بين مالي والسودان … بقلم: د. أسامه عثمان/أبيدجان

 


 

 

أسفرت القمة الخاصة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا ( (ECOWAS التي انعقدت يوم الأحد 9 يناير 2022 ، في أكرا عن اتخاذ قرارات صارمة في حق الحكومة الانقلابية في مالي تمثلت في سحب السفراء وإغلاق المجال الجوي والبري بين مالي ودول المجموعة وإيقاف العمليات التجارية فيما عدا السلع الأساسية مثل المواد الغذائية والدواء والوقود والكهرباء وتجميد المعاملات المالية وأصول دولة مالي في البنك المركزي لدول غرب أفريقيا ذات الفرنك الأفريقي الموحد وعددها ثمانية دول مما يعني عجزها عن صرف رواتب موظفيها بعد نفاد مخزونها من الفرنك الإفريقي الذي يقدر بانه يكفي لمدة شهرين ولا يمكن أن تطبع منه لان إصداره يتم بشكل موحد في دول مجموعة الاتحاد النقدي والاقتصادي وهي مجموعة تضم ثمانية بلدان جميعها أعضاء في مجموعة الإيكواس التي تضم 15 بلدا من غرب أفريقيا وتمثل أنشط المجموعات الإقليمية للاتحاد الأفريقي (ضمت القمة الأخيرة 13 بلدا بسبب تعليق عضوية مالي وغينيا بعد الانقلابات في البلدين) انعقدت قمة دول الاتحاد الاقتصادي النقدي قبيل اجتماع ايكواس في العاصمة الغانية أكرا. ولقد جاءت هذه القرارات ذات الوقع الثقيل على سلطة الانقلاب التي يرأسها الكولونيل هاشمي غوتا الذي قام بانقلابيين متتالين في أغسطس 2020 عندما استقل الحراك المدني المعارض للرئيس إبراهيم بوبكر كيتا الذي قاد حكما متعثرا على الرغم من انتخابه للمرة الثانية قاد الحراك المدني تجمعا مكونا من بعض الأحزاب السياسية ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات قومية مثل الإمام محمود. قفز الكولونيل غويتا إلى السلطة مع كولونيلات آخرين وأطاح بالرئيس بوبكر كيتا واعتقله في مكان آمن في إحدى القواعد العسكرية واضطره للاستقالة. واختاره زملاؤه من الكولونيلات رئيسا للجنة الوطنية للإنفاذ وبالتالي رئيسا للبلاد ولكن تحت ضغط العقوبات التي فرضها الاتحاد الإفريقي والإيكواس وضغط المجتمع الدولي الذي أراد مدنيا في الواجهة وبعد ملاواة تم توقيع ميثاق للانتقال الذي قضى بتعيين جنرال متقاعد رئيسا للبلاد ورئيس وزراء مدني واكتفى الكولونيل غوتا بمنصب نائب الرئيس في حكومة مدنية بعد أن استطاع أن يضع فيها أقرب مساعديه كولنيل كيتا وكولنيل كوني في منصبي وزير الدفاع ووزير الداخلية. قضى ميثاق الانتقال أن تكون مدة الانتقال 18 شهرا تقام بعدها انتخابات نيابية ورئاسية في نهاية فبراير 2022 ويسلم الحكم كاملا للمدنيين. وأقيم مجلس للانتقال بمثابة مجلس تشريعي مؤقت ضم الكثير من الشخصيات التي كانت منضوية تحت لواء تجم القوى الوطنية التي قادت الحراك ضد الرئيس بوبكر كيتا حتى سقوطه بانحياز الجيش للحراك ولكن سرعان ما أعلنوا أن الثورة قد سرقت منهم وصار في معسكر معارضة حكومة العسكر عندما تكون المجلس الانتقالي وضم شخصيات انشقت عنهم. لم يعجب الكولونيل هاشمي غوتا أن يكون نائبا للرئيس وهو يعتقد أن للجيش القدح المعلى في الإطاحة بنظام بوبكر كيتا المنتخب ولولا الجيش لما وقع تغيير فانتهز فرصة أول تعديل وزاري في مايو 2021، وانقلب على السلطة المدنية من جديد بحجة أن رئيس الوزراء لم يحترم ما اتفق عليه في ميثاق الانتقال واستبعد مساعديه من العسكريين من الحكومة دون التشاور معه في وظائف الأمن والدفاع كما يقضي الميثاق، فاعتقل رئيس الوزراء ووزير الدفاع الذي عينه ووضعهما تحت "رعايته" في قاعدة عسكرية واستلم السلطة في انقلاب داخل الانقلاب كما اسماه الرئيس الفرنسي ماكرون. وعين نفسه رئيسا للبلاد للفترة الانتقالية بقرار من المحكمة الدستورية التي أخذت علما بخلو منصب الرئيس مما يقتضي تعيين نائب الرئيس ليحل محله وأدى القسم رئيسا للبلاد وطلب من قوى الحراك المدني المعارضة بما فيها تجمع القوى الوطنية اختيار رئيس وزراء فتم اختيار السيد مايغا من أوساط المعارضة. سرعان ما بدأ أنصار الانقلاب مع بعض المدنيين يرددون بان فترة الانتقال قصيرة وغير عملية للظروف الأمينة التي تمر بها البلاد في محاربة المجموعات الجهادية المتطرفة وضرورة وضع دستور متوافق عليه وإجراء إصلاحات سياسية لا بد منها لاستمرارية الديمقراطية بعد الانتخابات وحتى لا يحدث انسداد كالذي حدث بعد انتخابات بوبكر كيتا للمرة الثانية. كان رد فعل مجموعة الإيكواس تجاه الانقلاب الثاني شبيها بموقفها الحالي في فرض عقوبات شملت 150 من الشخصيات العسكرية والمدنية ممن يعتبرون من المعرقلين للانتقال المدني الديمقراطي، منها المنع من السفر وتجميد الأموال. ورفعت العقوبات المتعلقة بإغلاق الحدود وتجميد الأصول في شهر أكتوبر 2021، باعتبار قرب موعد الانتخابات المحدد في فبراير 2022. للهروب من الموعد المضروب لتسليم السلطة للمدنيين بعد إجراء الانتخابات نظم الكولونيل وحكومته في شهر ديسمبر 2021، ما أسموه "الحوار الوطني التأسيسي" لم يدع له الحركات المسلحة مثل مجموعة الأزاواد في الشمال من الموقعين على اتفاقية السلام في الجزائر على عهد الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا ولقد قاطعت الكثير من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني الحوار لإلزامية مقرراته وفقا لتفسير الحكومة لها ولقد شمل أشياء مثل تقليل عدد الأحزاب في الساحة وتحديد سقف لصرفها في الانتخابات مما لم يرق لبعض الأحزاب. سعدت الحكومة بالحوار التأسيسي الذي صار الكولنيل غوتا بموجبه هو "المؤسس" وقد أقر الحوار مبدأ عقد الانتخابات في فترة تتراوح ما بين ستة أشهر إلى خمس سنوات على أن تختار الحكومة المدة المناسبة فاختارت الحكومة مدة خمس سنوات للفترة الانتقالية بقيادة الجيش على أن تجرى الانتخابات التشريعية في ديسمبر 2025، والانتخابات الرئاسية في عام 2026، للفراغ من تفكيك البنية القديمة للحكم والتأسيس لنظام مدني رشيد . رفضن مجموعة الإيكواس ذلك الطرح مما استوجب عقوبات الإيكواس القاسية.
توقع الكولونيل غوتا أن يتخذ زعماء غرب إفريقيا بعض الخطوات ضد حكومته ولكنه لم يتوقعها بتلك القسوة. وبما انه لم يدع لحضور القمة لتجميد عضوية مالي في أجهزة اتخاذ القرار في المجموعة فقد ارسل وزيرين لمحاولة التأثير على الزعماء على هامش القمة من بينهما وزير الخارجية عبد الله ديوب الذي يشغل المنصب للمرة الثانية بعد أن كان قد شغله على عهد الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا وهندس اتفاقية الجزائر مع مجموعة الأزاواد ثم ترك المنصب وعاد ليعمل مديرا لمكتب موسى فكي رئيس لجنة الاتحاد الإفريقي قبل إن يستقيل ويلتحق بالخارجية بدعوة من مايغا رئيس الحكومة الحالية وهو من أكثر الوزراء خبرة ولكنه لم ينجح في إقناع الزعماء بالا يهووا باليد الغليظة على حكومة بلاده. بعد أن أعلن الكولونيل تحديه لقرارات القمة الغرب أفريقية ودعوة شعبه للصمود وعدم الاستسلام لإملاءات الدول الغربية على دول الجوار سرعان ما عاد ليعلن استعداده للحوار بما في ذلك مناقشة طول الفترة الانتقالية.
هنالك تيار متنام معاد لفرنسا خصوصا في أوساط الشباب منذ أن أعلنت انسحابها الجزئي من مالي ولجوء مالي الى مرتزقة شركة فاقنار الروسية لتدريب جيشها وليس القتال إلى جانبه كما تزعم فرنسا وهنالك تيار متنام يأخذ على فرنسا فشلها في القضاء على الجماعات الإرهابية على الرغم من إن جيشها يقاتل منذ عشر سنوات على ارض مالي وأن ما تحقق من انتصارات كان بفضل جيش الرئيس أدريس دبي المشارك في عمليات مكافحة الإرهاب في دول السهل الإفريقي بما في ذلك مالي. ولقد ساءت العلاقة مع فرنسا منذ أن اعترض ماكرون بشدة على الانقلاب الثاني ودعوة الحكومة المالية لروسيا لتقديم الخبرة العسكرية لمكافحة الإرهاب ولقد هاجم رئيس الوزراء مايغا فرنسا في الجمعية العامة في سبتمبر2021 واتهمها بانها قررت ترك الطائرة وهي في الجو في إشارة لقرار سحب القوات دون إكمال المهمة. ورد ماكرون بانه لولا تدخل فرنسا لما كان هنالك حكومة في مالي.
لا شك أن لفرنسا دورا في التأثير على بعض زعماء الإيكواس لاتخاذ ذلك الموقف المتشدد من حكومة الانقلاب مثل الرئيس العاجي الحسن واطرا ولكنها قطعا لا تؤثر على دولة مثل نيجيريا وهي أكبر دولة في المجموعة وربما أهمها أو غانا والدول غير الناطقة بالفرنسية في المجموعة. في اعتقادي أن الموقف المتشدد لدول المجموعة دافعه هو حرص المجموعة على سمعتها بعد أن تكررت الانقلابات في المنطقة ولم تكن حاسمة في اتخاذ موقف مبدئي من خلالها كمجموعة إقليمية أو من خلال الاتحاد الإفريقي. وهذا الدافع هو الذي جعل الاتحاد الإفريقي يتخذ موقفا صلبا بتجميد عضوية السودان بعد الانقلاب الأخير للجنرال البرهان وإن اسماه إجراءات تصحيح المسار وعلى الرغم من سعي الدبلماسية المصرية لتجنب ذلك القرار. يخشى زعماء مجموعة الإيكواس من انتشار ظاهرة الانقلابات في المنطقة بسبب سوء الحكومات المنتخبة في إدارة شؤون البلاد ويريدون وضع حد لذلك بعد الذي حدث في غينيا وفي تشاد على الرغم من أنها ليست عضوا في مجموعة الإيكواس ولقد كان صوت زعماء المجموعة الممثلين في مجلس السلم والأمن الإفريقي (نيجيريا والكاميرون والسنغال وبنين) عاليا عندما نوقش تعليق عضوية السودان بعد إجراءات البرهان في 25 أكتوبر الماضي التي حاول البعض في المجلس تصويرها بانها ليست انقلابا ولم يحل ذلك دون قرار تعليق العضوية. بالأمس أوقفت السلطات في بوركينا فاسو ثمانية ضباط كانوا يخططون للإطاحة بالحكومة المدنية. وبينما انحسر عهد الانقلابات في جميع أنحاء العالم ها هو يطل برأسه من جديد في إفريقيا لعدم صبر المواطنين على الحكومات المنتخبة وسوء أدائها إلى جانب أن آلية الانتخابات لا تزال متعسرة في بعض الحالات وتزيد من تعقيد الأوضاع في حالات أخرى.
لا تزال مالي تحت صدمة العقوبات الصارمة ودعوة الحكومة للصمود وعدم الالتزام للإملاءات ويرى بعض الماليين في الكولنيل هاشمي غوتا صورة للنقيب توماس سانكرا أيقونة النضال والثورة ومناهضة الإمبريالية على الرغم من أن هاشمي كان يبلغ من العمر أربع سنوات عندما قتل سانكرا في عام 1987 في عملية قام بها بعض رفاقه يعتقد بأنها من تدبير مخابرات الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا ميتران وربما تكشف المحاكمة التي تجري حاليا في واغادوقو ملابسات ذلك الاغتيال. ولد غوتا في عام 1983 لوالد يعمل ضابطا في الجيش ودرس في المدرسة الثانوية العسكرية التي يلتحق بها معظم أبناء الضباط ثم في الأكاديمية العسكرية في بلاده وتلقى دورات تدريبية في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وكان قائدا للقوات الخاصة عندما قام بانقلابه وعمل لفترة قصيرة ضمن قوات حفظ السلام بدارفور. يعتبر غوتا عند الكثير من الماليين وجها مقبولا وعسكريا محبوبا من زملائه ولا يرى الكثيرون حرجا في قيادته إن لم يكن عسكريا ربما تدخر له الأيام دورا سياسيا في بلاده في المستقبل وربما يحسده جنرالات السودان على هذه المقبولية من شعبه وهم يبحثون عن تقاعد هادئ ليس مشوشا بالتهديد بالملاحقة أمام القضاء.
لم تكن كل دول الإيكواس مجمعة على العقوبات القاسية على مالي حيث ترى بعض البلدان أن العقوبات تضر أكثر بالشعب وليس بالطبقة الحاكمة ولقد رد أنصار العقوبات بأن السلع الضرورية مستثناة ويرى البعض أن البنك المركزي وأجهره الاتحاد الاقتصادي النقدي ينبغي أن تكون بعيدة عن الاعتبارات السياسية وان تظل أجهزة فنية وواقع الحال أنها ليست فنية لان القرار النهائي لرؤساء الدول والحكومات ولقد رأينا أن البنك الدولي من أول الهيئات التي تعلق مساعداتها عندما يقع انقلاب أو اضطرابات في بلد ما. ولا يزال السودان محروما من المساعدات التي كانت معلنة ومجدولة بسبب عدم الاستقرار السياسي الحالي بعد انقلاب البرهان في أكتوبر الماضي.
اختارت حكومة العسكر في مالي طريق المواجهة. والسؤال هل ستستطيع الصمود علما بأنها محاصرة بست دول أربع منها من مجموعة الإيكواس وتبقى حدودها مع الجزائر الممتدة على مدى 1000 كيلومتر مفتوحة كما أن حدودها مع موريتانيا تمثل مخرجا للسلع التي تأتيها من المغرب عبر موريتانيا وتبقى حدودها مع غينيا التي يحكمها العسكر الواقعون هم أيضا تحت عقوبات الإيكواس مع تعليق عضويتهم ويظل خط الإمداد الأساسي بالسلع والوقود هو عبر ميناء داكار وميناء أبيدجان لان مالي كما هو معروف بلد غير مشاطئ للبحر. والسنغال وكوت ديفوار من البلدان المتشددة في مسالة العقوبات على الرغم من الضرر المترتب عليهما من قفل الحدود وفقدان رسوم العبور وحركة الشاحنات عبر الحدود.
كثير من الوقائع في مالي تشابه الوقائع في السودان كما لو أن هذا البلد الذي كان يسمى السودان يوما أو السودان الفرنسي في مقابل السودان الإنكليزي المصري مصيره شبيه بمصير السودان.
د. أسامه عثمان، أبيدجان
ussama@gmail.com

 

 

آراء