أمريكا ومستقبل السودان السياسي

 


 

 

قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عقب توقيع وقف أطلاق النار القصير الأجل بين القوات المسلحة السودانية و مليشيا الدعم السريع في جدة بالمملكة العربية السعودية، قال في كلمته " أن المدنيين السودانيين يجب أن يكونوا هم من يحدد مسار السودان للمضي قدمًا، يجب أن يقودوا عملية سياسية لاستعادة الانتقال وتشكيل حكومة مدنية. إن المستقبل السياسي للسودان ملك لكم أنتم " و في حوار مع قناة (الجزيرة مباشر) مع سامويل وربيرغ المتحدث بأسم الخارجية في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا معلقا على عملية وقف إطلاق النار القصير في السودان. قال "أن الأهمية في جدولنا تبدأ بوقف أطلاق النار ثم إمكانية جعله وقفا دائما لإطلاق النار، ثم التفكير بعد ذلك في الشأن السياسي المتعلق بعملية تسليم السلطة للمدنيين. و في إجابته على سوأل؛ هناك أراء في السودان تقول أنكم مركزين جل أهتمامكم على مجموعة الحرية المركزي دون القوى السياسية الأخرى ماذا تقول؟ قال "هذا ليس صحيحا أن الولايات المتحدة فقط تحاول أن تسمع للقوى السياسية الجديدة في المجتمع، و لكن السودانيون المدنيون هم الذين يقع عليهم عبء العملية المدنية، و اختيار الحكومة المدنية" إذا الباب مفتوح للآخرين.
هذه الرؤية الأمريكية ليست جديدة كنت قد سمعتها من الأمريكيين في القاهرة منتصف تسعينات القرن الماضي، في جلسة حوارية بفندق شبرد بالقاهرة حول تقييم مهرجان الثقافة الأول الذي كان قد أقامه ( المركز السوداني للثقافة و الإعلام) بالجامعة الأمريكية. و انحرف الحديث للشأن السياسي و كانوا يقولون أن سبب عدم استمرار النظم الديمقراطية في السودان راجع إلي ضعف القوى السياسية التقليدية ( الأمة القومي – الاتحادي الديمقراطي – الشيوعي) و التي لم تستطيع أن تطور و تحدث نفسها، ثم تقدم تصورات تجذب بها الأجيال الجديدة في المجتمع. لذلك كانت الإدارة الأمريكية في ذالك الوقت مركزة على الحركة الشعبية باعتبارها قوى جديدة، و أيضا ركزت على قوات التحالف لكن للأسف،،، أن الإثنين لم يستطيعا أن يقدما أي مشاريع سياسية جاذبة لقطاع عريض من الأجيال الجديدة، و يعود ذلك أن العقلية المتحكمة في تلك الأحزاب فقدت قدرتها على تقديم تصورات جديدة، اعتقادا منها أن القوى الجديدة ربما تكون سببا في إزاحتها من المشهد السياسي، و كانوا يقولون أن القطاعات الجديدة هي التي تستطيع أن تخلق التوازن المطلوب مع القوى الإسلامية الحاكمة في ذلك الوقت، و هي التي سوف تدفع الكل لكي يتبنى عملية التحول الديمقراطي. إذا عملية البحث عن القوى الجديدة تمثل الرؤية الأمريكية لعملية تأسيس و استدامت الديمقراطية في السودان. و تأكيدا لذلك أن الفكرة التي أوصلت إلي ( الإتفاق الإطاري) هي فكرة أمريكية 100 % قدمتها مساعدة وزير الخارجية الأمريكي ( مولي في) و كانت الفكرة تقوم على توسيع قاعدة المشاركة و دلالة أن فكرة ورشة اللجنة التسيرية لنقابة المحامين هي فكرتها الهدف منها جمع قاعدة عريضة للمشاركة، باعتبار أن الديمقراطية تؤسس على أكبر قاعدة أجتماعية، لكن قوى الحرية المركزي كانت سببا في تقزيم الفكرة بسبب ( مراحلها الثلاثة) لأنها كانت تعتقد أن العسكر سوف يسلمونها السلطة، و بالتالي من الأفضل تكون محصورة في مجموعة ضيقة، التشبث بفكرة السلطة هي التي أدت لاستقطاب المليشيا لعمل عسكري.
أن وزير الخارجية الأمريكي بلينكن تحدث عن مشروع الديمقراطية في السودان، و الذي يجب أن يؤسس على مجهودات القوى المدنية، و هو لا يشير لقوى سياسية بعينها، أنما هي فقط إشارة لناحية المبدأ، و الذي جاء في شعارات ثورة ديسمبر، و حديث المتحدث بأسم وزارة الخرجية في الشرق الأوسط و وشمال أفريقيا سامويل وربيرغ يشير بطريق غير مباشرة إلي إيجاد قوى سياسية جديدة تتجاوز حالة الفشل السياسي التي استمرت منذ الاستقلال حتى اليوم. و استمرار ألأزمة السياسية بعد الثورة تؤكد عجز العقل السياسي السوداني، و فشله في خلق بيئة حوارية تستطيع أن تقرب المسافات بين الجميع. السؤال هل النخب السياسية عندها تصورات جديدة يمكن أن تقدمها لحل الأزمة السياسية؟ أم أنها تنتظر دول العالم (أمريكا و الاتحاد الأوروبي) أن يقدموا الأفكار المتعلقة بالديمقراطية، و يصبحوا جميعهم مجرد أدوات تنفيذية؟ و لكن الملاحظ أن القوى السياسية فشلت أن تقدم مبادرات وطنية تخلق بها حوارا عاما يصل بهم لبعض المشتركات. الغريب في الأمر أن الكل يرفع شعارات الديمقراطية، و في نفس الوقت يتهيبون من أدواتها التي تقوم على الحوار. و العجز يجعل العديد منهم يستخدمون الفزاعات و أدوات الإقصاء حتى يحاصروا الأراء التي لا يريدون لها أن ترى النور.
التجربة الماضية أثبتت هناك فارقا كبيرا في الأداء و التكتيك بين المجموعات السياسية ( الحرية المركزي – الحرية الديمقراطي – الحزب الشيوعي – الإسلاميين – الاتحادي الديمقراطي – لجان المقاومة ) نتعرض لهم بشكل موجز دون الدخول في التفاصيل:-
1 – الحرية المركزي: استطاعت أن تدير معركتها بجدارة و ساعدها في ذلك أن قيادتها كانت تشارك في حكومة عبد الله حمدوك الثانية و وقع عليها انقلاب 25 أكتوبر. و استطاعت أن تستغل ذلك في التواصل مع المجتمع الدولي و تسمع منهم، و توافق على فكرة ( مولي في) الأمر الذي أعطاها مساحة واسعة في قيادة الساحة السياسية، و تحدد القضايا التي يجب أن يفكر فيها الآخرين. لكنها للأسف بدلا من توسيع قاعدة المشاركة لكي تأمن عملية توازن القوى التي تتطلبها علمية التحول الديمقراطي ضيقت الواسع رغبة في السلطة، و اصرت على فرض رؤيتها اعتقادا منها أن المجتمع الدولي سوف يصبح لها رافعة لرغباتها.
2- الحرية الديمقراطي: وقعت صرعى للإتهامات التي حاصرتها بها الحرية المركزي بأنها قوى تابعة للإنقلاب، و بالتالي لا تستطيع أن تكون مفيدة في انجاز العملية الديمقراطية، و كل ما قدمته المجموعة الديمقراطية من تنازلات إلا أنها فشلت أن تخرج من دائرة الاتهام، لآن تكتيكاتها كانت تعتمد على دور المؤسسة العسكرية، و تنتظر أن المؤسسة هي التي تفرضها كقوى مشاركة، و اعتمدت على حركة مناوي و حركة جبريل باعتبارهما جزء من اتفاق جوبا، لكنها فشلت أن تؤسس طريقا أخر يجعلها صنو للمركزي.
3 – الحزب الشيوعي: كون منظومته الجذرية مع عدد من واجهاته المدنية، و حاول أن يتعامل مع مؤسسات المجتمع الدولي من خلال أدوات الحرب الباردة، التعبيئة و الحشد و التظاهرات، و محاولة عزل الآخرين، و هي أدوات ضغط لكنها لا تستطيع أن تجعل الآخرين يصغون بشكل جيد للحزب و معرفة آرائه، كان الأجدى للحزب الشيوعي بدلا من حالة الرفض تدثر بها، أن يقدم مبادرات سياسية تفتح حوارا واسعا في المجتمع يجعل الإصغاء إليه مسألة ضرورية و مهمة، باعتبار أنه حزب له دور مقدر بحكم تاريخه النضالي، لكنه لم يستطيع الخروج من الحالة السالبة. لآن التعامل بالرفض مع ممثلي المنظمات و دول ذات ثقافة ديمقراطية يعني عزل نفسك أختياريا من أي حوار، و هي المعضلة التي يقع فيها الزملاء، و حتى الآن تشل تفكيرهم تماما، مما يؤكد أن الحزب الشيوعي في حاجة لعقليات جديدة ذات أفكار جديدة تتجاوز حالة السكون التي تريدها النخبة التاريخية الاستالينية للحزب. فالذي يريد الديمقراطية و يتطلع لها يجب أن يستوعب ثقافتها و يعرف أدواتها.
4 – الإسلاميون؛ أن الإسلاميين في بداية الثورة رضخوا للشعارات التي أطلقت لكي تحاصر حركتهم ( أي كوز ندوسو دوس) و هو شعار استخدم كفزاعة ليس ضد الإسلاميين بل ضد كل الذين يخالفون موقف اليسار الأيديولوجي، رغم هناك العديد من الإسلاميين شاركوا في الثورة. و أيضا كان على الإسلاميين المؤمنين بعملية التحول الديمقراطي أن يقدموا أنفسهم من خلال مبادرة تحمل رؤيتهم الجديدة. لكن للأسف ذهبوا في تجمع جماهيري عريض اعتبر من قبل القوى السياسية الأخرى أنه ضد التوجه الديمقراطي، و الهدف منه هو إرجاع النظام السابق. كما هناك العديد من القيادات الإسلامية التي أكتسبت رضى الشارع من خلال مواقفها الناقد لنظام الإنقاذ هي نفسها جعلت نفسها خارج السياج تراقب فقط بدلا أن تقدم رؤاها ذات الحمولات الديمقراطية، فكان المتوقع أن النخب المفكرة في الحركة الإسلامية التي كان لها موقف ايجابي لعملية التحول الديمقراطي أن تخرج و تصدع برؤيتها الداعمة للمسار الديمقراطي، و كانت تملك أدوات عديدة لتوصيل أرائها.
5 – الاتحادي الديمقراطي الأصل؛ كان المنتظر أنهم سوف يقدمون قيادات جديدة خاصة من أولئك الذين لم يشاركوا في السلطة حتى يستطيعوا أن يحظوا بقبول من الشارع، خاصة أن الاتحاديين أغلبيتهم يمثلون الطبقة الوسطى التي يقع عليها عبء الاستنارة و رؤاهم الوسطية مقبولة عند قطاع واسع وسط الجماهير، و يقدموا مشروعا جديدا، لكن الاعتقاد السائد عند العديد من النخب الاتحادية أن الخضوع للطائفة هو المعبر للحقائب الدستورية و الوظائف الأخرى جعل مجموعة الانتهازيين أن تركن للطائفة و تعيد دورها السياسي الذي كان من المفترض قد أنتهي بنهاية نظام الإنقاذ. عودة الطائفة ممثلة في ولدي محمد عثمان الميرغني ( الحسن – جعفر) جعل الحزب في حالة جمود، ثم إعادة ذات القيادات ذات القدرات المتواضعة إلي الواجهة. و هي قيادات لا تستطيع أن تفكر خارج الصندوق لكي تكون مؤثرة بصورة كبيرة في العملية السياسية. و دلالة على ذلك منذ إندلاع الحرب كان المتوقع أن يلعب الاتحاديون دورا كبيرا في الاجتهاد الذي يؤدي لوقف الحرب، و إقناع مليشيا الدعم أن تندمج في القوات المسلحة، ثم تستفيد من إمكانياتها المالية في تأسيس حزب سياسي أو الانتماء لحزب سياسي يجعلهم جزء من العملية السياسية، لكن صاحب الحاجة لا يستطيع أن يشغل ذهنه بعيدا عن حاجته، فإذا لم تنتفض القاعدة الاتحادية خاصة الشباب تكون قد حكمت على الحزب بالموت.
6- لجان المقاومة: وقعت أغلبية لجان المقاومة في شباك الاستقطاب الحزبي، و تبنت شعارات القوى السياسية، و هي كلها قوى سياسية تعاني من إشكاليات فكرية و تنظيمية و ثقافية، و هذه الإشكاليات جعلتها لا تستطيع أن تفكر أبعد من أخمص قدميها، و يدور فكرها فقط في السلطة، لذلك لا تملك مقومات صناعة الديمقراطية. كان من المفترض على لجان المقاومة أن تمارس الضغط على القوى السياسية، خاصة و هي تملك القدرة على تحريك الشارع، و قادرة على ممارسة الضغط، و كان من المفترض أن تستعين بقيادات تؤمن بعملية التحول الديمقراطية، لكي تجعلها تدير معركتها السياسية بأفق واسع، و كان يجب عليها هي التي تحدد موضوعات الحوار و الوصول به للنتائج المرجوة. لكنها وقفت في حدود أصدار بعض المواثيق و كان يجب أن تضغط لكي تكون مشاركة في أختيار شاغلي الوظائف الدستورية. لكن لم تستطع قيادتها أن تخرج من شباك الاستقطاب الحزبي، و تبنت مقولات الأحزاب العاجزة عن تقديم مشروعات سياسية، و ما تزال الكرة حتى الآن في ملعب لجان المقاومة إذا أحسنت إدارة معركتها بأفق وطني و ليس من خلال شعارات العزل و الإقصاء.
الآن على النخبة السياسية جميعها أن تفكر في كيف الخروج من الأزمة السياسية، و وقف الحرب ليس مؤقتا لكن الوقف الدائم، و هذا لا يتأتى إلا بدمج مليشيا الدعم في القوات المسلحة حتى يصبح هناك جيشا واحدا، و اقناع قيادات المليشيا الذين لم يرتكبوا جرائم أن ينخرطوا في العملية السياسية من خلال حزب سياسي. أن التفكير للعودة لما قبل 15 إبريل يعني العودة لإنتاج الأزمة مرة أخرى. و يجب تجاوز ذالك التاريخ، و تقديم تصورات أخرى تفتح حوارات وطنية اجتماعية و ثقافية و سياسية بهدف الوصول لتوافق وطني. و نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء