في نهاية كل عام ، درج كثير من الناس ان يتوقفوا ليتدبروا عامهم الذي مضى متطلعين الى العام الجديد متمنين ان يكون احسن من الذي مضى وبعضهم يضع قراراته لعام جديد لا يدرون ماذا يحمل لهم.
بالنسبة للسودانيين فان بداية العام الجديد و الاحتفال به تتزامن مع مناسبة استقلال السودان، وقد درجنا نحن السودانيين ان نحتفل كل عام بمناسبة الاستقلال بصورة روتينية وفي الغالب لا نفرق بين المناسبتين و أحيانا كثيرة لا نميز هل هو حقا احتفال ام هروب من الفشل و الخيبات المتكررة على طول عمر استقلالنا السياسي و لذلك نختبيء وراء أضواء الاحتفال بالعام الجديد ، أقول هذا الكلام و بالأمس فقط وافق مجلس الشيوخ الأمريكي على مشروع قرار يمكن السودان من استعادة الحصانة السيادية و قبلها رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب وغدا تنتهي ولاية قوات الأمم المتحدة المعروفة باسم يوناميد التي بقيت في السودان لاكثر من ثلاثة عشر عاما تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لحماية المدنيين في مناطق الحرب.
لذلك قررت ان لا ادع نفسي تعيش في وهم الاحتفال بالاستقلال حيث واقع الحال يقول اننا لسنا في حالة استقلال و اننا لا نحتفل بل نخادع النفس.
فقد ولدت في بداية الخمسينات من القرن الماضي و لا تزال البلاد تعيش أجواء الاستقلال و لا زالت في الذاكرة بعض منها مثل ارفع راسك حرر نفسك و اناشيد و أغاني مثل: نار الكماين ديل، و انا ما بروق و الفايزين ناس يحي و زروق و الدائرة لمين .... لنصر الدين .....و دخلنا المدرسة الأولية و كنا نردد المحفوظات من قبيل سودان يا سودان اسد الغاب تحميك و هيا نجني هيا نجني لوز القطن و دجاجي يلقط الحب و يجري و هو فرحان وغنمي ترعى وسط المرعى و... و(ليتنا لم نكبر و لم تكبر البهم) و نردد الأناشيد مثل في القولد التقيت بالصديق و من هناك الى ريرة و الجفيل و ودسلفاب و منقو زمبيري وقل لا عاش من يفصلنا و نحن في هذا الجو يقع انقلاب الفريق ابرهيم عبود ،و كبرنا و دخلنا المدرسة المتوسطة(الكاملين) حيث المنافسات الرياضية و الأدبية و ياتينا ناظر جديد قادم من الجنوب (حسن مصطفى) و في محاضرة يكلمنا عن الحرب في الجنوب و لأول مرة نسمع بالاب ساترنينو و اقادي جادين و يبدا النقاش و ...ونسمع باخبار المظاهرات و في أكتوبر خرجنا نتظاهر ، و أتذكر أيضا في تلك المرحلة و بعد صلاة الجمعة استمعنا لرجل يخطب بعد الصلاة و علمنا ان اسمه الدكتور حسن الترابي و اذكر مما علق في ذهني من كلامه في تلك الفترة:انك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء ،
وهدات المظاهرات و انتقلنا الى المرحلة الثانوية في حنتوب حيث الجرائد الحائطية و الصحف في مدني و الند وات واضرابات الطلاب و التفاعل مع ما يجري من احداث خارج المدرسة مثل حل الحزب الشيوعي و طرد نوابه من البرلمان ثم حرب يونيو 1967
وما ان انتهينا من المرحلة الثانوية و نحن نستعد لدخول الجامعة قام الانقلاب العسكري في مايو 1969 بقيادة جعفر النميري و توالت الاحداث و جاء انقلاب يوليو 1971 ثم ما سمي بالغزو الليبي في 1976،
في هذا الاثناء أيضا كانت الحرب تدور في الجنوب تخللتها اتفاقية اديس ابابا في 1972 ثم عادت الحرب مرة أخرى في 1981 ،
وما ان تخرجنا من الجامعة و انتظمنا في الحياة العملية تفاقمت الأوضاع حتى قامت اتفاضة ابريل 1984 و استمر التربص بالديمقراطية و في يونيو 1989قام الانقلاب العسكري بتخطيط و تدبير الجبهة الإسلامية و بقيادة عمر حسن البشير.وبعد السيطرة التامة على البلد من خلا القهر و القتل و التعذيب و التشريد و التمكين للحكم الجديد كنت ضمن الالاف الذين طالهم الفصل التعسفي و بما اني كنت اعمل في بعثة السودان للأمم المتحدة في نيو بورك فقد فضلت البقاء في الولايات المتحدة و ما زلت و منذ قيام ثورة ديسمبر وارجاع بعض المفصولين تعسفيا في عدد من المصالح و الوزارات الا ان وزارة الخارجية ما زالت تتلكأ و تجرجر رجليها للبت في امر المفصولين تعسفيا.
لقد سرق نظام الإنقاذ ثلاثين عاما من عمرنا وهيهات ارجاعها و بالنبسة لي اذا اضفت اليها سنوات الحكم العسكري السابقة (6+16)فان المجموع يصبح 52 سنة من عمري و كذا من عمر السودان.(جدير بالذكر انه خلال وجودى في الولايات المتحدة تعاقب على حكم أمريكا كل من :الرئيس جورج بوش الاب و الرئيس بيل كلينتون لدورتين، و الرئيس جورج بوش الابن لدورتبن، والرئيس باراك أوباما لدورتين، و الرئيس دونالد ترمب المنتهية ولايته و سيخلفه في يناير الرئيس جو بايدن ،وفي السودان بقي عمر البشير ثلاثين سنة في الحكم الى ان ازيح عنه عن طريق الثورة )
ابعد كل هذه السنين من عسف وظلم الحكم الشمولي ومعاناة الفصل التعسفي في الغربة يبقى في النفس ما يجعلها تحتفل؟ لكن ما يسعد الانسان انه قامت ثورة ديسمبر المجيدة بايدي ودماء الشباب، فهولاء الشباب هم الامل في بناء السودان الجديد . لكن الثورة لم تكتمل بعد لان هناك قوى داخلية و خارجية تتربص بها و تريد القضاء عليها و على راس هذه القوى المكون العسكري و هذا هو اس البلاء بالنسبة لمشاكل السودان و بقاءه في الدائرة الجهنمية للحكم الشمولي والعزلة الدولية و تردي الأوضاع و لن يكون في مقدور السودان ان يحتفل باستقلال حقيقي الا بالحكم المدني فقد شاهد ت صور فض الاعتصام ومنها حينما يضرب العساكر المعتصمين ليخرجوهم و يصيحون فيهم باستهزاء و احتقار: مدنية و لا عسكرية ، هذا ما ربوهم عليه و لقنوه لهم ا:حتقار المدنية و المدنيين و قد تجلت روح الكراهية هذه في الايام الأخيرة بموت عدد من الشباب و اخرهم بهاء الدين نوري عليه الرحمة و على كل الشهداء،،
لن ينصلح حال السودان الا بتثبيت الحكم المدني و ترسيخ الديمقراطية.
في الفترة الأخيرة و بعد سلام جوبا ترددت كثيرا عبارة ان هذه الاتفاقية تخاطب جذور الازمة في السودا ن ،اود ان اعبر عن اختلافي و أقول ان جذور الازمة تكمن في نظام الحكم الشمولي.
كسرة: يحكى ان هناك رجلا متزوجا من قريبة له و مرضت الزوجة طويلا و ماتت، و لانها تركت أطفالا صغارا زوجوه اختها و بعد فترة مرضت أيضا و ظلت في (مرض الموت) كما يقولون لفترة واشفقت والدتها عليها وجاءت الزوج تترجاه: عليك الله يا فلان كان ما طلقتها كان ترد ليها رويحتها شوية) و ليت العسكر يفعلون.
عباس احمد النور الجريفاوي
دبلوماسي مفصول تعسفيا
واشنطن
ديسمبر31 2020
aeabanoos@gmail.com