إدانة علي كوشيب …بين انعاش الأمل وخيانة الذاكرة ..

د.هشام عثمان
hishamosman315@gmail.com
في خطوة وُصفت بالتاريخية، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية حكمها بإدانة علي كوشيب، أحد أبرز قادة الجنجويد في دارفور، بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. هذه اللحظة، مهما حاول البعض تبسيطها أو التهوين من قيمتها، تحمل رمزية فارقة: إنها المرة الأولى التي يتعرض فيها أحد منفذي المذابح في دارفور إلى عقاب قضائي دولي بعد عقدين من الانتظار. لكنها، في الوقت نفسه، فرحة ممزوجة بمرارة؛ فهي من جهة تمثل انتعاشاً للأمل في المحاسبة والعدالة، ومن جهة أخرى تكشف عجز النخب السودانية وانهيار الموقف الأخلاقي للحركات المسلحة في دارفور، التي كانت يوماً ما تتحدث باسم الضحايا وترفع شعارات العدالة، ثم ما لبثت أن باعت قضيتها بأثمان سياسية بخسة. لم يكن السودان يوماً بلداً يضمن العدالة لضحاياه عبر مؤسساته الوطنية، فالدولة التي أشرفت على الجرائم أو تواطأت معها لم تتجه يوماً لبناء مؤسسات عدلية قادرة على المحاسبة. ومن هنا، تصبح خطوة المحكمة الجنائية الدولية أكثر من مجرد حكم فردي؛ إنها تذكير بأن العدالة ممكنة حتى وإن جاءت من الخارج، وأن الإفلات من العقاب ليس قدراً محتوماً. ومن المدهش ـ أو بالأحرى المفجع ـ أن كثيراً من الحركات المسلحة في دارفور لم تُبدِ تفاعلاً يُذكر مع حكم المحكمة، وكأن الأمر لا يعنيها. هذه الحركات التي طالما قدّمت نفسها كصوت الضحايا وحامل قضية دارفور أمام العالم، بدت وكأنها جزء من آلة النسيان. والحقيقة أن موقفها ليس مدهشاً إذا وُضع في سياق مسارها السياسي خلال العقد الأخير؛ فقد انخرطت في صفقات وتسويات مع الأنظمة، تنازلت عن شعاراتها، وارتضت أدواراً ثانوية في مشهد انتقالي هش، حتى غدت “أيتاماً على موائد اللئام”. لقد باعت هذه الحركات الموقف الأخلاقي الذي كان جوهر شرعيتها، وخسرت في المقابل حتى مكاسبها السياسية. إن الحكم على علي كوشيب لا يعيد الأرواح التي أُزهقت ولا القرى التي أُحرقت، لكنه على الأقل يعيد الاعتبار الرمزي للضحايا. غير أن ما يفاقم من مأساوية المشهد هو غياب حاملي القضية الحقيقيين: الحركات التي انحرفت عن رسالتها. اليوم، يجد الضحايا أنفسهم بين سندان العدالة الدولية المحدودة ومطرقة النسيان المحلي الشامل. وإدانة علي كوشيب لا تخص فرداً واحداً، بل تخص منظومة كاملة صنعت الجنجويد، غذّتهم، وأطلقتهم على المدنيين. العدالة الحقيقية لن تكتمل إلا إذا طالت هذه المنظومة، من مراكز القرار في الخرطوم إلى القوى الإقليمية التي دعمت وساهمت. وهنا يصبح السؤال الأكبر: هل يمتلك السودانيون شجاعة مواجهة ذواتهم وتاريخهم؟ أم سيكتفون بالاحتفاء الرمزي بحكم لا يتجاوز فرداً، بينما يفلت الكبار من العقاب؟ إن الحكم على كوشيب لحظة ينبغي أن تُقرأ بعمق، فهي لحظة تُعيد للضحايا بعض كرامتهم، لكنها أيضاً مرآة تكشف سقوط النخب والحركات التي فرّطت في تلك الكرامة. وإذا لم ينجح السودانيون في تحويل هذه اللحظة إلى نقطة انطلاق نحو عدالة شاملة، فإنها ستظل حدثاً عابراً في سجل طويل من الإفلات من العقاب. فالعدالة، في نهاية الأمر، ليست ورقة في محكمة دولية فحسب، بل مشروع وطني وأخلاقي يتطلب شجاعة سياسية وذاكرة لا تخون.

عن هشام عثمان

هشام عثمان

شاهد أيضاً

السودانيون وأزمة الوعي السياسي: حين يسبق التعليمُ الوعيَ وتتأخرُ التجربةُ عن الفهم

تبدو أزمة الوعي السياسي في السودان من أكثر الظواهر استعصاءً على الفهم والتجاوز، إذ لا …