أمة ترسم الأسئلة لسواها

 


 

 

كيف لا

 

منى عبد الفتاح

 

moaney15@yahoo.com

 

   غير "القيمة الخيّرة التي تحررنا" تشدني إلى عالم المسرح ، مشاهد أخرى حية  تُمسك بقلبي وتعود بالسنين جاهدة بالنظر في رماد تجلوه عن ساكن العبارة المنسوجة على الجدران المدرسي "إعطني مسرحاً أعطك أمة" ، كما هي منسوجة في خيال المارين على عجل بمحاذاة النيل يرمقون خواء أسوار المسرح القومي. قدم لنا المسرح السوداني الدهشة ولكنها دهشة لم تقم على التبادل الفكري والحضاري ،وانتزع منا ابتسامات وضحكات تؤكد على حيوية المسرح محلياً بالتجربة العملية لآباء المسرح مكي سنادة والفاضل سعيد والفنان القدير علي مهدي وفرقة الأصدقاء التي ارتبط اسمها بالمسرح حيناً ثم اكتفت بتواضع الاسم المجرد ، ووقفت بعدها أعمالهم عند محطة الإسم الأولى .قدم هؤلاء أعمالاً فنية جمالية تتعلق بالذائقة الشعبية وإرث السودان الاجتماعي .  وبما أن جل الأعمال المسرحية العظيمة كانت في السبعينيات والثمانينات فقد صار ذلك الانتاج الفني ملكاً لذلك الزمان كما هو ملك للمكان الذي أنتج فيه . المسرح السوداني غير كل المسارح يصر على أن تكون له هوية ويصر على أن يعرف بأنه محلي مما منعه من التحليق بعيداً ، وحدّ من وظيفته الإنسانية لأنه لو أريد منه أن يكون مصدراً ثقافياً موحداً وشاملاً مع احتفاظه بخاصية البلد يجب أن يكون ذلك ضمن إطار المعارف الجمالية الإنسانية، فلا يمكن أن نضعه في أضيق إطار اجتماعي ، ونطلب منه أن يبعث رسالتنا للآخر. المسرح السوداني بشكل عام وفي ظل وجوده متأثراً بالتوترات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي مرت بها البلاد عزلته عن العالم وجعلته غير قابل للتنقل والإبداع. أما مقولة جان دوفينيو "القيمة الخيرة للمسرح الذي يحررنا من الشر، عندما يقدم لنا صورته" ،فقد  اتفقت معها أخيراً بشكل ما رؤية علي مهدي في تجربة "بوتقة سنار" وهي أن المسرح ملك للجميع لا تحده أطر ولا تحجب قيمته الجمالية قوانين ولا تمنع ذائقته الفنية موانع التحول نحو حرية الإنسان وحرية رأيه . المسرحية صيغت ديباجتها بأنها عرض للتعايش السلمي بين الأفارقة والعرب في سلطنة الفونج "1504- 1821م" وكان قد شارك بها السودان في المؤتمر الثاني والثلاثين للهيئة الدولية للمسرح بمدريد العام الفائت . "البوتقة" بلا شك امتطت الحكاية القديمة ، ولكن علي مهدي ربطها بأحداث اجتماعية وسياسية منذ دولة الفونج وإلى زمن وضع الرؤية الكاملة للمسرحية ، مما جعلها حكاية محمولة على جناحي التاريخ لأقوام نستطيع أن نقول أنهم مروا من هنا .وهي كذلك مواصلة لمجهودات مهرجان "البقعة المسرحية" والتي تناولت قضايا النزاع الأهلي في السودان وإشكالات التمييز والإضطهاد الثقافي والاقتصادي والسياسي .  فإذا سار المسرح السوداني على هذا النهج فإنه يكون قد حقق مسرحاً للثقافات المتعددة، موجهاً إلى فئات إجتماعية غير محصورة ,قائماً على الدهشة والتبادل الفكري والحضاري ، يطرح الأسئلة, ويقدم الأجوبة المعاصرة لها , ليبقى هو الفن الشامل الذي يتمكن من مزج عناصر التنوع ووضعها على شكل هوية عامة دون نكران الأصل. وإذا ضاق فضاء الوطن للدرجة التي تحصر الإبداع في أركانه القصية دون فضاءاته المفتوحة فإنه سيعطي أمة ترسم أسئلتها لسواها. عن صحيفة  "الأحداث"  

 

آراء