لم يهدأ الغبار بعد في الفاشر، حتى خرجت «مليشيا الدعم السريع» بفيديو لامع الأضواء، بارد الضمير، تُعلن فيه اعتقال سفّاحها الشهير. لقطة مصفوفة بعناية كإعلانٍ سينمائي أكثر منها مشهد عدالة. بدا «أبو لولو» فيها مجرّد بطلٍ يُؤدى دوره الأخير في مسرحية الغفران السياسي، فيما الجرح مفتوح، والضحايا بلا أسماء، والقاتل الحقيقي ما زال يتجوّل في الشوارع بثيابٍ مختلفة.
لم يكن الفاتح عبد الله إدريس، وشهرته «أبو لولو»، له ذكر لافت قبل سقوط مدينة الفاشر بيد المليشيا السبت الماضي، لكن سرعان ما انتشر لقبه مثل نارٍ في هشيم الخراب، باعتباره أحد رموز الرعب في السودان.
قبل سقوط المدينة بقليل، كانت المقاطع تتدفق على وسائل التواصل، لرجلٍ ملتحٍ بشَعرٍ كثّ، ينفّذ عمليات إعدام ميدانية لأسرى في الفاشر. لم يكتفِ بالقتل، بل حرص أن يُوثّقه بنفسه، وكأن الكاميرا شريك في الجريمة. وهكذا، صار «أبو لولو» وجهاً لمأساة الفاشر، ورمزاً لفوضى الحرب وانهيار الدولة.
ورغم أن المليشيا نفت في البداية أي صلةٍ به، وقالت إنها لا تعرف هويته، فإن غضباً واسعاً اشتعل، محلياً وعالمياً، على الرجل وعلى المليشيا معاً، إلى أن أخرجت فيديو «القبض» الشهير، معلنةً عن إيداعه سجن «شالا» بالفاشر، وتشكيل لجنة تحقيق بشأنه.
بدا البيان المُصاحب للتمثيلية مليئاً بعبارات الانضباط والكرامة والعدالة، لكن المشهد لم يُقنع أحداً. ففي بلدٍ تعوّد أن يرى القتلة يُكرَّمون، يصعب عليه أن يصدّق أن العدالة استيقظت فجأةً على جريمةٍ مصوّرة.
ظهر «أبو لولو» في تسجيلات صوتية ومُصوّرة عديدة يوثّق فيها وحشيته، نافياً انتماءه لأي جهة، قائلاً إنه يقود مجموعةً خاصة به، متمرّدة على الدولة. تباهى في أحد التسجيلات بقتله «قرابة ألف شخص» في الفاشر وحدها. لكنّ روايته تلك، مثل رواية «الدعم السريع» نفسها، تُحاط بالظلال والريبة. فالرجل مهما أنكر أو تبرّأت منه الميليشيا، لم يكن شبحاً خارج معاركها، بل جزءاً من آلةٍ أكبر صُنعت لتقتل، وتُبرّر، ثم تُصوّر.
القبض عليه بدا كأنه محاولة لإغلاق المشهد لا لفتح باب العدالة. فالميليشيا التي تمسك بالكاميرا لا يمكن أن تُحاسِب ذاتها، لأن الجريمة عندها لم تعد خطأ، بل سياسة. والمأساة السودانية لم تعد في القتل ذاته، بل في اعتياده، في تحوّل الموت إلى مشهدٍ قابلٍ للمونتاج، وفي أن يصبح السجن ديكوراً لامتصاص الغضب لا أكثر.
في نهاية الفيلم، لا نسمع صوت العدالة، بل صدى الرصاص القديم. يبقى «أبو لولو» رمزاً لما أنتجته الفوضى حين استبدلت الدولةُ القانونَ بالميليشيا، والضميرَ بالكاميرا.
قد يُسجن الجسد، لكن الفكرة تظلّ طليقة، تلوّح في الظلّ لكل قاتلٍ محتمل. الفاشر اليوم ليست مدينةً فقط، بل مرآةٌ يرى فيها السودان وجهه الملطّخ، يسأل نفسه في خوف: كم «أبو لولو» آخر يسكن بيننا ولم يظهر بعد؟
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم