أوراق قديمة (13)

 


 

 


شرع يكتب من داخل الطائرة.أفطر عملا بالرخصة.طعام ايرفرانس شهي وخفيف.فتح الأطلس المتاح أمامه  لينظر واغادوغو أين تكون؟لم ير شيئا يميز موقعها.هناك نهر ولكن واضح أنه بعيد بعض الشيء عن المدينة.لعله نهر الفولتا.نظر إلى أسفل فرأى بحرا ممتدّا وساحلا رمليا، وأدرك أنهم بلغوا قارة أوربا..أحسّ بثقل الطعام الذي تناوله لتوّه، لابدّ أنه التعوّد على رمضان.حينما كان في النرويج، كان يكتفي في غالب أمره بوجبة الإفطار لا يزيد عليها.خلال أيامه القليلة في الرباط استعاض بالشاي الأخضر عن القهوة.أعجبته أوانيه الفضية وكؤوسه الزجاجية الرقيقة.شرع الشيخ الصحراوي المقيم بالفندق في إنشاد أبيات في الشاي والنساء والإبل:لولا الأتاي ولولا البيض والعيس...الأتاي هو الشاي في لغتهم ، أما البيض والعيس فمعروفة!
استأنف الكتابة مرة أخرى من داخل الطائرة، المتجهة جنوبا هذه المرة نحو قارة أفريقيا.ما زال يراوح منذ الفجر بين أوربا وأفريقيا.في مطار أورلي هرع إلى التلفون.عجز عن الاتصال بصاحبه، لا في البيت ولا في المكتب..ساءه ذلك بعض الشيء ثم انصرف إلى قهوته مكتفيا بها عمّا سواها من طعام وشراب.مشاعره تجاه باريس كانت محايدة.عجب لذلك !سلك بهم الباص الطريق الدائرية  "البيريف"، شغل نفسه بقراءة اللافتات وانصرف خاطره إلى سنواته الغابرة في باريس، تذكرها دون لوعة ودون حسرة.استغرقت الرحلة بين المطارين ساعة من الزمان.
ارتاح إلى طقس باريس:شمس وبرد خفيف يمسّ الجسد ولا يؤذيه، ويكفي معه رداء خفيف من الصوف، فالزمان أبريل.سرح به خاطره عبر الزمان والمكان: أين هو من صحابه وأين هم منه؟ هذا المرور العابر بباريس ما كنهه وماذا عسى أن يكون تفسيره؟ تعامل مع الأشياء بيسر وبساطة.سحب بعض المال مما بقي له من مال في البنك الفرنسي واشترى بطاقة تلفون .دخل وخرج، سَأل و سُئل ! أهذا التعوّد على باريس هو سبب إحساسه المحايد؟ أهو سبب انسجامه المتجدّد مع هذا العالم الذي كان جزءا منه في زمن من الأزمان؟
الطائرة ضخمة عملاقة.في جوفها عالم يموج من البيض والسود، لا يدري لمَ بدا له مسخا شائها؟ولمَ أحسّ بأنه غريب عنه، مع تعاطفه مع بعض الوجوه و الملامح، وشعوره أنه تعاطف متبادل!لطالما طغى عليه إحساسه بأنه غريب ، وأفقده إرادته بعض الشيء وأحال دواخله إلى صفاء وروق يتفتق معهما إحساس شاعر يصرفه في كثير من الأحيان  إلى الكتابة بشيء من العبثية والقدرية، ذلك أنه يوقن تماما أن ما يكتبه من خواطر ورسائل لا يصل إلى غاياته، كان كأنما يدفع بها إلى أقدار فاغرة أفواهها!
حدّث نفسه عن روائح المدن، فلكلّ مدينة عطر تستقبله به، يعلق بأحاسيسه ثم يسري إلى بقية جسده فيغدو جزءاً منه فلا يقوى على تمييزه، حتى إذا غادر المدينة، غادره عطرها!

واغادوغو، أبريل 1990
د.مصطفى أحمد علي
الرباط
المغرب
alkhandagawi@yahoo.fr

 

آراء