الإصلاح يبدأ من الجذور – حملة على الأسماء واللافتات

 


 

حسن حميدة
24 July, 2019

 

 

نتواجد في زمن تدور فيه عجلات الزمن مسرعة، الكل متعجل وغير متمهل للوصول للمقصد. هنا بعض، وهناك بعض آخر يختلفون. إذا جمعتك الصدفة بإنسان لا يحب الحديث عن الناس عند غيابهم، فأعلم بأنك في حضرة إنسان تقي. وإذا جمعتك الصدفة بإنسان لا يغتب الناس، بل يحرص على أن يذكر محاسنهم عند غيابهم، فتيقن بأنك في حضرة إنسان تقي وورع. أما إذا جمعتك الصدفة بإنسان لا يغتب الناس، يمجد الأموات منهم بذكر محاسنهم، ويدعو لهم بالرحمة والمغفرة من عند ربه وهم بين يديه، فثق بأنك في حضرة إنسان تقي وورع وصالح. وكم هؤلاء هم قلائل في زمن اللقط والقحط، الذي تطيب فيه اللحظات، وتستلذ فيه الجلسات، وتتعالى فيه الضحكات بالحديث عن الآخرين بغيابهم. كيف هو حال هؤلاء الناس الغائبين من النجاح أو الفشل؟ وهذا من دون العلم بسبب الأسباب، في حياة هي للكل فانية.


الدكتور عبد المنعم عبد المحمود العربي: ليس هو فقط الرحالة الذي يحكي لك عن صحاري ووديان ووهاد السودان، بمدنه وبودايه وقراه، بل يذكر لك عن قرب بعض من الأهل فيها. هو الرحالة الذي يخبرك عن بلاد العراق وبلاد الشام وبلاد الخليج العربي وأحوال أهلها. هو الطبيب المعالج في مملكة السويد (مستشفيات أوبسالا) والمملكة المتحدة (مستشفيات لندن). يوصف لك بدقة، معايشا وممتهنا مزاج أهل غرب أوروبا وصفاتهم. ككبير إستشاريي أمراض الكلى والباطنية، يؤدي مهامه اليومية بصمت، يتحرك يوميا بشجاعة بين حافتي الحياة والموت، لإنقاذ مرضاه. يعيش مهنته المحببة كطبيب، ويذكر لك عن كثب في مقالاته عميقة المعاني، كم هي رحلة الحياة قصيرة، كم من درس يمكن للطبيب أن يأخذه معه من حواف سرير المريض، وكم من درس يمكن للإنسان أن يتلقنه بنعمة الجسم المعافى والبدن الصحيح.

إذا كثر الحديث عن هذا الطبيب الإنسان لما كفى، فهو إبن حاضرة ولاية نهر النيل "مدينة بربر" – نشأ متشبعا بالوطنية الصادقة، وبحب الخير للناس جميعا. فهو وكما يذكر في مقالاته التي أعتبرها نفسي مقالات مرجعية لأطفالنا وللأجيال الشابة، أن مدينة بربر هي مثال حي للتعددية والتنوع والمعايشة، كما هو الحال الغالب في معظم مدن السودان الكبيرة. ولنذكر هنا بشيء من مجهوداته على نطاق تخصصه: لقد بذل دكتور عبد المنعم بخبرته جهدا كبيرا في تخفيف معاناة مرضى الفشل الكلوي في السودان – زائرا ومعالجا ومشرفا وناصحا. وللذكر لا للحصر، اعداده ونشره (على نفقته الخاصة) لكتيبات تعين المرضى على التعامل مع مرضهم. لا أدري عما إذا كانت تتواجد هذه الكتيبات في المراكز الصحية، أم انعدمت من بعد نشرها وتوزيعها. نأمل أن تكن هذه الكتيبات متوفرة في مراكز الغسيل الكلوي للمرضى بالبلاد.

لا ينحصر العطاء في مجال تخصصه فقط، بل هو أيضا فنان ذو أنامل ساحرة، له عدد مقدر من اللوحات الفنية الزاهية ، والتي تبرهن لنا بأنه ليس فقط الطبيب المعالج، بل هو أيضا الإنسان الذي يلتمس الجمال فيما حوله. لوحات فنية شهد لها المرحوم البروفيسور شبرين من قبل. والذي كرمها نفسه، بعرضها في منتداه العامر بضاحية الرياض، ووثقت لها سبل الإعلام آنذاك، أثناء رحلاته القصيرة للبلاد. هذا الجمع النادر بين الطب والفنون، ليس بشيء غريب أو جديد على أطباء السودان. لقد أسس لهذا الضرب من التمكن، البروفيسور التجاني الماحي عليه رحمة الله، في وقت كانت تغط فيه كثير الدول في نوم عميق. الشيء الذي حظينا بتلقيه عن عالمنا السوداني الكبير، في مدارس الزمن الجميل. كان عالم في الطب النفسي، جمع بين العلوم والموسيقى والرسم، وتعلم اللغات – منها حروف الهيروغلفية على سبيل المثال.

لنرى هنا بأننا في حضرة طبيب إنسان يؤدي عمل شريف، ويجمع بين الطب والفنون. يلزمني هنا أن أشكر الدكتور عبد المنعم على مداخلته الرقيقة والقيمة في مقال سابق لي بعنوان "بعيدا عن السياسة – ولكن مهنيا" نشر من قبل على صفحات سودانايل. هنا يتجلى اهتمامه، وكما عهدت منه دوما، متابعته لمقالاتي المتواضعة في نطاق التوعية الصحية، بل متابعته الدقيقة أيضا للأحداث في البلاد، ولما يكتب من مقالات، تلعب دورا هاما في راحة المواطن والنهوض بالبلاد وسبل تقدمها. وهذا على الرغم من مشغوليات الطبيب الكثيرة. وبه يأتي رأيه واضحا فيما ورد من مقال. يبدأ لنا بمرامي المهنية من نطق وممارسة، يعرف لنا المهنية ومستلزماتها، يدعمها بالمراجع اللازمة، ويضرب لنا مثلا حيا في تطبيقها على نطاق الحقل الطبي (الضوابط والمعايير من تعليم وتدريب وتنظيم وممارسة ومراجعة دورية - من أجل ضمان سلامة الجودة والتطبيق في المهنة).

إقتباس من مقال دكتور عبد المنعم:
"أقترح هنا مراجعة كل ما يكتب قبل اعتماده للنشر مثل الشعارات ولافتات المؤسسات والمحلات التجارية والسياحية والحكومية وما يعرض على شاشات التلفزة كما على كل الخلاوي والمدارس والجامعات ووزارة التربية والتعليم ووسائل الإعلام شن حرب على تفشي أخطائنا اللغوية عربية أو إنجليزية والعمل على علاجها منذ تعليم الأطفال المواليد نطق الحروف والكلمات ومن بعد فى المدارس، وقديماً قيل لنا: (التعليم فى الصغر كالنقش على الحجر)".

مداخلة أخيرة: أوافق رأي الدكتور عبد المنعم فيما أقترح:
أولا: كل شيء يبدأ بالنطق الصحيح، ثم تتلوه التسمية المناسبة. وكثيرا ما يستهان بالتسمية، ولكنها هي تعتبر سلاح ذو حدين. نجد على سبيل المثال الإستهوان المبكر بالتسمية في أسماء المواليد - سواء كانت أسماء قديمة أو أسماء حديثة. فهناك من يحاول أن يجري التجارب النووية في تسمية طفله أو أطفاله (أغلى ما يملك في الحياة). وتكن النتيجة الحتمية معاناة الطفل منذ الصغر من جراء أسمه الغير مناسب. الشيء الذي يجبر بعضهم على تغييره لاحقا، ومنهم من يعيش به منكد النفس ومكدر العيش طوال حياته، خصوصا البنات منهم. ومن يفلح في تسميته لأطفاله بأسماء جميلة، يفلح أيضا بدوره في جلب السعادة لأنفسهم عن طريقها. فكثير ما يباهي الأطفال، ومن دون مبالغة بجمال معاني أسماءهم، والبعض يحكي قصص شيقة عن مناسبة التسمية، وكيف اختيرت من قبل والديه.

ثانيا: للتسمية دور هام في العرض والتسويق، فاللافتة الجميلة تأثير ايجابي على النفس، وتقود لطرق أبواب المحلات التجارية والأسواق والمؤسسات. كما لها دور فعال في النهوض بالسياحة القومية، وفي جلب السياح للبلاد. ولننظر إلى لافتاتنا الموجودة الآن، سواء كانت معلقة في رياض الأطفال أو المدارس أو الجامعات أو المستشفيات أو المطارات أو المتاحف أو الوزارات. ولنسأل أنفسنا بصدق: هل هي فعلا لافتات مواكبة للتطور، ومواتية لتقديم الدعوة للسياح والزوار لكي يأتوا لنا، وهل يتم تجديد هذه اللافتات دوريا، أم هي لافتات تدخل الرعب والخوف في النفوس، وتدعو للانصراف والنفور إن وجدت؟ حينها يعرض علينا أكثر من سؤال، تصعب الإجابة عليه.

ثالثا: إذا تمعنا النظر في عالم اليوم، فهو عالم الجودة العالية، والعرض الممتاز. نجد الآن بلدان صارت رائدة في مجالي الجودة والعرض معا – وهذا لأن هذه البلدان لا تكتفي فقط بالأثنين، بل تجتهد أيضا في إجراء البحوث لتطويرها. ونجد في نفس الحين بلدان بدأت حديثا في التجويد، وتطورت في عرضها، لتجعل من السياحة مصدر دخل مضمون لها ولأهلها. على سبيل المثال أهل سلطنة عمان. هنا يحرص أهل سلطنة عمان على كتابة اللافتات أي كانت باللغتين العربية والإنجليزية. وكما هو الحال في تونس، التي يحرص أهلها على التسمية في المؤسسات بثلاثة لغات: العربية، والفرنسية، والإنجليزية. وهذا ليس تواضعا منهم، أو انبطاح لغيرهم، بل هو السبيل المتبع لتعريف السياح والزوار بما يملكون من مواقع (مثلا: القرى، المدن، الشوارع، الفنادق، الشقق، المنازل، المتاحف) أو من منتجات (مثلا: المنتجات المحلية، الصناعات البلدية). ليتم تسويقها سياحيا، ولتجلب العملات الأجنبية كدخل سياحي لا بد يفوت على للبلد وعلى لأهله.

رابعا: دعونا في البداية نبدأ بتحسين أسماء أطفالنا، أسماء تحسين تسميات بعض مناطقنا أو أحياءنا التي جارت عليها وعلى أهلها التسميات "الشينة"، ومن ثم تتلوها شن حملة الإصلاح على اللافتات المرعبة. فهناك حقيقة من الأسماء والتسميات التي يستحسن عدمها، ومن اللافتات التي يستحسن انزالها. ولننسى السياحة والتسويق ككل، فما هو هذا التنوع اللغوي والتحري في التسمية، إلا تدريب عملي لأطفالنا، ولحثهم على الالمام بأكبر قدر ممكن من المفردات والحصيلة اللغوية منذ الصغر. لقد كانت تقاس ثقافة الفرد قبل سنوات بعدد الصحف والمجلات والكتب التي يقرأها بلغة واحدة. والآن تقاس ثقافة الفرد بعدد اللغات التي يتحدثها أويستخدمها، لإنتقاء المعلومة المفيدة.

E-Mail: hassan_humeida@yahoo.de

روابط للدكتور عبد المنعم عبد المحمود العربي، ذات الصلة بالمقال أعلاه:

هل يعجبك اسمك؟
https://www.sudaress.com/sudanile/57081


الطب والفنون:
https://www.youtube.com/watch?v=nc8ZDsAoX2o


 

آراء