوات رمزية، ثقافية، وجمالية تُعيد للمعنى مكانته، وللجماعة صوتها، وللمستقبل احتماله.

التحليل لا يكتفي بوصف الهيمنة، بل يسعى إلى كشف تناقضاتها الداخلية. فائض القيمة الرقمي يُنتج هشاشة اجتماعية: عزلة، قلق، استهلاك مفرط، وانعدام المعنى. السيطرة على الصحة تُنتج مقاومة شعبية: رفض اللقاحات، نظريات مؤامرة، وانعدام الثقة. احتكار المعلومات يُنتج انفجارًا في البدائل: منصات مفتوحة، تشفير، مقاومة رقمية. هذه التناقضات تُشكّل أرضية للمقاومة. ليست المقاومة هنا مجرد احتجاج، بل إعادة تشكيل للوعي، للمنصة، وللعلاقة بين الفرد والجماعة. هذه اللحظة تُشبه لحظات تاريخية سابقة: صعود البرجوازية في القرن التاسع عشر، أو صعود الشركات متعددة الجنسيات في القرن العشرين. لكن الفارق الآن أن الفاعل لم يعد طبقة، بل فرد يحتكر طبقة كاملة.

في تحليل رمزي، يُمكن قراءة الملياردير كرمز جديد للسلطة المطلقة. لم يعد الملك أو الإمبراطور هو من يُجسّد السيادة، بل رجل أعمال يملك خوارزمية، منصة، أو لقاح. هذا التحوّل يُعيد تشكيل المخيال السياسي: إيلون ماسك يُقدَّم كإله تكنولوجي، لا كمستثمر. زوكربيرغ يُقدَّم كمهندس للرأي، لا كمحتكر. غيتس يُقدَّم كحاكم صحي، لا كملياردير. هذا التمثيل الرمزي يُعيد إنتاج الهيمنة عبر الأسطورة، ويُحوّل السلطة الاقتصادية إلى سلطة ثقافية تُمارس عبر الإعلام، التعليم، وحتى الفن. من هنا، تُصبح المقاومة أيضًا رمزية: في القصيدة، في الفيلم، في المنصة البديلة، وفي إعادة تعريف البطل الجماعي.

الفاعل التاريخي لم يعد محصورًا في الطبقة العاملة التقليدية. لم تعد المقاومة فقط في الإضراب، بل في الانسحاب الرقمي، في التشفير، في المنصة البديلة. هذا يتطلب إعادة تعريف الجماعة: من جمهور مستهلك إلى جماعة منتجة للمعنى، للمنصة، وللسياسة. يُصبح الشعر، الفن، التعليم، أدوات مقاومة، لا فقط تعبير. ويُصبح الملياردير ليس فقط خصمًا اقتصاديًا، بل خصمًا رمزيًا، يُعاد تفكيكه عبر سرديات بديلة، جماعية، ومحرِّرة.

وهكذا، لا يعود السؤال عن الملياردير كدولة مجرد توصيف لعصر جديد، بل دعوة لفهم كيف يُعاد تشكيل العالم من حولنا، وكيف يُعاد توزيع السلطة، وكيف يُعاد تعريف الإنسان نفسه في ظل خوارزميات تُراقب، تُوجّه، وتُعيد إنتاج الحياة.

الكتاب لا يقدّم إجابات جاهزة، بل يفتح أبوابًا للتفكير، للتفكيك، ولإعادة البناء. إنه مرآة تُظهر هشاشة السيادة الحديثة أمام رأس المال الفردي، لكنه أيضًا نافذة نحو احتمالات أخرى: أن تُستعاد الجماعة، أن يُعاد بناء الفضاء العام، وأن يُكتب المستقبل لا عبر المنصة، بل عبر المشاركة، الوعي، والخيال.

في زمن تُختزل فيه السلطة في فرد، وتُوزّع فيه الحياة عبر خوارزمية، يصبح فعل الكتابة نفسه مقاومة. مقاومة للنسيان، للتطبيع، وللصمت. وربما، في هذا الفضاء الرمزي، تُولد سيادة جديدة: لا تُبنى على الثروة، بل على المعنى. لا تُدار من فوق، بل تُصاغ من تحت. لا تُحتكر، بل تُشارك.

وهنا، تنتهي هذه القراءة لا كنقطة ختام، بل كبداية لسؤال مفتوح: كيف نكتب العالم حين يُعاد كتابته من حولنا؟ وكيف نُعيد للكتابة دورها كأداة للوعي، للعدالة، وللتحرر؟
ربما لا تكون الإجابة في يد فرد، بل في صوت جماعة تعرف أن المعنى لا يُشترى، بل يُصاغ.

tongunedward@gmail.com

عن ادوارد كورنيليو

ادوارد كورنيليو

شاهد أيضاً

انشقاق نيال دينق نيال عن الحركة الشعبية: تفكيك لتصدّع النخبة وأزمة الدولة

بقلم: إدوارد كورنيليو في الخامس عشر من أكتوبر 2025، أعلن السياسي المخضرم نيال دينق نيال، …