إشكالية المثقف: رؤية عبد الله علي إبراهيم

 


 

 

إشكالية المثقف في السودان، لم تتناولها النخب السودانية التي تشتغل بالفكر تناولا فكريا حيث تبين ما هي المشاكل التي تواجه المثقف السوداني، أو غيابه عن الساحتين السياسية و الثقافية، باعتباره داعيا يقدم أفكاره و أطروحاته، لمعالجة العديد من القضايا الاجتماعية و السياسية، حيث أكتفت تلك النخب بالكتابات التي تناولت المثقف بشكل مباشر في الغرب، و كان أبرزها في أوروبا من مثقفين مرجعياتهم ماركسية، مثال لذلك جان بول سارتر في كتابه " ليس دفاعا عن المثقف" ثم كتاب انطونيو غرامشي كتابه " كراسات 

السجن" و في الحقل العربي هناك كتاب إدوارد سعيد و كتابه " المثقف و السلطة" و كتابات علي حرب في جميع كتبه تناول إشكالية المثقف منها " الفكر و الحدث" و عبد العزيز بلقزيز في كتابه " في البدء كانت الثقافة" حيث يقول فيه " أنماط العلاقة التي قامت و استمرت عبر حقب التاريخ المختلفة بين المثقف و السياسة، لأمكننا تصنيفها في ثلاثة أنماط رئيسية تعاقبت أحيانا و تزامنت في أحايين أخرى هي علاقات الزراية و المصاحبة و الاستتباع" ازراية كما يقول بلقزيز نزوع فئات من المثقفين إلي استصغار شأن السياسة و احتقار مجالها. و المصاحبة هي حالة من المصاحبة و الوفاق قامت في مناسبات تاريخية بين المثقف و السياسة. الاستتباع هي فقدان المثقف استقلاليته و استتباع السياسي. و واحدة من هذه الحالات عايشها الدكتور عبد الله علي إبراهيم، خاصة حالة المصاحبة عندما كان لصيق بالسلطة الفوقية للحزب، في عهد عبد الخالق محجوب، و غياب المصاحبة قد كشف ظهر الدكتور للعناصر التنفيذية التي ليس لها تقدير لدور المثقف، و لكن تناول قضية المثقف في العديد من المجتمعات يؤكد إن للمثقف دورا كبيرا في بناء المجتمعات و عمليات التغيير.
و في الحوار الذي كان قد أجراه الأستاذ الطاهر حسن التوم مع عبد الله علي إبراهيم في برنامج " صالون قناة S24" " طرح الدكتور إبراهيم قضية إشكالية المثقف السوداني داخل الأحزاب السياسية، من خلال تجربته الشخصية في الحزب الشيوعي السوداني، و التي كانت سببا في أن يقدم استقالته من الحزب كما قال. و يعتقد الدكتور إبراهيم إن الأحزاب السودانية لم تستطيع أن تستوعب دور المثقف و لم تعطيه مكانته داخل المؤسسة الحزبية، حتى إن الأحزاب لم تفرد أسس لعملية الترقي الهرمي في الحزب دون الآخرين، باعتبار إن المثقف يمتلك أدوات مغايرة عن الآخرين في التعبير عن عكس الرؤى و التصورات، و يمتلك قدرات جمالية يعرف كيف يوظفه من أجل تثقيف المجتمع حوله، كما إن المثقف قادر علي ابتكار أدوات جديدة تتلاءم مع الفكرة التي يريد أن يقدمها.
و معروف إن غياب المثقف و تحجيم دوره داخل المؤسسات الحزبية، هو أحد الأسباب الرئيسية التي حالت دون تطوير و تحديث تلك المؤسسات، من الناحيتين النظرية و الثقافية، و اللتان تشكلان أعمدة الوعي في المؤسسة السياسية، فغياب المثقف عن النشاط العام للحزب بسبب سيطرة العقلية التنفيذية التي لا تعرف غير جدل اليوم، قد كان سببا في وقف الإنتاج المعرفي و الثقافي في تلك المؤسسات، و حتى كان سببا في تدني الخطاب السياسي، و ضمور مفرداته، فالحوار بين المثقفين داخل المؤسسة الحزبية، يطور ملكات الخلق و الإبداع عند العضوية، و يكون منابر عديدة داخل المؤسسة، الأمر الذي يسهم في أهم قضيتين، الأولي أن يرسخ مبدأ احترام الرأي الأخر الذي يعاضد ثقافة الديمقراطية و يوسع رقعة الحرية. و الثاني أنه يزيد من وعي العضوية، الأمر الذي يجعل المؤسسة الحزبية معمل إنتاج للثقافة و المعرفة، و هذه لا تكون قاصرة داخل المؤسسة، إنما أشعاعها سوف ينعكس أيضا علي المجتمع و يخلق حوارا دائريا بين الأفكار.
و إشكالية المثقف تختلف من حزب إلي أخر، حسب اللوائح الداخلية التي تحكم الممارسة داخل تلك المؤسسات، و لكن الظاهرة في المؤسسات الحزبية الأيديولوجية، إنها تعتمد علي مثقف واحد، يكون علي رأس المؤسسة، و هو المناط به أن يفكر دون الآخرين، و هو الذي يقدم الأطروحات الفكرية، و يتحدث عن الثقافة و الاقتصاد و السياسة و الفنون، و علي الآخرين أن يتفاعلوا مع هذه الأطروحات ليس نقدا إنما كيفية تمكينها داخل المؤسسة و خارجها باعتبارها حقائق لا تقبل النقد و الحوار، و الدكتور إبراهيم بحكم قربه من سكرتير الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب ،و درجة الإعجاب بهذه الشخصية، يحاول أن يخرجه من دائرة النقد. و هذه نجدها أيضا عند عدد من المثقفين الإسلاميين مع الدكتور الترابي، الأمر الذي يجعل تناول القضية بعيدا عن الأسباب الرئيسية التي ساعدت علي تمكين الظاهرة في تلك المؤسسات الأيديولوجية، رغم إن هناك حقيقة إن الفارق المعرفي و الثقافي بين عبد الخالق محجوب و بقية القيادات الأخرى، كان بعيدا، لكن هذا البعد، أحد أسبابه حالات القمع التي كانت تمارس من قبل شخصية عبد الخالق علي الآخرين، حتى لا يتم بروز شخصيات يمكن أن تنافسه. هذا الأمر أيضا في الحركة الإسلامية، حيث إن الدكتور الترابي ما كان عنده الاستعداد بتقبل بروز شخصيات تشتغل بالفكر من داخل المؤسسة، و تأخذ شيئا من الاهتمام، أو يفتح بابا للمقارنة بينه و بينهم، الأمر الذي جمد عملية الخلق و الإبداع داخل تلك المؤسسات، و كان علي الدكتور إبراهيم إن لا يجعل سقوف للبحث، فإذا كان يعتقد إن ثقافة و سعت معرفة عبد الخالق كانت تدفعه أن ينمي مقدرات ثقافية في العضوية هذا غير صحيح، و دلالة علي ذلك كما ذكر الدكتور عبد الهأ علي إبراهيم نفسه في الحوار عندما تحدث عن قضية صلاح أحمد إبراهيم و عبد الوهاب زين العابدين و عوض عبد الرازق، و أضيف إليهم الجنيد علي عمر و الوسيلة، و غيرهم من الذين كانوا يشتغلوا بالفكر، هؤلاء كانوا ضحايا بشكل مباشر لرؤية عبد الخالق محجوب، لذلك عندما رحل تراجع دور الحزب خاصة في النواحي الثقافية و المعرفية و الفكرية، الأمر الذي جعل قضية المثقف و دوره في الحزب و المجتمع، رؤية لا تجد قبولا من قبل قيادات تنفيذية كانت طوال سنين عملها السياسي، و هؤلاء ليس لهم علاقة بالعمل الفكري و الثقافي، لذلك لا يعرفون كيف التعامل مع المثقف، و يعتبرونه خارج دائرة الحدث شخص مهوم، الأمر الذي تأثر منه المثقفين داخل المؤسسة الحزبية.
يعتقد الدكتور عبد الله علي إبراهيم إن إشكالية المثقف في الأحزاب السياسية، إشكالية ليست قاصرة علي الحزب الشيوعي، رغم إنه عان منها داخل المؤسسة التي تعتمد في عضويتها علي القوي الحديث " البرجوازية الصغيرة" و التي كانت قد قادت عملية التنوير في أوروبا، و لكن تراجع دورها و ضعف في السودان، بسبب التدهور الاقتصادي في البلاد، مما نعكس علي المؤسسات الحزبية، التي نفسها شهدت حربا شرسة من النظم الشمولية، أدي لتراجع دور المثقف. و في الأحزاب الأخرى تختلف في بعضها إن القاعدة تتجاوز القيادة في الثقافة و المعرفة و لكن ليس هناك منهج يستفيد من أطروحات هؤلاء المثقفين، و تفضل القيادة إبعادهم تماما، حتى لا يتسببوا لها في حرج معرفي و ثقافي، و هناك البعض الأخر يتقربون للمثقفين و لكن في حدود، هذه العلاقات جميعها رغم تفاوتها إلا إنها تتفق في إبعاد المثقف من دائرة الفعل المباشر في العمل السياسي. و هي قضية تحتاج لحوارات من جوانب مختلفة. و شكرا للدكتور عبد الله علي إبراهيم إثارتها. و نسأل الله حسن البصيرة. نشر في جريدة الجريدة الخرطوم.




zainsalih@hotmail.com

 

آراء