التأخر عن ركب تاريخ الذهنيات من نتائجه حرب البرهان العبثية

 


 

طاهر عمر
23 April, 2023

 

حاولت جاهدا أن ألفت بال النخب السودانية الى أن مشهد الفكر في السودان حالته متأخرة جدا و أن هناك عمل يحتاج لمجهود جبار لكي يرى النور لأن هناك تأخر كبير و قد إمتد على مدى فترة زمنية تكاد تقارب القرن من الزمن. في عام 1929 في زمن الكساد الاقتصادي العظيم أيقنت النخب في العالم المتقدم بأن فلسفة التاريخ التقليدية في آخر أنفاسها و أن فلسفة التاريخ الحديثة قد بدأت ترسل أول طلائع أشعتها.
هذا يتزامن مع تكون طلائع الخريجيين في السودان في أنديتهم و لاحقا في مؤتمر الخريجيين و المؤسف أن مستوى أتباع مؤتمر الخريجيين لم يكن على قدر من الوعي يلتقط به ما يدور من لحظات إنقلاب في الزمان حيث يتهئ المجتمع لميلاد ليبرالية حديثة لتحل محل ليبرالية تقليدية لأسباب كثيرة و هي أن طلائع الخريجيين من السودانيين و رغم تعليمهم على يد المستعمر و بداية التعليم الحديث إلا أنهم لم يبارحوا إمكانيات إدراك عقل الخلوة الذي يعمل بروح المجتمعات التقليدية.
هذه واحدة من المعوقات أي أن تبداء نخب السودان مع الشعوب الحية فترة بزوغ أشعة فكر الليبرالية الحديثة و بالتالي تسير مع العالم بعد نيل الإستقلال اترسيخ تحولات المفاهيم الهائلة فيما يتعلق بفكرة الدولة كمفهوم حديث و كذلك مفهوم السلطة كمفهوم حديث.
عام 1929 ظهرت مدرسة الحوليات في فرنسا و قضت على فكر المؤرخ التقليدي حيث فتحت الباب لدراسة تاريخ المجتمع و دراسة التاريخ الاقتصادي للشعوب و عبر أجيالها ما زالت تساهم في تطوير الفكر و تلاحق التحول في المفاهيم إلا أننا في السودان ما زال المؤرخ التقليدي محبوس في وثيقته المقدسة لم يستطع أن يقدم مؤرخ يستطيع أن يقدم تحليل يساعد المجتمع السوداني في شرح فكرة تاريخ الذهنيات و التغلب على تاريخ الخوف.
في وقت نجد أن مدرسة الحوليات بعد عقدين من الزمن وجدت نفسها أمام تيار جديد بفكر يخلب الألباب و قد إشتبك حتى مع أفكار مدرسة الحوليات التي لم تبدأ طلائع أتباع مؤتمر الخريجيين معها و لم يحاول المؤرخ التقليدي السوداني نقل أفكارها حتى اللحظة.
في تلك الحقبة اذا بفكر كلود ليفي أشتروس في بنيوته يظهر و يسحب البساط من أهمية دراسة تاريخ المجتمع و تاريخ الاقتصاد عند مدرسة الحوليات و يقدم تحليل جديد لفكرة تاريخ الذهنيات و تاريخ الخوف و أيضا لم نجد لها أثر في دراسات و مقاربات النخب السودانية حتى اللحظة.
أعني و بإختصار أي أني أريد أن أقول بأن نخبنا بعيدة من عقل النخب الراهنة في الشعوب الحية بسبب غيابها عن فكر مدرسة الحوليات و كذلك بفكر بنيوية كلود ليفي أشتروس المشتبك مع فكر مدرسة الحوليات ليزيحه من المقدمة و يحل مكانه في محاولاته تقديم ما يفسر ظاهرة المجتمع البشري و نجده قد حاول في حقول اللغة و الموسيقى و الأسطورة.
و بالتالي يصبح الفكر الديني في نظر كلود ليفي أشتروس ذو طموح فائق إلا أنه فاشل في جلب سلام العالم عكس فاعلية الأسطورة و الموسيقى في إلغاءها لماكنة الزمن و عليه لم يعد للدين أي دين لعب دور بنيوي في حقول السياسة و الاجتماع و الاقتصاد.
و هنا يتضح لك خواء النخب السودانية التي ما زالت تحاول خلق دور بنيوي للدين و قد رأينا محاولاتهم التي لم تبارح فكرة أن الحركة الاسلامية السودانية لا يمكن تجاوزها في سبيل وجود إستقرار سياسي في السودان و نجدهم في الإتفاق الإطاري يفسحون المجال لحزب الترابي و أنصار السنة و فرع من الختمية و تجد مقولات كثير من السياسين و هم يروجون لفكرة أن الحركة الاسلامية السودانية يجب أن تكون جزء من الحل كما كان يهرّج ياسر عرمان قبل إنقلاب البرهان الفاشل و نحن نسأله الآن بعد حرب البرهان العبثية هل ما زال على رأيه بأن الفكر الديني هو جزء من الحل؟.
لو كان ياسر عرمان و أمثاله على إطلاع على التحول الهائل في المفاهيم لما تكرم أن يفسح المجال للفكر الديني أي دين بأن يكون له دور بنيوي على أصعدة السياسة و الاجتماع و الاقتصاد و هنا أخذنا ياسر عرمان من بين النخب كسياسي فصيح بالمعنى الذي يقصده الدكتور منصور خالد للفصيح الفاشل من بين النخب السودانية التي أدمنت الفشل لنوضح كيف كانت النخب السودانية متأخرة عن فهم تاريخ الذهنيات و تاريخ الخوف و النتيجة هذه النكسة التي قد تجسدت في حرب عبثية.
من هنا دعوتنا للنخب السودانية بأن تعي أن نصاب الوعي عندها لم يكتمل و لهذا قد أدمنت الفشل و كله بسبب أن أجيال من النخب متراكمة فوق بعضها منذ أيام أتباع مؤتمر الخريجيين ترث ضعف مناهجها و غير قادرة على تجاوز العجز و بلوغ العقلانية و عاجزة أن تفهم بأن الخطاب الديني لأي دين لم يعد قادر لجلب سلام المجتمع و لم يعد هو المفسر لظاهرة المجتمع البشري و على الدوام أن الفكر الديني فكر طموح إلا أنه غير قادر على تفسير كيف تتطابق الأفكار لتفسر أن الانسان جزء من الطبيعة.
و بما أن الانسان جزء من الطبيعة يصير عقله بشكل بنيوي متطابق مع الطبيعة و بالتالي نجده قادر على تقديم أسطورة كما كان سابق لتفسير ظاهرة المجتمع أما عند المجتمعات الحديثة فإن التاريخ يلعب دور الأسطورة الأخيرة لتفسير ظاهرة المجتمع البشري كما نجده عند كلود ليفي اشتروس و نجده في فن القراءة عند كلود لوفرت و غيرهم كثر من الفلاسفة و علماء الاجتماع و الاقتصاديين و المؤرخيين غير التقليديين.
في بداية الخمسينيات كانت بداية إشتباك كلود ليفي أشتروس مع فكر مدرسة الحوليات و مقارباته للبرهنة على تاريخ الذهنيات و تاريخ الخوف و لكن بمدخل مختلف عن مقاربات مدرسة الحوليات لأن كلود ليفي أشتروس قد بحث عنهما بأبعاد مختلفة في حقول الخوف و الموت و الحب و الأسرة حيث إنفتح حقله على الانثروبولجيا التاريخية.
كما قلنا في بداية الخمسينيات كانت مقاربات كلود ليفي إشتروس قد أخافت كثير من المؤرخيين إلا أنه قد أكد بأن الحرب سوف لا تقع بين التاريخ و الانثروبولوجيا و قد كانت مقارباته هائلة في توضيح أن العمل اللا شعوري للروح يوضح الوحدة النفسية و العاطفية للإنسانية رغم تباين الثقافات و اللغات ففي تباين الثقافت و اللغات تختبئ وحدة الانسانية النفسية و العاطفية و هذا هو البعد الغائب عن النخب السودانية.
و هنا يلزمنا توضيح كيف هزم كلود ليفي اشتروس فكر ماركسية سارتر و وضّح أن سارتر بسبب جهله بعلم الاجتماع قد حبس نفسه في خانة المدافعيين عن الشيوعية كنظام شمولي. و كذلك يلزمنا توضيح أن التاريخ بمعناه عند كلود ليفي اشتروس يختلف عن فكرته عند المؤرخ السوداني التقليدي
و غياب مثل فكر كلود ليفي اشتروس من مشهد الفكر في السودان نجده قد خلف لنا مؤرخيين تقليديين كان كل همهم الدفاع عن الهويات الخائفة التي قد أورثتنا أدب الهويات القاتلة و نخب قد أفنت زهرة عمرها في الدفاع عن الهويات بدلا عن الدفاع عن الحريات و بالتالي في ظل كساد المؤرخ التقليدي السوداني يفوتنا فكر تنام تحت ظلاله فكرة النشؤ و الإرتقاء حيث تجاوزت البشرية كل فكر يرتكز على العرق أو الدين أي دين.
على أي حال سوف تنتهي حرب البرهان العبثية ضد حميدتي و هو صنيعة البرهان عندما كان خادم للحركة الاسلامية و حينها ستدرك النخب أن كسادها الفكري و تبعيتهم للمرشد و الامام و مولانا و الاستاذ عند الشيوعي السوداني هو وقود الحرب العبثية الدائرة الآن بين حميدتي و البرهان بل سببها لأن عجزهم عن بلوغ مستوى العقلانية جعلهم كأنهم من ركاب سفينة الحمقى في أدبيات ميشيل فوكو.
إلا أن سفينة الحمقى عند أدبيات ميشيل فوكو في بحثه عن مفهوم السلطة قد رست و سفينة الحمقى و جل راكبيها من النخب السودانية الفاشلة لم ترسى بعد على شاطئ.
و السبب أن المجتمع السوداني قد فقد ديناميكياته التي تساعده في السير للحاق بمواكب البشرية بسبب عجز نخبه عبر سبعة عقود قد أعقبت الاستقلال و هي عاجزة أن تدرك أن العالم تسوقه تحولات هائلة في المفاهيم و نخبنا الفاشلة تريد مقاربة كل التحولات بفكر قد أكل عليه الدهر و شرب و هو فكر الخنوع و التبعية للمرشد و مولانا و الامام و الاستاذ الشيوعي و هذه الحالة لا تنتج مفكر عفوي و تلقائي و مبتكر.
وجب التنبيه أن سفينة الحمقى عند ميشيل فوكو كانت كتفسير لبحثه لكيفية السيطرة و بسط السلطة عبر التاريخ و الهيمنة على الفرد من قبل المجتمع و كان ضحاياها من الحمقى و المجانيين و من أصابهم الجذام حيث كان يسلم المجانيين و الحمقاء للبحّار لإقصاءهم من المدن و في كثير من الأحيان يتم قتلهم و إغراقهم من قبل البحاريين في البحار و كذلك الحال مع زورق المجنونات.
على أي حال يظهر أن النخب السودانية الفاشلة ما زالت في ذلك التاريخ البعيد حيث كان مفهوم السلطة و السيطرة و الهيمنة يصل الى مستوى إغراق الحمقى و المجانيين و المجذوم و لكن بعدها تغير مفهوم السلطة و قد أصبحت سفينة الحمقى الراسية اليوم هي المستشفى حيث يعالج المجنون و المجذوم بدلا من إغراقه في البحار كما كان سابقا و هنا يظهر كيف تغير و تبدل مفهوم السلطة في مقاربات ميشيل فوكو فهل فهمت النخب السودانية تحول مفهوم السلطة الآن؟

taheromer86@yahoo.com
/////////////////////////

 

آراء