إلى السفير المبارك والأستاذ الطيب في العلياء

 


 

 


Khaldoon90@hotmail.com
نعى إليَّ الناعون في بحر هذا الأسبوع ، وأنا في المُغتَرَب ، وما أقسى أخبار رحيل الأعزاء على المغتربين خاصة وما أمضَّه ، اثنين من الطيبين المباركين الأخيار ، نحسبهم كذلك ، ولا نزكيهم على الله تعالى ، هو أعلم بمن تزكَّى.
أما الأول فهو السفير الأديب ، المهذب والخلوق ، والشاعر المفن ، ثم الإنسان المؤمن التقي الورع ، والصابر والمحتسب ، مبارك آدم الهادي ، الذي انتقل إلى جوار ربه الكريم في يوم الجمعة الماضي الموافق للسابع من شهر يوليو الجاري ، بعد معاناة طويلة مع المرض ، تحملها بصبر المؤمن وجلده ، وتسليمه الجميل بقضاء الله وقدره ، فنرجو الله أن يكون ممن أحبهم الله ، مصداقاً لم جاء في الأثر بأن الله إذا أحب عبداً ابتلاه.
التحقنا بوزارة الخارجية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي ، ومبارك آدم الهادي يومئذٍ سفير كبير ملء السمع والبصر ، إذ أنه ينتمي كما علمنا إلى دفعة عام 1961م ، ولكننا ألفيناً فيه – مع ذلك – إنساناً متواضعاً ، خلوقاً ، موطأ الأكناف. كنت أنا متهوراً و "شليقا " نوعاً ما ، وكنت أختلف إلى بعض المبدعين والمتأدبة بالوزارة كمحمد المكي إبراهيم ، وعمر عبد الماجد ، وعبد الهادي الصديق ، ومبارك آدم الهادي ، فأعرض عليهم ما كنت أكتب أحيانا من منظوم ومنثور ، فكانوا جميعهم يهشون لي ويشجعونني ، وكان مبارك آدم الهادي رحمه الله على وجه الخصوص ، يخفض لي من جناح البشاشة و الأريحية ، وحسن التجاوب مع ما كنت ألقيه عليه ، الشيئ الكثير. ألا رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن صبره واحتسابه خير الجزاء.
وأما الثاني ، فهو أستاذنا الدكتور الطيب ضو البيت بابكر ، أستاذ اللغة الإنجليزية وآدابها ، وعميد كلية التربية بجامعة كسلا ، ذلك الرجل الألمعي الذكي الفطن ، والعصامي الطموح ، الذي درَّسنا اللغة الإنجليزية بمدرسة " أم دم حاج أحمد " الثانوية العامة بدار الريح الأدنى من ولاية شمال كردفان بين عامي 1973 و 1976م ، والذي وافاه الأجل المحتوم قبيل حلول شهر رمضان المعظم المنصرم بثلاثة أيام فقط ، كما أخبرني بذلك نجله " مجتبى " عندما هاتفته معزيا ، بعد أن نقل إلى هذا النبأ الفاجع مؤخراً الأخ والصديق وزميل الدراسة بالمرحلتين الابتدائية والمتوسطة ، عبد الحفيظ مجذوب حمد.
ينتمي أستاذنا المرحوم دكتور الطيب ضو البيت إلى منطقة النيل الأبيض ، أحسب أنه من مدينة " كوستي " تحديدا ، والملاحظ أنَّ جل المعلمين من أبناء النيل الأبيض من لدن ملكال ، وحتى جزيرة توتي عند ملتقاه بالنيل الأزرق ، هم مدرسون ممتازون بالفطرة ، أو ربما بتأثير عبقرية المكان كذلك ، فكأن معهد بخت الرضا الشهير قد أضفى عليهم من جلال روحه ، أو " هدَّ " فيهم كما نقول في عاميتنا.
نُقل أستاذ الطيب كما كان يحلو لنا أن نسميه ، إلى مدرسة قريتنا ) التي أضحت مدينة واعدة الآن ، بل صارت عاصمة لمحلية بحمد الله ) الثانوية العامة الجديدة آنذٍ ، إذ أنه لم يكن قد مضى على تأسيسها سوى عام واحد فقط ، نقل إليها من مدرسة أم روابة الثانوية العامة الأميرية القديمة ، وقد سبق وصوله إلينا ، صيته اللامع وشهرته الداوية كمعلم ممتاز لمادة اللغة الإنجليزية ، بما في ذلك االقب الذي كان يطلقه عليه بعض أولاد أم روابة المشاغبين: " ود جون " ، نسبة لحذقه وبراعته المدهشة في اللغة الإنجليزية. والمعروف أن " أولاد جون " ، هو لقب يطلقه السودانيون عادة على الإنجليز الأقحاح.
قدم علينا استاذنا الطيب إذن ، وهو فتى ملء أعطافه الشباب المتوثب ، والثقافة ، والنشاط ، والحيوية ، والأناقة ، فانضم إلى كوكبة أخرى من أساتذتنا الكرام آنئذٍ ، الذين كان على رأسهم مدير المدرسة استاذنا الجليل ابن الصبابي بحري: متوكل التوم ، ذلك المربي الفاضل ، و الأديب المفوه ، ووكيل المدرسة ثم مديرها من بعد أستاذنا نصر الدين عبد القيوم ، ثم الأساتذة الأجلاء: الرشيد علي عبد الله ، وحسن علي الفضيل ، وآدم حامد فريحة ، وأحمد إبراهيم ابن أربعة وعشرين القرشي بالجزيرة ، الذي كان يتحفنا بعد كل عطلة ، بالجديد من آخر تقليعات وتفصيلات الشارلستونات بمدني والخرطوم ، حياهم الله جميعا حيثما كانوا.
هذا ، وأنا أقر ، وما أزال أذكر بكل الفخر والاعتزاز ، أن الأثر الذي تركه أستاذي الراحل العزيز الطيب ضو البيت في نفسي خاصة ، وفي تكويني المعرفي بصفة عامة ، كان أثراً كبيراً للغاية ، وذلك بسبب تشجيعه لي الذي كنت استشفه من خلال تعليقاته على مواضيع الإنشاء التي كان يطلب منا كتابتها. فهو لم يكن يكتفي بكتابة تعليقات من قبيل: ممتاز ، أو جيد جداً وما إليهما ، وإنما كان يفاجئني أحياناً بعبارات مدهشة ومفرحة بالنسبة لي مثل: Splendidly done ! وما شابه ذلك ، الأمر الذي كان يثلج صدري ، وقد شجعني بالفعل على المضي قدما في دراسة اللغات عموماً ، والشغف بها إلى يومنا هذا.
ومما أذكره أيضاً ، أن أستاذ الطيب قد ألّف لنا مسرحية متكاملة باللغة الإنجليزية ، بفصولها ومشاهدها وحبكتها وعقدتها وصراعها الدرامي ، وكانت تدور حول جريمة غامضة. وقد أديناها على مسرح المدرسة ، أروع أداء ، ومثلَّ فيها من الإخوة الزملاء على ما أذكر كل من: الحاج حمدت الله ، ومجتبى الزاكي ، والنور عجبنا عز العرب وشخصي الذي مثل دور المحامي ، وآخرين.
وفي ظني أنه لو قُدر لذلك العمل المسرحي الرصين ، الذي أداه مجرد صبية في المتوسطة آنئذٍ ، أن ينافس في بعض هذه المهرجانات المسرحية التي ينظمها طلاب الجامعات حالياً ، لنافس بقوة ، بل ربما فاز بالجائزة الأولى.
لقد كانت المدارس الوسطى في السودان عموماً ، وخصوصاً في العقود المتقدمة الماضية ، عندما لم تكن هنالك سوى مدرسة ثانوية واحدة هي كلية غوردون التذكارية ، وإلى أن اضمحلت تلك الكلية وتلاشت فخرجت منها ثلاث مدارس فقط هي بالترتيب وادي سيدنا ، وحنتوب ، وخور طقت ، في أربعينيات القرن العشرين ، هي منارات العلم والتنوير والثقافة والآداب والفنون في شتى أنحاء البلاد ، وكذلك كان كثير من أساتذتها. ولعمري فإن عددا مقدرا ما أعلام السودان ونوابغه في شتى المجالات ، قد تصادف أنهم قد عملوا " مدرسي وسطى " ، نذكر منهم على سبيل المثال: العلامة عبد الله الطيب ، والأديب الطيب صالح ، بل الزعيم الأزهري نفسه. وهذا مبحث طريف ، أرشح صديقي كاتب السير الحاذق ، الأستاذ محمد الشيخ حسين لمقاربته.
أما عبد الحفيظ الذي مرَّ ذكره ، وهو زميلي وصديقي وقريبي أيضا ، فإن له ولبعض أبناء دفعته الأصلية خبراً طريفاً مع أستاذنا الطيب رحمه الله. ذلك بأنهم ، لم يحالفهم الحظ في القبول بالمرحلة الثانوية في المرة الأولى ، وكانوا في الدفعة التي أمامنا ، فعاودوا الكرَّة معنا. فكان أستاذ الطيب يناديهم مهيبا بهم أن يجيبوا على أسئلته في حصة الأدب الإنجليزي بقوله:
Those who have been with us since last year
أو Those who have met the class again .. فسميناهم اختصاراً ب Those فقط ، نغيظهم بها.
نُقل منا الأستاذ الطيب في العام 1976 نفسه ، وفي نفس العام ، دخلنا نحن المدارس الثانوية ، ثم افترقت بنا دروب الحياة العديدة والمتشعبة ، وانقطعت أخبار أستاذنا العزيز عنا دهرا.
ومنذ نحو ثلاثة أعوام من الآن تقريبا ، فاجأني عبد الحفيظ مجذوب ، هذا الرجل الوفي والودود والمحب للناس ، وخصوصاً لكل من له به صلة أو علاقة ، حين أخبرني بأنه قد نمى إلى علمه بأن أستاذنا في أم دم الثانوية العامة ، الطيب ضو البيت ، قد ارتقى في درج الدراسات العليا حتى حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه في اللغة الإنجليزية ، وأنه يعمل آنئذٍ ، محاضراً بكلية التربية في جامعة كسلا ، بل مضى إلى أكثر من ذلك فأجرى بعض الاتصالات اللازمة ، حتى حصل على الهاتف الجوال لأستاذنا الطيب فزودني به. ولقد كانت بالفعل سعادة غامرة جدا عندما هاتفت استاذنا الفاضل ، ورجوته أن يتصل بنا في أول زيارة له إلى الخرطوم ، حتى نجمع له تلاميذه القدامى " عيال أم دم " الذين صاروا الآن كهولا يمارسون الحياة ويصارعونها كل في مجاله ، والذين سيسعدهم جداً أن يكرِّموا أستاذهم الجليل. فشكرني استاذنا دكتور الطيب على تلك المشاعر وعلى تلك المبادرة ، وافترقنا على وعد بعقد القاء المقترح بالخرطوم ، إلا أن إرادة الله كانت هي الغالبة ، فمضى أستاذنا البروفيسور الطيب ضو البيت مأسوفاً عليه إلى رحاب المولى الكريم ، الذي نسأله باسمه العظيم ، أن يتغمده بواسع رحمته ومغفرته ، وأن يدخله فسيح جنته مع الأبرار ، وأن يلهم آله وذويه ، وأسرته المكلومة ، وزملاءه ، وتلاميذه وطلابه الصبر وحسن العزاء ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

آراء