الإسْلامِيُون فِي السُوْدَانِ: مِنْ مَأزَقِ الشَرْعِيَّة إلَى مِحْنَةِ الوُجُودِ (1)

الإسْلامِيُون فِي السُوْدَانِ: مِنْ مَأزَقِ الشَرْعِيَّة إلَى مِحْنَةِ الوُجُودِ (1)

Islamists in Sudan: From the Legitimacy Dilemma to the Existential Impasse (1)

بروفيسور مكي مدني الشبلي

المدير التنفيذي، مركز الدراية للدراسات الاستراتيجية

بداية مبكرة ونهاية سريعة

قليلون يعرفون أن علاقتي بتنظيم الإخوان المسلمين تعود إلى طفولتي في أوائل ستينات القرن الماضي، حين قادني أحد أقربائي إلى “نادي أم درمان الثقافي” بجوار منزل الزعيم إسماعيل الأزهري القريب من مسقط رأسي بحي السيد المكي. وكان النادي، الذي ربما يجهله العديد من القيادات الإسلامية الحالية، مركزاً لتجنيد الأطفال والشباب في تنظيم منغلق ومحدود. حيث لم تستهوِ تجربة دخول النادي طفلاً نشأ في بيئة صوفية متسامحة، فانقطعت صلتي بذلك التنظيم قبل أن تبدأ. غير أنّ مصادفات الحياة وضروبها أبقتني قريباً من مئات الإسلاميين على مختلف مستويات القيادة والقاعدة، والصلاح والطلاح، مما أتاح لي منظوراً مجرداً من الغرض للأزمة البنيوية التي تعصف بالحركة، خاصة بعد انقلاب يونيو 1989 الذي حول الإسلاميين من تنظيم دعوي صادق، إلى سلطة مطلقة قائمة على الاستبداد والفساد.

ثورة ديسمبر: الحكم الشعبي الفيصل

عندما نجحت ثورة ديسمبر 2018 في الإطاحة بنظام الإنقاذ الإسلامي المستبد وضعت الإسلاميين في مواجهة الحقيقة: أن الشعب حكم عليهم برفض مشروعهم، لا بقرار أجنبي ولا بتآمر من “الرباعية”. كان هتاف الشوارع صريحاً: لا لفساد الإسلاميين، لا لاحتكارهم الدولة، نعم للحرية والسلام والعدالة. دماء الشهداء لم تكن ضد شخص البشير وحده، بل ضد منظومة فاسدة كاملة شهد عليها قادتها قبل مناوئيها، هيمنت على السودان لثلاثة عقود ذاق فيها الشعب أقسى درجات القتل والقهر والظلم.

لكن الإسلاميين لا يزالون حتى اليوم يتهربون من الاعتراف بأن ديسمبر مثّلت لحظة نزع شرعية نهائية لمشروعهم المُجرَّب. يعودون بالخطاب إلى نظرية المؤامرة، ويتغافلون أن الشعب هو من أقصاهم، وأن محاولتهم العودة عبر انقلاب أكتوبر 2021 ثم حرب أبريل 2023 لم تكن إلا بسبب أخطاء عدد من المدنيين الذين تصدوا لقيادة السودان خلال الفترة الانتقالية.

أسئلة لا مهرب منها

إن أي مكاشفة جادة مع الإسلاميين لا بد أن تبدأ بإجابتهم على أسئلة مصيرية تشمل، فيما تشمل:

•          كيف يبرر الإسلاميون إنهاء حكم ديمقراطي منتخب بانقلاب عسكري في يونيو 1989، ويستنكرون انحياز الجيش لثورة الشعب في أبريل 2019 ضد نظامهم الفاسد بشهادة الحركة الإسلامية نفسها؟ ولماذا تجري الحركة الإسلامية تحقيقاً علنياً مع قيادة الجيش لتخليهم عن نظامها  الذي شهدت بنفسها على فساده على مسمع ومرأى العالم بأسره؟

•          لماذا يستند حكم الإسلاميين في السودان على السلاح وحده بالانقلاب العسكري (في يونيو 1989 وأكتوبر 2021)، وإشعال الحروب (في يونيو 1989 وفبراير 2003  وأبريل 2023)؟ وكم انقلاب عسكري جديد وحرب أخرى يحتاجون حتى يفهموا أن الشعب لا يمنحهم شرعية؟

•          كيف يجرؤ الإسلاميون على مخاطبة الشعب السوداني بوصفهم القائمين الحصريين على إعلاء الدين الإسلامي الحنيف، وهم بين حائد عن الحق على مستوى القيادة، وساكت عن الحق على مستوى المنقادين على مدى حكمهم الطويل؟

•          كيف يدمغ الإسلاميون خصومهم بالعمالة للأجنبي؟ وهل نسوا استقواءهم على الشعب السوداني بالأجانب لحماية انقلابهم العسكري في 1989، حتى بغير المسلمين، من أمثال جورج حبش ونايف حواتمة والإرهابي كارلوس، في ما أسموه المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي؟ وهل ينكر الإسلاميون اعتمادهم على دعم دول أجنبية في استمرار الحرب التي أشعلوها في أبريل 2023؟

•          بأي حق يوزع قادة الإسلاميين تهم الخيانة والعمالة  لغيرهم، بينما يعيشون في رغد في مختلف المدن الأمريكية والأوربية والآسيوية والعربية والإفريقية؟ وكيف يفسر الإسلاميون التحولات المعيشية المترفة التي عاشها معظم قادتهم وكوادر الصف الأول، بينما غرق ملايين السودانيين في الفقر المدقع؟

•          ما هي شرعية العودة لحكم السودان لجماعة فاسدة مستبدة أقصاها الشعب السوداني بأكمله في ثورة كاملة شهد لها كل العالم؟ وكيف يواجه الإسلاميون الملايين من شباب ديسمبر الذين وصفوا ثورتهم بأنها مدفوعة الثمن؟

•                     كيف يمكن للإسلاميين إقناع الشعب السوداني بأنهم “حملة رسالة دينية”؟ وهل يستطيع الإسلاميون الذين أدمنوا فساد السلطة إشعال ثورة شعبية تفوق ثورة ديسمبر لإثبات شعبيتهم المزعومة؟

•          كيف حوّل الإسلاميون عناصر كانت ضمن قوات الدعم السريع إبان الانتهاكات في ولايتي الجزيرة وسنار من إرهابيين إلى “أبطال وطنيين” حال انحيازهم لجانب الإسلاميين؟ وهل يمكن ائتمان الإسلاميين على ملاقاة الدعم السريع لذات التمجيد إذا رجع لرحمه الذي خرج منه؟

•          هل مجرد وصف الدعم السريع بالتمرد يعفي الإسلاميين من المسؤولية التاريخية والأخلاقية بأنهم الذين أسسوه ودعموه لقتل سودانيين أصبحوا الآن حلفاء الإسلاميين؟

حِقْبَة الفساد: من القادة إلى المنقادين

بين عامي 1989 و2019، حكم الإسلاميون السودان كإمبراطورية فساد مترابطة لنهب المال العام سادها توزيع الأراضي ومؤسسات الدولة الرابحة لمنسوبيهم وتوزيع المناصب الرفيعة لعضويتهم، وتحولت كيانات الدولة إلى إقطاعيات حزبية وعائلية، فكانت الامتيازات بالوظائف والسكن والدراسة والخدمات المميزة حكراً على عضوية التنظيم.

ولم يكن الفساد ظاهرة في القمة فحسب، بل امتد عمودياً ليشمل القواعد. حيث شهد على فساد الإسلاميين شيخهم وأمينهم العام دكتور حسن الترابي نفسه في برنامج “شاهد على العصر” بقناة الجزيرة (2010)، حيث قال: “أصبحنا لا نجد إلا الفساد والاحتكار… حتى الذين طالما تحمسوا للسلطة صاروا عبئاً على الإسلام والوطن …. هم الذين دبروا محاولة اغتيال الرئيس المصري الرحل حسني مبارك، وبعد فشل المحاولة قتلوا من نفذوها حتى لا يشهدوا عليهم … لقد أكلوا المال أكلاً عجيباً”. وفي وثائقي “الأسرار الكبرى” على قناة العربية (2019)، أقر قادة الصف الأول في تنظيم الحركة الإسلامية في أربع حلقات كاملة بأن النهب والقتل والفساد صارت قاعدة الحكم. وشمل انحلال الضوابط  القمة والقاعدة، وكانت نتيجته سقوط رأسي لمثاليات المشروع الحضاري الإسلامي الذي نفذ الإسلاميون انقلابهم العسكري من أجله.

مراجعة واجبة

قبل أي حديث عن حق الإسلاميين في العودة لحكم السودان مرة أخرى بعد أن حكموه ثلاثين سنة، من حق السودانيين أن يسألوا قادتهم، وحتى قواعدهم: هل يوجد بينهم من لم يطاله الفساد بالاستفادة الشخصية أو الأسرية من سلطة الإنقاذ على مدى سنواتها الثلاثين في التوظيف والسكن والخدمات؟ وكيف يتوقعون أن يأمنهم الشعب السوداني عل مستقبل أبنائه وهم الذين نصَّبوا أبناءهم دون مؤهلات في قيادة الوزارات والهيئات الحكومية والسفارات والجامعات والقطاع الخاص؟ فكيف يطمئن الشعب تحت قيادتهم مرة أخرى وهم الذين وزعوا أرقى المواقع  السكنية في العاصمة والولايات الأخرى لسكن عضويتهم وأتباعهم دون غيرهم من المستحقين من السودانيين؟ وهل يمكن للسودانيين أن ينظروا لمستقبل حكم الإسلاميين للسودان بمعزل عن تجربة الثلاثين عاماً التي أحالوا فيها السودانيين إلى الدرجة الثانية من المواطنة؟ وهل يمكن للسودانيين أن يتصالحوا مع هذا النوع من حكم الإسلاميين قبل مكاشفة تقود لإقلاع ثم ندم ثم توبة؟ وهل ينسى لهم تاريخ السودان إقصاء جيل كامل من أبنائه المؤهلين لتمكين الفاسدين؟

فِريَة الاحتكام للقضاء

عندما سيطر الإسلاميون على السلطة في يونيو 1989 كانوا يتباهون بخلفيتهم المتواضعة من عامة الشعب، بل تفاخر العديد منهم بأنهم آتون للسلطة من السكن العشوائي. ولكن بعد أن غيَّر فساد السلطة مكان وشكل السكن من عشوائي إلى فاخر، استنكر السودانيون هذا التغيير المريب. ولكن الإسلاميين استهجنوا استغراب الناس في ثرائهم الفاحش، وطلبوا من المرتابين اللجوء للقضاء لإثبات فسادهم. وكأنما تغيير الحال بهذه الفجائية التي شهد عليها الجيران وحتى الأقرباء يوماً بعد يوم يحتاج لقاضٍ ليثبت مشروعيته. وحتى إذا أذعن السودانيون لهذا الاستخفاف بعقولهم ولجأوا للقضاء، أي قضاء يلجؤون إليه؟ هل ذلك القضاء الذي تم تعيين قضاته على أساس الولاء للجماعة نفسها؟ هل ذلك القضاء الذي تلقى توجيهات من رئيسه بعدم إصدار أي أحكام ضد مؤسسة الدولة أو شركاتها أو مصارفها مهما كانت الدعوى المرفوعة وصحتها وحجمها وأحقيتها؟ وهل من المنطق والمعقول انتظار حكم قضائي عادل من قضاء من صميم منظومة الفساد السياسي؟ الشواهد الحية التي عايشها السودانيون يومياً، من تبدلاتٍ في أحوال غالبية الإسلاميين بسبب استغلال السلطة لا تحتاج لمحاكم تفتقر لأبسط مقومات العدالة. وأصبح كافياً للسودانيين ما يرونه رأي العين ليصدروا بأنفسهم أحكامهم الأخلاقية والسياسية لوصف عهد الإسلاميين بالفساد الشامل من القمة للقاعدة. وهل السودانيون بحاجة لقضاء فاسد ليحكم بفساد أوليائه؟

melshibly@hotmail.com

عن بروفيسور/ مكي مدني الشبلي

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي

شاهد أيضاً

الآلِيَاتُ الاقْتِصَادِيَّةُ لِإنْفَاذِ الهُدْنَةِ وَوَقْفِ إطْلَاقِ النَّارِ

الآلِيَاتُ الاقْتِصَادِيَّةُ لِإنْفَاذِ الهُدْنَةِ وَوَقْفِ إطْلَاقِ النَّارِ Economic Mechanisms for Enforcing Truce and Ceasefire بروفيسور …