التاريخ يعيد نفسه في السودان

التاريخ يعيد نفسه في السودان: بين المصلحة السياسية وسقوط الدولة (بين إعلان المبادئ وبيان الرباعية )
lualdengchol72@gmail.com
بقلم: لوال كوال لوال
التاريخ يعيد نفسه في السودان، وتبقى الدروس الكبرى غالبًا غير مستفادة من القوى السياسية التي تصنع القرار. في عام 1994، قدمت دول الإيقاد إعلان المبادئ كإطار لحل النزاع بين نظام الحركة الإسلامية السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، وقد تضمن الإعلان مجموعة من البنود الجوهرية التي كانت تهدف إلى إنهاء الحرب وتحقيق وفاق وطني مستدام، ويبرز فيها ما نص عليه الإعلان: “لكل شعب الحق في تقرير مصيره وفق إطار يضمن العدالة والمساواة”، وهو بند صريح يعترف بحق شعوب الجنوب في إدارة شؤونها ضمن الدولة السودانية، ويمثل خطوة نحو معالجة إحدى أكثر القضايا حساسية التي شكلت جذر النزاع الطويل. كما دعا الإعلان إلى ضرورة تشكيل حكومة تمثل كافة القوى السياسية والمكونات الإقليمية، لضمان مشاركة عادلة في السلطة وتجنب هيمنة طرف على آخر، وهو بند يؤكد أن الحل السياسي لا يمكن أن يكون مجتزأً أو محصورًا في جانب واحد من المشهد السياسي السوداني، بل يجب أن يشمل جميع الأطراف ويحقق العدالة في المشاركة السياسية. وقد شدد الإعلان أيضًا على ضرورة وقف كافة الأعمال العدائية فورًا وحماية المدنيين والأطفال من أي انتهاكات، حيث جاء نص الإعلان: “تلتزم الأطراف كافة بوقف الأعمال العدائية فورًا، وضمان حماية المدنيين والأطفال من أي أذى أو انتهاك”، وهو بند أساسي للحفاظ على الأرواح وتقليل التأثير الاجتماعي للحرب، ويعكس إدراك المجتمع الدولي لخطورة استمرار النزاع على البنية المجتمعية للبلاد. وأضاف الإعلان بندًا مهمًا حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية، إذ نص على أن “تُعالج مسائل توزيع الموارد بشكل عادل، ويتم تطوير الخدمات الأساسية في جميع الأقاليم المتضررة”، وهو بند أساسي لضمان العدالة التنموية وتقليل الاحتقان الإقليمي، ومعالجة آثار الحرب على البنية التحتية والخدمات العامة. على الرغم من وضوح هذه البنود وإمكانية أن تؤسس لحل سياسي دائم، رفضت الحركة الإسلامية السودانية الإعلان آنذاك، وكان الدافع وراء هذا الرفض سياسيًا بحتًا، حيث تمثل في حماية مصالح السلطة على حساب مصالح الوطن، وضمان استمرار نفوذ النظام الحاكم، ولو تطلب ذلك التضحية بوحدة البلاد أو بسلام أبنائها. وبعد أربع سنوات فقط، في عام 1998، عاد النظام نفسه وقبل إعلان المبادئ كأساس للتفاوض، ما أفضى في النهاية إلى انفصال جنوب السودان، وهو ما يوضح أن مصالح السلطة غالبًا ما تُقدم على مصالح الوطن، وأن أي تنازل أو قبول يكون مرتبطًا بموقع القوى في الحكم وليس بالضرورة بالحلول الوطنية أو المصلحة العامة للشعب. اليوم، نرى التاريخ يعيد نفسه في سياق مختلف، لكن بنفس العقلية السياسية القديمة، حيث رفضت حكومة بورتسودان التابعة للجبهة الإسلامية القومية بيان الرباعية الدولية (السعودية، الامارات، مصر وأمريكا) لإيقاف الحرب في السودان، وهو البيان الذي أعدته دول الرباعية الدولية المذكورة، وهي بهدف وقف التصعيد العسكري بين الأطراف السودانية وضمان تسوية سلمية شاملة تشمل كافة القوى السياسية والعسكرية والمدنية، وحماية المدنيين وتأمين وصول المساعدات الإنسانية، وتمهيد الطريق لإصلاحات سياسية حقيقية تؤدي إلى حكومة شاملة ومؤسسات ديمقراطية قوية ومستقرة. وقد نص البيان على أن “على جميع الأطراف الالتزام بوقف إطلاق النار فورًا، وإشراك كافة الأطراف السياسية والمدنية في الترتيبات الانتقالية، مع حماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، وتنفيذ إصلاحات سياسية تؤسس لثقة المواطنين في مؤسسات الدولة”، وهو نص يشبه إلى حد كبير ما جاء في إعلان المبادئ، لكنه مُعاصر ومتوافق مع متطلبات العصر الدولي والإقليمي. إن رفض حكومة بورتسودان لهذا البيان يعكس نفس العقلية القديمة التي ترى أن أي اتفاق سلام يُقاس وفق مدى ضمانه لاستمرارية السلطة وليس وفق قدرته على تحقيق سلام حقيقي أو حماية المواطن السوداني، وهذه العقلية تتكرر عبر التاريخ السوداني: رفض السلام لحماية السلطة على حساب الوطن، التضحية بالوحدة الوطنية لصالح استمرار النفوذ، واستغلال الانقسامات العرقية والسياسية لتعزيز النفوذ السياسي، وهو ما حدث في 1994 وما يحدث اليوم. ففي 1994 أدى رفض إعلان المبادئ إلى استمرار الحرب الطويلة، وإلى انفصال الجنوب بعد سنوات، واليوم يهدد رفض بيان الرباعية بتوسيع دائرة الانفصال في دارفور وغيرها من المناطق، ويعزز الانقسامات القائمة ويشجع على الكراهية بين المكونات المختلفة، ويؤكد أن نفس العقلية السياسية لم تتغير، فهي ما زالت ترى أن أي تنازل أو قبول بالسلام يجب أن يُقاس بما يضمن استمرارها في الحكم، وليس بما يحقق مصالح شعبها أو يقيم دولة عادلة ومتماسكة. إن درس التاريخ واضح، وهو أن السودان لن يجد السلام أو الاستقرار ما لم تعلو مصالح الوطن على مصالح السلطة، ولتتخذ القوى السياسية قرارات جريئة وواعية تحمي وحدة البلاد وشعبها. أي اتفاق سلام أو بيان سياسي يفتقر للشمولية والجدية في التطبيق لن يكون أكثر من وثيقة على الورق، وسيظل المواطن السوداني وحده من يدفع الثمن الباهظ. ومن المهم إدراك أن رفض الاتفاقيات الدولية والإقليمية لحماية السلطة على حساب الوطن هو نمط متكرر في التاريخ السياسي السوداني، وأن أي عملية سلام لا يمكن أن تكون حقيقية إلا إذا وضعت مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. إن إدراك هذه الحقيقة يجب أن يدفع النخب السياسية إلى إعادة تقييم مواقفها والتخلي عن سياسات المصالح الضيقة، والعمل على بناء توافق وطني يحقق السلام والاستقرار، ويضمن حماية المدنيين وتوزيع الموارد بشكل عادل، ويؤسس لدولة تحمي الجميع وليس مجموعة محددة فقط. التاريخ يقدم لنا الدروس، وإذا لم نتعلم منها، فإن تكرار الأخطاء أصبح محتومًا، والكارثة التالية ستكون أكبر وأكثر إيلامًا لكل السودانيين. ومن هنا يظهر أن ما حصل في الماضي من رفض إعلان المبادئ وما يحدث اليوم من رفض بيان الرباعية يشير إلى أن التاريخ يتكرر عندما تتقدم مصالح الفرد أو الجماعة على مصلحة البلاد، وأن أي عملية سلام حقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا وضعت وحدة السودان واستقرار شعبه فوق كل اعتبار سياسي ضيق أو حسابات نفوذ مؤقتة. وإذا لم تتغير هذه العقلية السياسية، فإن السودان سيظل يدور في حلقة مفرغة من الصراعات والانقسامات والفشل السياسي، بينما يظل المواطنون الأبرياء هم من يدفعون الثمن الأكبر ويعيشون تداعيات القرارات السياسية على حياتهم ومستقبلهم.

شاهد أيضاً

دارفور: الدماء تفترش الأرض بلا جدوى! (2-3)

lualdengchol72@gmail.comبقلم: لوال كوال لوال حين ننظر إلى الصراع الجاري في دارفور، نجد أن جذوره العميقة …