الترابي أمام الكاميرا

 


 

وجدي كامل
8 March, 2016

 

تسنت لي مقابلة الراحل الدكتور حسن الترابي ثلاثة مرات . كانت المرة الاولي برفقة الإخوة الخاتم محمد الخاتم و ضياء الدين بلال وخضر الفحام بمنزله بالمنشية إبان تصويرنا للقاء معه ضمن شخصيات فيلم ( وصمة حرب ) اوالذي قمنا بتحقيقه لصالح قناة العربية بدبي عام 2004.

كانت الصورة التي أضعها للرجل صورة شريرة للغاية كمهندس وصانع لكل آفات الإنقاذ . دلفت إلي الدار مع المجموعة وفي ذهني شريط الإنقاذ منذ بداياته وحتي تاريخ ذلك اليوم الذي كانت فيه مباحثات السلام تكاد تفضي إلي نهاياتها.

إستقبلنا الرجل بكل أريحية وكرم وشغلت نفسي بالحديث للمصور خضر الفحام وتحضير الكاميرا واختيار زاوية التصوير بينما كان ضياء بخفة دمه والخاتم يتبادلان اطراف الونسة معه والتي علي ما أذكر كان فيها صريحا للغاية في إجاباته علي أسئلتهما والتي كانت تقاطعها ضحكات ضياء الدين العالية المفرقعة احيانا.

في الواقع لفت إنتباهي أن الترابي وحين يتحدث يتحدث بإندفاع صبي إن لم أقل بعفوية طفل دون ان ينسي تفعيل متلازمته في الغمز واللمز والإشارة باللسان وحركة اليدين والعينين والتي ربما أفسدت سيولة البراءة في مرات كثيرة.

إنتهزت وقت شراب الشاي باللبن الذي جاؤا به إلينا أهل البيت في طقس سوداني بالضيافة وصرت أحاول التمعن اكثر في طريقة الرجل عندما يتكلم مع الآخرين وجها لوجه.

ما أستطعت فهمه للوهلة الاولي هو أن الرجل يستهدف إعمال سحره وقصفك به بحيث لا يترك لك فرصة في النجاة من قذائف ذلك السحر المتعدد المنصات. لكن ما كنت متاكدا وتأكدت منه بنحو أعمق في مرحلة لاحقة عند عمل المونتاج ومراجعة إجاباته وحديثه هو عدم سلاسة الأفكار وإنضباطها خاصة عند قراءة المادة المفرغة علي الورق. يذهب حوالي الخمسين في المائة من الجهد المبذول لإيصال الأفكار لبناء العبارة والخمسين الاخري لتسكينها عند المستقبِل والإجتهاد لجعل ما يقوله مقبولا لديه عبر الاداء اللفظي والحركي معا.

عندما ذهبنا إلي دبي للمونتاج تأملت وذاكرت الإجابات جيدا وأستطعت ان أستخرج منها ما هو تصادمي مع عدد من الضيوف الآخرين وخاصة دكتور منصور خالد الشئ الذي ولد متعة كبيرة لدي المشاهد عند العرضوخاصة عندما جرد الترابي إتفاقية أديس أببا من أية قيمة أوأهمية ، بينما ذهب إلي عكس ذلك منصور بمدحه لها وتأكيد قيمتها التاريخية.

المرة الثانية إلتقيته في عشاء كانت تقيمه السفارة الفرنسية بمنزل سفيرها بكافوري بعد سنوات من اللقاء الأول بمناسبة العيد الوطني لفرنسا - أذكر أننا كنا وقوفا أمام فراندة طويلة وبجانيه إبراهيم السنوسي نستمع إلي خطاب وزير خارجية فرنسا آنذاك والذي كان بصحبة دكتور مصطفي عثمان كوزير للخارجية السودانية أيامها.

ألقي الوزير الفرنسي الطويل القامة كلمة تحدث فيها عن العلاقات المشتركة وقام بعدها بتقديم الوزير السوداني با ( الكاتب والمؤلف والمثقف ). إلتفت الترابي ناحية إبراهيم السنوسي ونظر نظرة استهزائية تبعها بإبتسامة إعتراضية تعني : (شوف بالله الزول ده دخلنا في حتة ضيقة كيف ). تلك أيام كان الإعتقال  والتهميش الإعلامي في أوجه للرجل بعد ان كان هدفا وموضوعا إعلاميا اثيرا.

في تحقيقنا لفيلم بروق الحنين عام 2012 ذهبت له ومعي المصور أشرف إبراهيم بدار المؤتمر الشعبي بشارع الطيب صالح أوماك سابقا .

كان الإنطباع الأولي لي عندما دخلنا الدار هو أنك في بيت عادي غاب عنه سكانه أو هجروه. صعدنا الي الطابق الأول ثم تم الإيذان لنا من المسؤول الإعلامي لحزب المؤتمر الشعبي كمال عمر بالدخول. بعد تبادل التحايا بدأ أشرف بتجهيز الموقع للتصوير وجلست انا أعمل لإيضاح فكرتنا من الفيلم والتعبير عن تمنياتنا بان نخرج بإجابات بها قدر كبير من الشفافية.

في تلك المرة الاخيرة تمكنت من تقديم مجموعة من الأسئلة الإشكالية له والتي دخلت بعض إجاباتها في الفيلم وتم أستبعاد البعض الآخر. أشرف كان علي علاقة تصويرية سابقة معه ما مكنه من مداعبته عندما رآه ممسكا بحقيبة سوداء من نوع السامسونايت وعلق عليها: يا شيخ حسن الشنطة دي شكلها كده مليانة دولارات -----

ضحك الرجل واجاب بكل بساطة: دولارات أيه---- دي شنطة مليانة ورق عادي – وقام بفتحها فإذا بها فعلا خاوية خالية إلا من بعض اوراق بسيطة. ضحكت ووجدتها فرصة لمداعبته بالقول باننا ربما نفكر مستقبلا بعمل فيلم يمكن ان يعيد فيه تمثيل بعض الوقائع الشخصية فهل هو جاهز لذلك؟ ضحك ورد : طوالي – مافي مانع – ثم إستطرد: بالمناسبة أنا أستطيع التمثيل ، او تلاحظ اننا في الخطب التي نلقيها نعلي النبرات ثم نخفضها وننظر هناك ناحية اليسار وهناك ناحية اليمين وهكذا فما نقوم به من خطب فيه نوع من التمثيل.

بعدها سألته بشي من الممازحة: كيف أمنت العسكر يا دكتور حسن ولم تضع في توقعاتك هذه النهايةالتراجيدية المربكة ؟

أجابني بكل إندفاع و ثبات: لا  لا كانت بيننا عهود ومواثيق ولم يخطر ببالنا أنهم يمكن ان يتنكروا لها ولنا.

كنت ولا زلت علي قناعة تامة بان الترابي وعلي الرغم من كثافة الأحاديث المسجلة له تلفزيونيا والموثقة له كتابة إلا انه مات بأسراره مثله مثل قيادات سياسية سودانية كالراحلين محمد إبراهيم نقد والتيجاني الطيب الذي كنت من المحظوظين بمرافقته بأيامه الاخيرة والحصول علي شهادات غاية في الصراحة والشجاعة منه دون ان اتمكن من من تسجيلها علي الكاميرا بالقدر الذي أسعد فيه بالظفر بساعتين من الإستذكار من الدكتور عبد الحليم محمد بمنزله بالخرطوم.

الترابي وبسبب أنه شخصية إشكالية وكما يحلو لصغار الصحفيين بأيامنا هذه وصفه ب (المثير للجدل )وبسبب الخصومات السياسية بينه وبين جمهور عريض من الإعلاميين الديمقراطيين  المستنيرين لم نتمكن من إستنطاقه حول الكثير المثير من الاحداث والوقائع الهامة. وأظن ان قناة الجزيرة وإذا ما أفرجت عن ، وقامت ببث الحلقات التي قام بتسجيلها معه أحمد منصور لبرنامج شاهد علي العصر فستخرج معلومات ربما تقال للمرة الاولي ومن شأنها الإطاحة بالكثير من المسلمات المعلوماتية عن حقب عديدة. إن التعرف بإستفاضة علي الرأي الآخر يصبح مهما لبحوث المستقبل العلمية وتحليل الوقائع الفكرية والسياسية التي جرت بالسودان .


AbdelSieedW@aljazeera.net

 

آراء