حين يخرج ورثة النظام القديم على الشاشة ليعلنوا اعتذارهم، لا نسمع سوى صدى كلماتٍ فارغة تتردد في الهواء الطلق. أكثر من ثلاثة عقود من الخراب والقمع والنهب لا تُغسل بالدموع ولا تُمحى بالاعتذار.
الأمة التي صبرت على الإذلال، والوطن الذي صُلب على منابر «التمكين»، لا يحتاج إلى نحيبٍ متأخر، بل إلى محاسبةٍ علنية، وفضحٍ لكل أسطورةٍ صنعوها ليغسلوا بها أيديهم من دماء الشعب.
هذا الاعتذار ليس سوى مسرحية، قناع جديد على وجه الخراب، ونبرة فارغة لا تثبت شيئاً، سوى أن التاريخ لن يغفر إلا من أعاد الحقوق لأصحابها، لا لمن جلس خلف الشاشة لينتحل التوبة.
فقد خرج أحد أبناء النظام القديم وقال على شاشة الجزيرة: «نحن نعتذر». وهنا لا يُطرح السؤال على اللفظ، بل على ما يتستر خلفه من رغبة في غسل الدم بالدمع والنحيب، ومسح ذاكرة الخراب بمنديل الندم المتأخر.
هل يُعتذر عن ثلاثين عاماً من القمع الممنهج؟ وعن أمةٍ وُضعت على طاولة التجارب الإلهية المُفترى عليها؟ وعن وطنٍ قُسّم مثل الغنيمة باسم الله؟
إعتذار القيادي في حزب المؤتمر الوطني المحلول، النعمان، لا يوحي بأنهم تائبين، بل حرّاس خطيئة.
هم أبناء المشروع الذي خرّب البلاد، وأطعم الجنجويد من خزائنها، وعلّمهم كيف تُنهب الأرض باسم الدين، وكيف يُجلد المواطن بتهمة السؤال.
لم يكن ما جرى خطأً في الحكم، بل إيماناً مريضاً بالإذلال، وعقيدةً في تحويل الشعب إلى رعيّة، والوطن إلى مزرعة تُدار بفتوى.
من أي جرحٍ يبدأ اعتذارهم؟
من دارفور التي صارت قارةً من الرماد؟ أم من بيوت الخرطوم التي استيقظت على دويّ الطائرات التي أطلقها ورثتهم؟
أم من الجامعات التي أنجبت علماء المنفى، والمقابر التي ابتلعت جيلاً كاملاً تحت راياتهم السوداء؟
إنهم لا يعتذرون، بل يُجرّبون طريق العودة من الباب الخلفي.
يعرفون أن الذاكرة السودانية مُتعَبة، وأن الجراح الكثيرة قد جعلت البصر غبشاً، فيظهرون في الشاشات كذئابٍ تُتقن البكاء، متظاهرين بأنهم استيقظوا على ضميرٍ جديد.
لكنّ هذا الشعب الذي خرج من رماد الحروب التي طالت كل مدينة، صار يعرف الوجوه حتى لو غيّرت الأقنعة، ويحفظ الأصوات حتى لو بدّلت النبرة.
صار محصناً من لغتهم، من خطبهم، من مشاريعهم التي لم تُنبت غير القتل والتشريد.
النعمان، يا هذا الدعيّ المسكين، أنتم لم تسقطوا مع نظامكم، بل انسحبتم معه إلى الظلال.
أنتم في كل وزارةٍ تُدار من وراء الستار، وفي كل صفقة تُبرم في الظلام، وفي كل ميليشيا تغيّر اسمها لتواصل مهمة الخراب نفسها.
الاعتذار الحقيقي، يا نعمان، لا يبدأ من الاستوديو، بل من باب المحكمة.
حين يُستعاد المال المنهوب، وتُتلى أسماء القتلة في العلن، وتُهدم الامتيازات التي ما زالت تتغذى من جسد الدولة.
يا نعمان، أنتم اليوم، لا تواجهون الشعب بل التاريخ، ولا تحاكمكم المحاكم وحدها، بل ذاكرة الأمهات اللائي دفنّ أبناءهن في صمتٍ مكسور.
هذا الشعب لا يريد ندمكم، بل العدالة. والعدالة لا تُوهب، بل تُنتزع انتزاعا.
لن يُغسل الخراب بالاعتذار، بل بالحساب. ولن تُطهَّر الدماء بالماء، بل بميزانٍ يعيد لكلّ ذي حقٍّ حقّه.
فإما أن تقوم المحاكمة الكبرى، أو يبقى الوطن رهينةً لظلّكم الطويل، يتجوّل بين الأنقاض حاملاً شهادة زورٍ جديدة عنوانها: «نحن آسفون».
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم