الانقلابات العسكرية: شرايين السودان النازِّفة

 


 

 

المحاولة الانقلابية الفاشلة مؤخراً وما صحبها ويصحبها من احداث تهدد بالمضي في طريق الانقلاب أو على الأقل تغيير السلطة وفض الشراكة من واقع منبع الانقلاب المتمثل في المكون والتكوين العسكري للانقلابات التقليدية؛ تعيد إلى الأذهان السؤال والبحث عن جذور أعقد وأقصر وسائل الوصول الى السلطة وكيف هيمنت على العقل الجمعي والسياسي كوسيلة وحيدة دون غيرها للانقضاض على شرعية السلطة. وإن لم تعد الانقلابات في سياق ممارسة السياسة والتسلط ظاهرة ينشغل بها الباحثون والمهتمون بالشأن السياسي وحسب بل تشكل وعي جديد لدى طائفة واسعة من المواطنين أدركت معه فداحة الكلفة المرتفعة لمغامرات الانقلابيين على صعيد التطور الاقتصادي والحقوق السياسية والحريات والكرامة الإنسانية وكل ما تقوضه سلطات الانقلابات وتعمل عكسه تماما.
والسؤال الذي يشغل بال المتابعين أيضا لماذا أصبحت دورة الحكم ديمقراطي- عسكرية كدائرة جهنمية مفرغة في تداول السلطة وتغيير السلطة وقد استقطعت ما يزيد على النصف قرن من تاريخ البلاد منذ الاستقلال؟ وإذا كان الكثيرون يلجؤون الى تبرير ذلك من خلال معطيات الواقع السياسي والجيوسياسي المتعلق بمحيط السودان في المحيطين الأفريقي والعربي وهو محيط نشأت الدولة الوطنية فيه على أسنة انقلاب الجيوش (الوطنية) فكانت فأصحبت هي الدولة والانتخابات والدستور والزعامة والوصاية. ولكن ربما اختلفت تجربة الحكم في السودان من واقع البدايات التشريعية والحركة الوطنية والنهضة الثقافية التي قامت على التأسيس المدني، فمؤتمر الخريجين سبق ظهوره قوة دفاع السودان وكذلك الأحزاب السياسية من اليسار الى اليمين، وغيرها من تيارات ثقافية وشعبية استنهضت الهمم في بناء الوطن في التعليم والوعي والتربية الوطنية. ولم يكن من جيش وطني بحكم طبيعة الحكم الثنائي.
وثم أن التحول التاريخي البارز في اعلان الاستقلال من داخل الجمعية التأسيسية وهي مؤسسة تشريعية تمثل احزاباً سياسية مدنية. فأي تكن حجج منظري الانقلابات من المدنيين وأصحاب الرؤية الشمولية في الحكم من أن البلاد ليست مؤهلة للحكم الديمقراطي (ديمقراطية ويسمنستر) في مجتمع تتشكل مكوناته الاجتماعية من مجموعات طائفية وقبلية تحتكر فيه الممارسة الديمقراطية على بيوتات بعينها وتستبدل الصوت الانتخابي بإشارة الزعيم الطائفي. ومع وجاهة هذا الآراء في سياق التحليل الاجتماعي السياسي Sociopolitical إلا أن تطاول طرح مثل هذه المؤشرات البحثية بعد كل هذه المدة التي قطعتها الدولة السودانية الوطنية يجعل من التسليم بفرضياتها لا يعني سوى التسليم بالجمود والثبات والمحافظة على ما هو قائم دون تأثر بحركة التحولات التاريخية في التقدم أمراً غير مستساغ عقلا. وهذا إذا لم نأخذ نماذج اثمرت فيها الديمقراطية واستمرت في واقع ربما فاق كثيرا تعقيدات المجتمع السوداني بكل تعدده الإثني واللغوي وغيره من تباين آخر إن وجد. فإذا تعلق الأمر بإدارة دولة لا يرى الانقلابيون في جهازها التنفيذي ومؤسساتها ومن يديرها من خبراء ومتخصصون (مدنيون) سوى افراداً متسيبون الا يعملون إلا بفرض الوصاية العسكرية المباشرة ففي ذلك تغاضى عن حقائق لا يجهلها أحد في أن كيف أصبحت الدولة الحديثة وقد تخطت مثل هذه الرؤية الفاشية واستحدثت وسائل صنع واتخاذ القرار فيها وصولا الى الحكومة الكترونية حتى في تلك الدول التي لا تملك انفتاحا سياسا. ومشكلة تفسير النظام في الدولة بين الضبط والربط بالمفهوم العسكري السائد مقابل فوضى الديمقراطيين المدنيين دائما ما ترجح الخيار الانقلابي لإعادة النظام. وثمة نسبية في النظام الذي يعني إدارة منظومة أجهزة الدولة في بلدان العالم الثالث كما رآها المفكر السياسي الأميركي صموئيل هنتنغتون في مؤلفه (النظام السياسي لمجتمعات متغيرة) بأن النظام نفسه مهم لمجتمعات الدول النامية سواء أكان هذا النظام هذا النظام ديمقراطي أو سلطوي (ديكتاتوري) أو يعمل على نظام السوق المفتوح (ليبرالي). ولا يجادل أحد في أهمية وجود جيش قوي يعبر ويحمي مكتسبات أي دولة كانت كأحد مكونات اركان الدولة.
والواقع ان الانقلابات العسكرية ليست بمعزل عن الممارسة السياسية وصراع السلطوي فمنذ أول انقلاب 1958 كان من ورائه الجانب المدني بإلقائه للسلطة في ايد العسكريين لحماية للبلاد وحسم الفوضى. ومن ثَّم بهذه الدعاوى انفتحت الباب على مصراعيه لكل من تراوده أحلام الحكم واستسهال تسلم السلطة بالزحف الانقلابي بين الفينة والأخرى. فلا عجب وبهذا وصلت التطور المعاق وصل الى السلطة من لا ينتمون إلى أي مؤسسة العسكرية إلا بما يحملونه من عتاد السلاح. وبما أن طبيعة الانقلابات العسكرية ظلت على صيغتها التقليدية من ناحية التنفيذ والإجراءات والأسلحة المستخدمة وتلاوة البيانات إلا أن عاملاً جديدا اضيف الى تركيبة الانقلابات فصبغتها بصبغتها الايدولوجية كانقلاب مايو 1969 وانقلاب الجبهة الإسلامية 1989 والذي شكل آخر حالات الانقلابات التي تجاوزت بساطة الانقلابات السابقة عليها من حيث الاعداد والتمويه والانكار ثم الظهور العنيف بالقهر والإذلال والاستدامة في السلطة إلا انتزعتها اقتلاعا ثورة ديسمبر كشأن كل الحكومات التي تأتي انقلابا وتنتهى إلى محاكمة (مدبري الانقلاب).
وعادة ما تكون المجموعات الانقلابية متعطشة لشرعية تفقدها وتخلق لنفسها تفويضاً بإطلاق صفات ثورية وشرعية وتصحيحية وتدعي بإنها هي من فجر الثورة فقد حدث هذا في مايو (ثورة مايو) وأخيرا الإنقاذ باستثناء حركة 17 نوفمبر التي كما قال أحد قادتها وهو يرد على سؤال الصحفي المصري محمد حسنين هيكل عن هوية ما قاموا به، فرد بأن قال: نحن آباء ذلك الشيء الذي حدث في السودان ونحن أحرار نطلق عليه أي اسم نشاء. ثمة جانب لا يعيه ويتعلمه المدنيون الذين يدفعون بالجنرالات الى تنفيذ الانقلابات وهي أن بريق السلطة سريعا ما يدفعهم إلى الانقلاب على المجموعات المدنية وينشأ الصراع حول السلطة وتستخدم فيها الأدوات الانقلاب (السلاح والبيان الأول) حدث هذا في كل من الانقلابين المذكورين وكانت النتائج فادحة كما في حركة 19 يوليو التصحيحية ومفاصلة الإسلاميين الشهيرة 1999بين جنرالات الجبهة الإسلامية وقياداتها المدنية في تلك الاحداث العاصفة. ولأن الانقلابين باستنادهم الى قوة السلاح والأمر الواقع يفتقدون الى خطط فيما يدعون ما جاؤوا لأجله من انقاذ اقتصادي وتنمية وغيرها فكانت الانقلابات منصة لمشروعات وتوجهات اتصفت بالتناقض فمن اشتراكية ستالينية وقومية عروبية إلى امامة وخلافة إسلامية ومشروع حضاري. ولم يكن من المستغرب أن يصرح حميدتي في آخر مخاطباته: نحن نؤمن بالديمقراطية!
ومع أن كل الكلفة الباهظة للانقلابات التي دفع ثمنها الشعب ومؤسسته العسكرية في الأرواح واعاقتها التطور الديمقراطي والتنموي بالبلاد ماذا جنت البلاد؟ ومن غير تفاصيل الإجابة التي يبرزها الواقع السياسي اليوم بكل أزمته الصحية المتدهورة فإن التفكير في كما يرى البعض بأن الأمور لا تعود الى نصابها الا عبر انقلاب عسكري فتلك كارثة أخرى ونسخة رثة لأدوات في التغيير لم يعد تصلح لحكم راشد ودولة عصرية تعامل مواطنيها على أساس من الاحترام. ففي نهاية الأمر الانقلاب لن يكون بديلاً عن خيار ديمقراطي بمارس الديمقراطية وفق وسائلها المشروعة ولو أنها أي الديمقراطية في قول السياسي البريطاني الأشهر ونستون تشرشل من بين اسوأ اشكال الحكم باستثناء جميع الاشكال الأخرى التي تمت تجربتها. وما تطلع اليه أهداف ثورة ديسمبر المجيدة استقرار نمط الحكم بما يوقف نزف الدماء ويحقق الاستقرار في السياسية والحكم.
نشر بصحيفة _الديمقراطي# عدد اليوم 29/09/2021م الخميس.

anassira@msn.com

 

آراء