فلسفة الابتلاء: الابتلاء كمفهوم فلسفي اسلامي لتفسير طبيعة الوجود الانسانى ومفاهيم الخير والشر

 


 

 

د.صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم

Sabri.m.khalil@gmail.com

تمهيد: تهدف هذه الدراسه الى بيان الابتلاء كمفهوم فلسفى اسلامى كلى ، يساهم فى تفسير طبيعه الوجود الانسانى ومفاهيم الخير والشر، ويستند الى المفاهيم الفلسفيه الاسلاميه الاكثر كليه ، والتى تشكل معا فلسفه الاستخلاف كفلسفه اسلاميه- ذات طبيعه دينيه "روحيه" / انسانيه - والتى تفسر الوجود العام، ( وهذه المفاهيم هى : مفهوم التوحيد لتفسير الوجود الالهى " المستخلف بكسر اللام" ، ومفهوم التسخير لتفسير الوجود الطبيعى "المستخلف فيه"، ومفهوم الاستخلاف لتفسيرالوجود الانسانى"المستخلف بفتح
اللام".)

مفهوم التوحيد وانفراد لله تعالى بالخير المطلق: مضمون مفهوم التوحيد ان الله تعالى ينفرد بالوجود المطلق غايه "الالوهيه " وفعلا "الربوبيه " ".
وبالتالى فانه يترتب عليه ان الله تعالى ينفرد بكونه الخير المطلق .
ونسبة الخير المطلق لاى وجود سواه هو شرك "اعتقادي يتصل بالعقيدة عند المشركين، او عملى يتصل بالسلوك عند المسلمين".

رفض مذاهب نسبه الخير المطلق لسواه تعالى : فالمنظور القيمى الإسلامي، على مستوى أصوله النصيه الثابتة ، يرفض نسبه الخير المطلق لاى وجود سواه( سواء كان وجود مادى- كما فى مذاهب الفلسفات المادية الغربية ومثالها اعتبار الطبيعه او المنفعه الماديه خير مطلق "، او معنوى"كما فى مذاهب الفلسفات المثالية الغربيه ومثالها اعتبار العقل هو الخير المطلق" ، او انساني "كما فى النزعه الانسانيه الغربية - التى تتطرف فى اثبات الوجود الانسانى لدرجه الغاء الوجود الالهى- والتى تجعل الوجود الانسانى خير مطلق.

رفض مذهب وحدة الوجود وما يلزم منه من انكار وجود الشر: كما ان المنظور القيمى الإسلامي يرفض تعريف الخير بانه الوجود ، كما يلزم من المناظير القيمية التى تستند الى مذهب وحده الوجود،والذى يترتب عليه إنكار وجود الشر"اى القول بانه ليس للشر وجود حقيقي ".بينما المنظور القيمى الإسلامي يرى ان للشر وجود حقيقي –ولكنه محدود.

اقرار الوجود الحقيقى المحدود للشر: فالمنظور القيمى الاسلامى يقر بالوجود الحقيقي للشر ، حيث يقرر القران حتى اقرب الاقربين كمصدر للشر كالاب :(قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) ، والاخوه : ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين ) والزوجه: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) ورد فى تفسير الطبرى( ذُكر أن خيانة امرأة نوح زوجها أنها كانت كافرة، وكانت تقول للناس: إنه مجنون.
وأن خيانة امرأة لوط ، أن لوطًا كان يُسِرّ الضيف، وتَدُلّ عليه( . ولكن المنظور القيمى الاسلامى يقرر فى ذات الوقت ان الشر ذو وجود محدود ولا يملك خاصية الاستمرارية مالانهايه ( قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقا(..

ظهور الخير الالهى المطلق : ولهذا الخير الالهى المطلق شكلين من أشكال الظهور:

ظهور صفاتي: في عالم الشهادة " الحياة الدنيا": وله شكلين:

شكل تكويني " الخير التكويني: " يتمثل في الوجود الشهادى ، الشامل للكون المسخر والإنسان المستخلف ، والسنن الالهيه " الكليه او النوعيه "
التى تضبط حركته ، والتى معرفتها والتزمها شرط لتحقيق الانسان ما فيه صلاحه فى زمان ومكان معينين.
شكل التكليفي "الخير التكليفي" : ويتمثل في الوحى ومفاهيمه وقيمه وقواعده الكلية ، والتى تهدى الإنسان لما فيه صلاحه فى كل مكان وزمان .لذا كان من معاني الخير فى النص القرانى القران ذاته قال تعالى(وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) ، قال القرطبي(المراد: القرآن( .

المستوى التسخيرى : مضمونه ان الظواهر والأشياء والكائنات التي لها درجة التسخير تظهر الخير المطلق الذى ينفرد به الله تعالى على وجه الإجبار، فهي دائماً آيات دالة على الخير المطلق الذى ينفرد به الله تعالى . ومن مظاهر هذا الاظهار- والتى اشرنا الي بعضها سابقا – الاتى:اولا: تسخير الله تعالى لها للانسان ، ويالتالى فان من غايات خلقها تحقيق منفعته ومصلحته ) : أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ . (ورد فى تفسير الطبرى(… يجري ذلك كله لمنافعكم ومصالحكم...) ثانيا: ان معرفه والتزم السنن الالهيه التى تضبط حركتها ، شرط لتحقيق الانسان ما فيه صلاحه فى زمان ومكان معينين . ثالثا:
فالطبيعة فى المنظور القيمى الاسلامى ليست شر فى ذاتها ، ولكن فى حالة تأثيرها السلبى على الوجود الانسانى" وفى الحاله الاخيره هو جزء من الابتلاء الالهى للإنسان"

المستوى الاستخلافي: مضمونه إظهار الإنسان للخير الالهى المطلق في الأرض
، بتحديد- وليس الغاء- وجوده بالوجود الالهى المطلق تكوينيا
وتكليفيا،وطبقا لشرطي الوعى والحريه ، وهو ما يتضمن اتساق – عدم تناقض- الإرادة الإنسانية المحدودة مع اراده الالهيه المطلقه تكوينيا "بالالتزام بالسنن الالهيه"، وتكليفيا "بالالتزام بمفاهيم وقيم وقواعد الوحى الكليه"
. لذا كان من معاني الخير فى القرآن الطاعة كما فى قوله تعالى (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) ، قال القرطبي(أي: أن يفعلوا الطاعات)

وجود ابتلائى: فالوجود الانسانى "المستخلف " وجود ابتلائى " اختبارى "
مضمونه اختيار الإنسان المستمر بين الخير ،لأنه هو الوجود المخلوق الوحيد " المكلف "، طبقا لشرطي الوعي والحرية والشر :(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (.

تصحيح الفهم الخاطى لمصطلح الابتلاء : وهنا نصحح الفهم الخاطى لمصطلح الابتلاء، الذى يقصره على دلاله الابتلاء بالشر،لانه دلالته تشمل
الابتلاء بالشر والخير معا – كما اشرنا اعلاه - وبهدف فرز وتمييز
الانسان الخير- الذى يصبر فى الخير ويشكر فى الشر- عن الانسان الشرير-
الذى يسخط فى الشر و يجحد النعمه فى الخير- قالَ (صلى الله عليه وسلم)( عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ) رواه مسلم) . كما ان النصوص تقرر ان الابتلاء بالشر لا يكون بالضروره عقاب الالهى للاشرار، بل قد يكون محبه الهيه للصالحين، قال ( صلى الله عليه وسلم)( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.)( رواه الترمذي)، وسئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ): أيُّ الناس أشد بلاءً؟
قال: (الأنبياء، ثم الأمْثَلُ فالأمثل، يُبتلَى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيدَ صلابةً، وإن كان في دينه رقَّةٌ خُفِّف عنه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ما له خطيئة) (أحمد :1494، والترمذي : 3289(.

شمول مفهوم الابتلاء: وهذا الابتلاء الالهى يشمل كافة مجالات الحياة ومستوياتها وعلاقاتها، قال تعالى كالابناء والأموال مثلا (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة )، ورد فى تفسير ابن كثير ( أي : اختبار وامتحان منه لكم ؛ إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها ، أو تشتغلون بها عنه ، وتعتاضون بها منه(

الغايه من الابتلاء الرجوع من الشر الى الخير: والغايه من الابتلاء بالشر ليس بالضروره عقاب للمذنبين- فعقابهم ليس دنيوى فقط ، بل اخروى ايضا وهو الاصل - بل رجوع الناس من الشر الى الخير( وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، نقل ابن كثير عن ابن عباس ( يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها ، وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه(.

سنه الكدح الى الله والجدل القيمى " الصراع المستمر بين الخير والشر" :
ومن السنن الالهيه النوعيه التى تضبط حركه الوجود الانسانى المستخلف سنه "الكدح الى الله" التى اشارت اليها النصوص ، كما فى قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا
فَمُلاقِيهِ) ومضمونها ان تاخذ حركه الانسان شكل فعل غائى محدود بفعل مطلق "الربوبيه بالمصطلح الفرانى "وغايه مطلقه "الالوهيه بالمصطلح القرانى"، وهذه السنه يلزم منها على المستوى القيمى ان حركه الوجود الانسانى المستخلف عباره عن صراع مستمر بين الخير والشر ، على المستويات المتعدده لهذا الوجود(الذاتيه والموضوعيه/الفرديه والجماعيه / الماديه والروحيه –المعنويه )، لا يتوقف الا بتوقف هذه الحركه، بانتهاء هذا الوجود بالموت ، ورد فى تفسير الطبرى( يقول تعالى ذكره : يأيُّها الإنسان إنك عامل إلى ربك عملا فملاقيه به خيرًا كان عملك ذلك أو شرًا). وهذا الصراع فى المنظور القيمى الاسلامى له بعد غيبى ، اى تساهم فيه- بدون اجبار - كائنات غيبية . وهى الشيطان بالوسوسة اى تزيين فعل الشر:(من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، . والملائكه بالاعانه على فعل الخير( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) ، ورد فى تفسير ابن كثير (وأما الصلاة من الملائكة، فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار(.

نقض مذهب إمكانية توقف الصراع بين الخير والشر:فالمنظور القيمى الاسلامى، على مستوى أصوله النصية الثابته، يتناقض مع المذاهب التى يلزم منها القول بإمكانية توقف هذا الصراع بين الخير والشر، قبل انتهاء الوجود الانسانى الفردى " بتخيل إمكانية وجود فرد معصوم عن الخطأ ، كما فى مذاهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، التى يلزم منها سقوط التكاليف" ، والجماعى" بتخيل وجود مجتمع خالى من الشر، كما فى التصورات اليوتوبية "الخيالية" للمجتمع ". فالعصمة فى الامه الإسلامية مقصورة على الرسول (صلى الله عليه وسلم)،والعصمه بعده للجماعة وليست لفرد معين، يقول الإمام ابن تيمية (والقاعدة الكلية في هذا ألا نعتقد أن أحداً معصوم بعد النبي – صلى الله عليه وسلم-)( منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية: ج6 /
ص196 ). كما ان انتفاء الشرط مطلقا غير ممكن ، الا فى الجنه المرتبطة بالوجود الاخروى، لان فيها يتجلى الخير المطلق "الذى ينفرد به الله تعالى ".

شمول الجدل القيمى للوجود الجماعى والفردى: فالوجود الانسانى يجمع بين الاشتراك والتفرد ،لذا فان هذا الجدل القيمى والصراع بين الخير والشر يشمل الوجود الجماعى - بمعنى خضوع النوع الانسانى ككل له - والوجود
الفردى- بمعنى خضوع كل افراد النوع الانسانى له- فاستمرار هذا الصراع
تاكيد لهذا الشمول ، وليس دليل على ان التاريخ تكرارى كما فى مذهب التفسير الدائرى التكرارى للتاريخ ، وانصار مقولة " التاريخ يعيد نفسه ".

الخير والشر غير مقصورين على البعد المادى او الروحى للوجود الانسانى:
والوجود الانسانى “المستخلف” فى التصور الاسلامى للوجود وجود مركب من أبعاد ماديه" حسية – شهاديه" و روحية" غيبيه" متفاعلة ، اتساقا مع هذا يقرر المنظور القيمى الاسلامى ، على مستوى أصوله النصية الثابتة ، ضرورة تحقيق التوازن بين هذه الأبعاد المتعددة ، فهو يرفض إشباع حاجاته المادية وتجاهل حاجاته الروحية، كما ترفض إشباع حاجاته الروحية وتجاهل حاجاته المادية ،وتدعو إلى إشباع حاجاته المادية والروحية معا قال تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ) [القصص:77]. وقال تعالى(قلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
[الأعراف:32]. وهنا يجب تقرير أن علماء الإسلام قد قالوا بأولوية إشباع حاجات الإنسان المادية ، على إشباع حاجاته الروحية، اولويه ترتيب وليس أولوية تفضيل ، يقول الإمـام الغزالي(صلاح الأبدان مقدم على صلاح الأديان(.

الامكانيه المفتوحة للتردى والترقى القيمى للوجود الانسانى: فالمنظور القيمى الإسلامي يقرر ان الوجود الانسانى " المستخلف"، ذو امكانية مفتوحه للترقى والتردى القيمى قال تعالى ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيَ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ). ورد فى تفسير القرطبى ( " في أحسن تقويم" قال ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن اللّه خلقه حيا عالما، قادرا مريدا متكلما، سميعا بصيرا، مدبرا حكيما... ".... "ثم رددناه أسفل سافلين" روى ابن أبي نجيح عن مجاهد إلى النار يعني الكافر). فله امكانيه للترقى القيمى حتى يتجاوز درجة الملائكة . ينقل ابن القيم عن الإمام ابن تيميه تقريره انه رغم ان الملائكة أفضل حتى من صالحي البشر باعتبار البداية ، فان صالحي البشر أفضل من الملائكه باعتبار كمال النهاية)(بدائع الفوائد : ج 3 / ص 140). كما ان للوجود الانسانى "المستخلف" امكانية للتردى والانحطاط القيمى حتى ينحط عن درجة الانعام ( انْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) ( الفرقان: 44.(.

معيار الوجود الانسانى كمى وكيفى:فارتباط الوجود الانسانى بالشر لا يقلل من قيمته - ككل - والدرجة العالية التى وهبها الله تعالى له - ككل - فى سلم الوجود " وهى درجه الاستخلاف" (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ * قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).وذلك لاسباب اهمها ان معيار هذا الوجود ليس كمى"عددي" فقط كيفي ايضا ، بالتالى فان مجرد فعل جزء منه –وليس كله – للخير كافى لاثبات هذه القيمة حتى لو فعل أغلبه الشر- لان فعل الخير هنا جاء محصلة اختبار حر واعى وهو غير متحقق فى درجات الوجود الاخرى غير درجه الوجود الانسانى . فالكثره والقلة ليستا معيار مطلق ووحيد فى المنظور القيمى الاسلامى ، بمعنى ان هناك كثره محموده تلتزم بالخيركما فى قوله (صلى الله عليه وسلم) (علَيكُم بالجماعةِ َ)(الراوي : عمر بن الخطاب - المحدث : الألباني - المصدر :
صحيح الترمذي) . كما ان هناك وكثره مذمومة تلتزم بالشر، كما فى قوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ )(سبأ: 13)،وقوله تعالى( فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين )(الذاريات : 36)،وقوله تعالى (ُقل لَّا يَسْتَوِي الْـخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْـخَبِيثِ )( المائدة: 100(. وفى هذا السياق تقرركثير من النصوص ان الدرجات العليا من سلم الترقى الروحى والقيمى والمعرفى... من نصيب قله (وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ)، بنقل الطبرى فى تفسيره ( وَقَلِيل الَّذِينَ هُمْ كَذَلِكَ , بِمَعْنَى : الَّذِينَ لَا يَبْغِي بَعْضهمْ عَلَى بَعْض ).غير ان ذلك لا يعنى ان هذه القلة نخب معزوله عن مجتمعاتها، بل طلائع لتغييرها عن طريق الاقتداء بها – بدليل- وهو مضمون مفهوم الامامه: ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (.

التفسير الصحيح لمقولة الانسان خير بطبعه: فالتفسير الصحيح لمقوله الانسان" خير بطبعه " هو انه تتوافر للإنسان – عمليا - إمكانية فعل
الخير- وقد عبر القرآن عن هذه الإمكانية بمصطلح الفطرة ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ(

مقارنة بين مفهومي الفطرة والطبيعة الإنسانية: فمفهوم الفطرة في المنظور القيمى الاسلامى ،هو المفهوم المقابل لمفهوم الطبيعة الإنسانية في المنظور القيمى الغربى- خاصة المستند الى الفلسفات المثاليه
والليبراليه- ، والذي يتجاوز في ذات الوقت سلبياته. حيث ان مفهوم الطبيعة الإنسانية في المنظور القيمى الغربي ، يتضمن دلالة أن الوجود الإنساني هو وجود مطلق،وبالتالى فان له طبيعه ثابته ، قد تكون خيره- كما فى مذاهبها القائمه على التفاؤل المطلق - او شريره - كما فى مذاهبها القائمه على التشاؤم المطلق - . بينما مفهوم الفطرة فى المنظور القيمى الاسلامى يتضمن دلالة أن الوجود الانسانى وجود محدود بالوجود المطلق - الذى ينفرد به الله تعالى - فالفطرة مشتقة من الخلق وهو صفة ربوبية ينفرد بها الله
تعالى- ومضمونها الفعل المطلق فى الايجاد- (فاطر السماوات والأرض)
(الأنعام: 14 ) (ومالي لا أعبد الذي فطرني) (يس: 22) فالفطرة تتعلق بظهور الفعل المطلق في الإيجاد- اى الخلق كصفه ربوبية-- في شكله الأخير،المرتبط بالوجود الشهادى المحدود الزمان والمكان، أي ظهوره كهداية "تكوينية"، فهي بالتالي إمكانية انضباط حركة الإنسان بالسنن الإلهية الكلية والنوعية، التى تضبط حركه الوجود الانسانى "المستخلف"، وهى لا تتبدل، لذا نجد أن القرآن يعتبر أن "عدم التبدل" هو سمة مشتركة بين الفطرة والسنن الإلهية: قال تعالى (ولن تجد لسنة الله تبديلا) (الأحزاب:
62 - الفتح: 23)، وقال تعالى (فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله))الروم : 30(.

نقد لمذهب تفسير الفطرة باعتبارها مبادئ وقيم قبليه: وإذا كان هناك مذهب فى تفسير الفطره باعتبارها قائمة على مبادئ قبلية سابقة على تجربة الإدراك الحسي ، ومنفصلة عن الواقع الموضوعي- فهو يقارب التصور الغربى لمفهوم الطبيعة الإنسانية- استدلالاً بالعديد من النصوص وأهمها حديث الفطرة (كل مولود يولد على الفطرة)، غير أن هذا المذهب ترجع جذوره الى مصادر اجنبيه "الفلسفة الأفلاطونية" ، ويتناقض مع منهج المعرفة الاسلامى، الذى يجعل للواقع وجود موضوعي مستقل عن وعي الإنسان، ويقرر ان وسائل معرفته هي الحواس والعقل، (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة). لذا رفضه الكثير من العلماء يقول الامام ابن تيمية (ومعلوم أن كل مولود يولد على الفطرة، ليس المراد به أنه يوم ولدته أمه يكون عارفاً بالله موحداً بحيث يعقل، فان الله يقول والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً (" ، ويقول الرازي (إن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا ثم حدثت وحصلت .... إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر (..فمنهج المعرفة الإسلامى اذا يتفق مع التيار التجريبي فى الفلسفه الغربيه الحواس كوسيلة لمعرفة الواقع المادي ، لكنه يختلف عنه فى:اولا:
كونه لا يحصر وسائل المعرفه فى الحواس - فهناك العقل والوحي أيضا – ولا مصادر المعرفه فى الوجود المحسوس- فهناك الوجود العقلي والوجود الغيبي ايضا –ثانيا:كما انه يرى ان وسائل ومصادر المعرفة السابقة تمثل المعرفة المكتسبة ، والتى جزء من المعرفة الانسانية وليست كلها ، فهناك ايضا المعرفة الفطرية ولكنها امكانيه وليست تحقق ..ثالثا: ان المعرفة ليست مجرد عكس الوعى للواقع ، بل محصلة التأثير المتبادل بين العقل والواقع .

التمييز بين الإرادة والرضا الالهيين: ان هذه الامكانية مطلوبه - قيميا – لذا ميز النص القرآني بين الارادة والرضا الالهيين ،فالله تعالى أودع فى الإنسان القدرة على التزام إرادة الله التكوينية والتكليفية فينال بذلك رضا الله ( رضي الله عنهم ورضوا عنه )، كما أودع فيه القدرة على مخالفة إرادته فيوجب ذلك غضب الله (.. وغضب الله عليهم )ـ يقول ابن تيميه (وجمهور أهل السنة مع جميع الطوائف وكثيرون من أصحاب الاشعرى يفرقون بين الإرادة والمحبة والرضا ، فيقولون انه وان كان يريد المعاصي لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها، وهؤلاء يفرقون بين مشيئة الله ومحبته ) (رسالة التوحيد: ص 50(

الشر محصله الكسب البشري: فطبقا للمنظور القيمى الاسلامى فان الشر الحادث فى العالم هو محصلة الكسب البشرى ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون). (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى الله ما لا تعلمون (

الشر ينسب الى مخلوقات الله ولا ينسب لله تعالى: وطبقا لهذا المنظور لا يجوز نسبة الشر الى الله تعالى ، فهو الخير المطلق على وجه الانفراد كما اشرنا سابقا ، ثبت عن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح ) لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشرّ ليس إليك ) ( رواه مسلم في صحيحه). ولكن يجوز نسبة الشر الى مخلوقاته (من شر ما خلق)
(الفلق: 2(.

مفهوم الحكمة الالهيه المطلقه: وقد قضت إرادة الله بحدوث هذا الشر المنسوب الى مخلوقاته – واهمها الانسان فى حال مخالفته لها – ليس لانها محل رضا الله - ولكن على مقتضى الحكمة الالهيه المطلقه والتى تنقسم الى
قسمين:

حكمه معلومه: يعلمها الإنسان، لان الله تعالى ابلغ بها البشر من خلال الوحى، ومن أمثلتها الحكم التى اشرنا اليها سابقا ان حدوث الشر المحدود جزء من الابتلاء الالهى للإنسان ، وان الابتلاء بالشر الغاية منه رجوع الناس من الشر الى الخير.

حكمه خفيه: لا يعملها الانسان,لان الله اختص نفسه بها فهى غيب، ومن امثلتها ان حدوث شر جزئي ظاهر ، قد يكون وراءه خير كلى خفى لايعلمه الا الله تعالى . ومن ادلتها قوله تعالى ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . وكذلك قصه موسى (عليه السلام ) وعبد من عباد الله آتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما ، الواردة فى الآيات 60-82 من سوره الكهف ، فهذه الايات تدل على ان هذا العبد من عباد الله فعل افعال ظاهرها الشر" جزئى " ولكن باطنها خير"كلى "، تنفيذا لاراده الله، ولكن على وجه الاختصاص باعتبار انه موحى اليه سواء كان هذا العبد نبى غير مرسل - وهو مذهب الجمهور- او عبد صالح من اولياء الله – ومذهب بعض العلماء- وفى كل الاحوال فان ذلك قبل ختم النبوة وانقطاع الوحي. يقول ابن حزم) والخضر "عليه السلام " نبي قد مات ، ومحمد "صلى الله عليه وسلم " لا نبي بعده)( المحلى:ج1/ص71) ، وورد في فتاوى الرملي ( أما السيد الخضر فالصحيح كما قاله جمهور العلماء أنه نبي ..)( ج4/ص222 ) ، وورد فى فتح الباري لابن حجر) وينبغي اعتقاد كونه نبيا لئلا يتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم أن الولي أفضل من النبي) (ج1/ ص 219 (.

مفهوم اللطف الالهى: كما ان المنظور القيمى الاسلامى يقرر ان الشر الحادث فى العالم مع كونه محدود ومصدره مخلوقاته وليس ذاته ، وكون الله قد اذن به على مقتضى الحكمة الالهيه المعلومه او الخفيه - لغايات خيره، فإنه خاضع للطف الالهى المطلق والذى يدل عليه كون اللطيف من أسمائه الحسنى (وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) (الملك:14) وله مظاهر متعددة ومنها:اولا:
ان الفعل الالهى المطلق- الذى عبر عنه القران بمصطلح الربوبيه - ييسر للإنسان سلوك الطرق التى تقربه الى الخير وتبعده عن الشر بطرق خفية لا يعلمها ، على مقتضى الأسباب وبدون اجبار . يقول ابن القيم ( واسمه اللطيف يتضمن : علمه بالأشياء الدقيقة ، وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية )( شفاء العليل :ص 34). ومن نماذجها فى القران الكريم قصة يوسف (عليه السلام )، وتنقل أحواله من رؤياه و حسد إخوته له، وسعيهم في إبعاده ومحنته بالنسوة ثم بالسجن .ثم بالخروج منه بسبب رؤيا الملك العظيمة ، وانفراده بتعبيرها ، وتبوئه من الأرض حيث يشاء، ثم ما حصل بعد ذلك من من لقاء بابوه واخوته ، واعتراف اخوته له بخطائهم واقرارهم بمكانته، وكل ذلك تمت الاشاره اليه فى قول يوسف (عليه السلام) (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ( السعدى / تفسير أسماء الله الحسنى/ ص227) .ثانيا: ان الفعل الالهى المطلق- الذى عبر عنه القران بمصطلح الربوبية - يخفف من الشر قبل حدوثه فى الوجود الشهادى المحدود زمانا ومكانا لطفا بالإنسان. وهذا التخفيف الإلهى لا يتعارض مع مفهومى القضاء والقدر الواجب الإيمان بهما ، لأنه لا يتعلق بالقدر المطلق ، اى الذى يعلمه الله تعالى ذو العلم المطلق على وجه الانفراد ، وتحققه غير مشروط ، فهو غير القابل للتغيير، بل يرتبط بالقضاء النسبى"اى الذى يعلمه سواه تعالى ممن علمهم محدود "كالملائكة مثلا" ، وتحققه مشروط "اى متوقف على شروط معينة"، فهو قابل للتغيير بالالتزام بشروطه ومثاله الزيادة فى اجل ورزق الإنسان ورد الشر ، المعلوم لدى ملائكه الموكل لها كتابه الاجال وقبض الارواح والأرزاق ، فى حالات البر والدعاء وصلة الرحم ، كما في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال( لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بخطيئة يعملها ) ، وقال( صلى الله عليه وسلم (( من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه).( رواه البخاري). قال النووي( ... وأما التأخير في الأجل ؛ ففيه سؤال مشهور، ولا وهو أن الآجال والأرزاق مقدرة، لا تزيد تنقص...وأجاب العلماء بأجوبة :الصحيح منها: ...
والثاني : أنه بالنسبة لما يظهر للملائكة ... فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه، فإن وصلها زيد له أربعون، وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك، وهو من معنى قوله تعالى" يمحو الله ما يشاء ويثبت". (

مفهوم العوض الالهى: كما ان المنظور القيمى الالهى يقرر ان كل من أصابه هذا الشر المحدود ، المنسوب الى مخلوقات الله ، والذي أذن تعالى بحدوثه بحكمه الهيه معلومه او خفيه، فان الله تعالى يعوضه بدلا منه خير، سواء فى الدنيا او الاخره ، قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) ( ما أصاب العبد من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)( أخرجه مسلم في صحيحه(.

مفهوم العدل الالهى: كما ان المنظور القيمى الاسلامى يقرر ان الفعل الالهى المطلق يتصف بالعدل:: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً)( الأنعام
:115) . فالعدل الالهى لازم التحقق سواء فى المبتدا او المنتهى ، اى ان كل فعل خير يثاب سواء فى الدنيا او الاخره ،وكل فعل شرير يعاقب سواء فى الدنيا او الاخره (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه .
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهفمن يعمل) , كما انه – اى العدل الالهى – لازم التحقق على وجه الاجمال" المجموع"، ان لم يكن على وجه التفصيل" الاحاد" ، فلكل الناس نصيب من النعم الالهيه التى لا تحصى (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ) ، ومجموع ما يناله كل فرد منها مساوي لنصيب غيره ، لكن الافراد يختلفون فقط فى نوع ومجال وزمن تحقق هذه النعم الالهيه لكل منهم .

اثابه فاعل الخير تشمل المسلم والكافرمع اختلاف الكيفيه والتوقيت:
فالمنظور القيمى الاسلامى يقرر ان فعل الخيرهو فطره انسانيه (فطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)،وهذا يعنى انه امكانيه مطلوبه قيميا من المسلم والكافر. والعداله الالهيه تقتضى ان يثاب فاعل الخير- كما يعاقب فاعل الشر – المسلم والكافر، فالاختلاف بينهما لا يرجع الى الاثابه ذاتها – فهو ثابت فى حقهما معا - بل الى كيفيتها وتوقيتها ، قال تعالى :(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ )، ينقل القرطبى فى تفسيره (قال محمد ابن الحنيفة والحسن : هي مسجلة للبر والفاجر ، أي مرسلة على الفاجر في الدنيا والبر في الآخرة(|.

اختلاف انتفاع المسلم والكافر بفعل الخير فى الكيفيه والتوقيت : ويترتب على هذا انتفاع المسلم والكافر ايضا بفعل الخير،وان الاختلاف بينهما لا يرجع الى الانتفاع ذاته – فهو ثابت فى حقهما – لكن يرجع الى كفيته وتوقيته. فقد اتفق العلماء ان الكافر ينتفع بفعل الخير- الذى لا تشترط فيه النيه - في الدنيا . أما في الآخرة فرغم انهم فاتفقوا انه لا ينتفع به بمعنى أنه لا ينجيه من النار نهائيا ، ولكنهم اختلفوا في انتفاعه به بمعنى تخفيف العذاب عنه على مذهبين:الأول: النفى، الثاني:الاثبات بمعنى انه يمكن أن ينفعه الله به تفضلا ، استندا الى بعض النصوص، وقال بهذا المذهب العديد من العلماء ,يقول الْبَيْهَقِيُّ( ... وَيَجُوز أَنْ يُخَفِّف عَنْهُمْ مِنْ الْعَذَاب الَّذِي يَسْتَوْجِبُونَهُ عَلَى مَا اِرْتَكَبُوهُ مِنْ الْجَرَائِم سِوَى الْكُفْر بِمَا عَمِلُوهُ مِنْ
الْخَيْرَات) . ويقول ابن حجر فى معرض الرد على النفاه ( وَهَذَا لَا يَرُدّ الِاحْتِمَال الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ , فَإِنَّ جَمِيع مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّق بِذَنْبِ الْكُفْر , وَأَمَّا ذَنْب غَيْر الْكُفْر فَمَا الْمَانِع مِنْ تَخْفِيفه). وسئل الشيخ محمد الرملي : هل يثاب الكافر على القرب التي لا تحتاج إلى نية ... ؟ فأجاب:
نعم يخفف الله عنه العذاب في الآخرة - أي عذاب غير الكفر- كما خفف عن أبي لهب في كل يوم اثنين بسبب سروره بولادة النبي (صلى الله عليه وسلم) , وإعتاقه ثويبة حين بشرته بولادته (عليه الصلاة والسلام) (للمزيد انظر: هل ينتفع الكافر بعمل الخير في الآخرة؟ موقع رابطة العلماء السوريين / الاستشارات والفتاوى / رقم الفتوى : 47 / 5 مايو 2013(.

الظهور الذاتي " التجلي" للخير الالهى المطلق: وله شكلين:

مقيد: فى عالم الشهادة " المتضمن الحياة الدنيا "، وله شكلين :الأول تكويني يتمثل فى المعجزه، والثانى تكليفي يتمثل فى الوحى، وكلاهما مقصور على الرسل والانبياء، وبالتالى فان غايتهما هداية الإنسان لما فيه صلاحه فى الدنيا والاخره ، لأنهما جزء من مفهومى النبوة والرسالة .

مطلق: في عالم الغيب " المتضمن للحياة الآخرة" ، ويتضمن: اولا: الجزاء الأخروى على أفعال الإنسان الخيرة والشريرة فى الدنيا( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، تحقيقا للعدالة الالهيه ( جَزَاء وِفَاقاً)( النبأ :26).
ثانيا :.الجنه كثواب اخروى على العمل الصالح للمؤمنين فى الدنيا قال تعالى(وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى). ثالثا: التجلي الذاتي " الخاص " ، المقصور على الصالحين من المؤمنين، والذي اشارت اليه النصوص ، كقوله تعالى(وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة )، وهو ما عبر عنه أهل السنة ب " رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ". وبعبارة اخرى فان الخير
المطلق- الذى ينفرد به الله تعالى - يتجلى فى الحياه الاخره ، لمن أظهره فى الحياه الدنيا- بتقييد وجوده به تكوينيا"بالالتزام بالسنن الالهيه"،وتكليفيا "بالالتزام بمفاهيم وقيم وقواعد الوحى الكليه"- . كما انه يحتجب عمن كتمه فى الحياه الدنيا - بعدم تقييد وجوده به تكوينيا وتكليفيا –

تصحيح المفاهيم الخاطئة عن العذاب الأخروي:

العذاب الاخروى ليس غايه فى ذاته بل وسيله لتحقيق العدل: فالنصوص تقرر ان العذاب الاخروى ليس غايه فى ذاته ، وانما هو وسيله لتحقيق العداله الالهيه (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم(.

العدل الالهى مرتبط بالرحمه- الالهيه - : "مفهوم العفو الالهى"وقاعده "جواز اخلاف الله تعالى وعيده"عند اهل السنه :غير ان العدل الالهى ليس عدل مجرد، بل عدل مرتبط بالرحمه – الالهيه - ( عْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). ومن مظاهر هذا الارتباط العفو الالهى ، الذى اشارت اليه العديد من النصوص: (انَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا)(النساء: 43) . ويشمل التجاوُزُ عن الذنب وتَرْك العِقاب عليه ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) .
واتساقا معه قررت اهل السنه قاعده (لايجوز على الله تعالى اخلاف وعده – اى وعده للمحسن بالثواب- ولكن يجوز عليه اخلاف وعيده- اى وعيده للمسى
بالعقاب-) ،وقد نقل ان القيم هذه القاعده فى كتاب مدارج السالكين فى معرض بيانه اقوال العلماء فى تفسير الايه" مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا " (هذا وعيد وإخلاف الوعيد لا يذمّ، بل يمدح، والله تعالى يجوز عليه إخلاف الوعيد، ولا يجوز عليه خلف الوعد (.

قاعدة" كل مسلم يدخل الجنة فى الحال او المآل : وقد قررت العديد من النصوص ان من قال لا إله الا الله دخل الجنة ومنها قوله (صلى الله عليه وسلم)، من قال: لا إله إلا الله صدقًا من قلبه دخل الجنة) (اخرجه أبو يعلى في مسنده 6/10)، ورتب أهل السنة على هذه النصوص قاعدة ان كل مسلم يدخل الجنة فى الحال " المبتدأ " (اى ان كل مسلم مطيع لإرادة الله يدخل الجنه وتحرم عليه النار)، او فى المآل "المنتهى "(اى ان المسلم العاصى لارادة الله امره متوقف على المشيئه الالهيه ( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)، ان شاء غفر له ذنوبه وادخله الجنه بدون عقاب، سواء بدون شفاعة او بشفاعة الشافعين كالملائكة والأنبياء - وعلى راسهم الرسول (صلى الله عليه وسلم)- بعد اذن الله لهم (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، وان شاء أدخله النار لينال عقابه على ذنوبه ثم أخرجه منها ايضا بدون شفاعة او بشفاعة الشافعين بعد الاذن الالهي.

خلود المسلم مرتكب الكبيره فى النار معلق وليس مطلق: واذا كانت النصوص تقرر خلود المسلم مرتكب الكبيره فى الناركما فى قوله تعالى ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا )( النساء: 48 ).فان علماء اهل السنه قد قررو ان هذا الخلود ليس خلود مطلق كما هو الحال عند الكافر الذى بلغته الرسلات السماويه وانكرها ، بل هو خلود معلق , اى متوقف على مشيئه اللهتعالى، ان شاء انفذه وان شاء اوقفه ، استناد الى نصوص اخرى كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ). يقول الطبري في “تفسيره”(وقد أبانت هذه الآية أنّ كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرة شركًا بالله)، ويقول الطحاوي ( وأهل الكبائر في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم (.

لا يدخل كل الكفار النار " مفهوم اهل الفتره عند اهل السنه" : والنصوص تقرر ان العذاب الاخروى مقصور على من بلغته الرسالات السماويه وانكرها ، قال تعالى: (كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).لذا قال العديد من علماء هل السنه إنّ أهل الفترة معذورون اى من ماتوا على الكفرفى فتره انقطاع الرسالات، يقول الامام الغزالى ) ... ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف:صنف لم يبلغهم اسم محمد"صلى الله عليه وسلم"
أصلًا، فهم معذورون...) (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 84). اما كيفيه حسابهم فقال بعض العلماء يحاسبون حسب فطرتهم ،وقريب منه قول آخرون أنهم يمتحنون يوم القيامة ، ومنهم ابن كثير الذى يقول : ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات؛ فمن أطاع دخل الجنة. وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة. وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها. وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه أبو الحسن علي بن إسماعيل عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد.

.............................

الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات

https://drsabrikhalil.wordpress.com

//////////////////////////

 

آراء