الحديث المرجم عن الحرب: هل حربنا حرب مدن أم حرب في مدينة؟ (2-2)

 


 

 

اتفق لكثير منا أن ما يجري في الخرطوم هو حرب مدن. ومعلوم تزايد معدل حروب المدن في العالم بسبب توسع المراكز الحضرية في مقابل الريف. فنحو 55 في المئة من سكان العالم أهل مدن. وفاقم من هذه الديموغرافيا ارتباك النظام السياسي في العالم الثالث وهشاشته. وقيل إن حرب الخرطوم، بصفتها حرب مدن، أكثر مواتاة لـ"الدعم السريع" ذي الباع في مرونة الحركة وخفتها خلافاً للجيش الذي لم يدرب على مثل تلك الحروب.
وقال أحدهم مع ذلك ليس من جيش نظامي مدرب على حرب المدن بما في ذلك الجيش الأميركي المدرب على حرب الغابة والجبال وحتى المحيط المتجمد وليس المدن. ومتى جرى استدعاء الجيش لفض مثل هذه الحرب بعد فشل الوسائل الأخرى هد المدينة التي جاء لإنقاذها. ولذا قيل إنها أسرع الحروب إلى نهايتها. وحقيقة الأمر مع ذلك أن تدريب "الدعم السريع" اقتصر على حرب السهل. فلم يعرف عنه أنه حارب في مدينة مستحقة للاسم. ولم يقع له التدريب حتى على حرب الجبل، فقد عاد بخفي حنين حين بعث به نظام الإنقاذ ليحرر جبال النوبة من الحركة الشعبية التي احتلت قسماً كبيراً منها.
وحرب الخرطوم ليست حرب مدن بمعنى أكثر دلالة. ففي حرب المدينة يوظف ثوارها الفضاء المديني عن ضعف ليستقووا به. وشرطها الأول تعاطف سكان المدينة المعنية معهم، ومعرفة كادر الثوار بمعالم المدينة لسلاسة الحركة. وتكتيكها الرئيس هو "اضرب واختف بين جمهرة حاضنتك من أهل المدينة". وهي أشراط لم تتوافر لـ"الدعم السريع" في حربه هذه. فغير خاف أنه على خصومة شديدة مع المدينة. وكان محمد حمدان دقلو في أول أيام الثورة قال إنه سيري المدينة وجهاً منه سترضاه. ولم تر المدينة منه ما ارتضته. ففض دعمه السريع الاعتصام حول قيادة القوات المسلحة، ذؤابة ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، بفظاظة كانت هي الوجه الذي رأته المدينة منه. ولم يتفق لها. وبلغ بقواته شطط هذه الفظاظة حد ملاحقة الشباب وإخضاعهم لجز شعورهم في الطرقات العامة.
وخلافاً لحرب المدن أدار "الدعم السريع" حربه لا بتكتيك "اضرب واختف"، بل من مقار معروفة بآليات ثقيلة لا يزعم زاعم أنها خفيفة الحركة سلسة. وما دك الجيش هذه المقار بسلاح الجو حتى تشرد "الدعم السريع" بين الأحياء لا ليأوي إلى أنصار متعاطفين بل ليحتل دورها فيجعل من سكانها درعاً بشرياً. فالقول إن ما يجري في الخرطوم حرب مدن، لا يخلو من غلو.
يقال إن الحرب الأهلية وغيرها إما وقعت عن مظالم تكبدتها جماعة من الناس أو عن سانحة توافرت لجماعة من الناس. وتميل جماعة من الصفوة إلى القول إن حرب "الدعم السريع" انبعثت عن تظلم ريفي من حكم طبقة الحكام من النيل الأوسط الذين توارثوا الحكم منذ الاستقلال ولم يحسنوا. وهذا الإحلال والإبدال في دست الحكم هو الفكرة من وراء دعوة السودان الجديد التي خرج بها العقيد جون قرنق وحركته الشعبية في 1983. وألهمت الفكرة حركات دارفور المسلحة وغيرها من الدوائر السياسة بما فيها قطاع من صفوة النيل الأوسط. وتلخصت الدعوة في كسر المركز السياسي لنخبة النيل الأوسط العربي الإسلامي والقسط في توزيع السلطة والثروة.
وصحت الفكرة بالطبع إلا أن تشميل حميدتي فيها إبعاد في النجعة. فمطلب حميدتي في الحكم صادر عن محض سانحة لا تظلماً. فلا تجده أذاع يوماً رؤية لمظالم وقعت عليه من الدولة يريد محوها. فلم يعرف أنه احتج على الدولة في غير مرة واحدة لم تلتزم الحكومة بدفع استحقاقات له منها فخرج عليها في حركة مسلحة لم تدم لغير بعض الوقت ثم اصطلح. خلافاً لذلك أنفق حميدتي سحابة عمره أجيراً لهذا المركز الذي تنادت لحطمه نظرية "الهامش والمركز". فظل حميدتي أجيراً لهذا المركز سواء لصانعه الرئيس المخلوع عمر حسن أحمد البشير يقضي له على الثورات التي عزمت على كسر هذا المركز لرفع الظلم عن أهلها، أو للمجلس العسكري والقادة العسكريين من سادوا منذ ثورة ديسمبر 2018.
وكان آخر خدماته للإنقاذ هزيمته النكراء للعدل والمساواة في معركة قوز دنقو (أبريل/ نيسان 2015) التي كادت تقضي على الحركة لولا قيام ثورة ديسمبر 2018. وكان حليفاً مع المركز بعد ثورة ديسمبر 2018 وله القدح المعلى في مجزرة فض اعتصام ثورة ديسمبر في 4 يونيو (حزيران) 2019 وحصار حكومتها الانتقالية حتى انقلب عليها وقيادة الجيش السوداني معاً في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021. ولا نعرف نهوضاً ضد مركز الحكم في مثل رصانة هذه الثورة. فوحدها هي التي أرادت محاكمة المركز الذي أطاحت به ومساءلته عن 30 عاماً من حكمه البور.
وعلى خلاف من ثاروا لتظلمهم من تهميش المركز لهم كان المركز من عاظم من فرص حميدتي لطلب الحكم وأغراه به. فجعل قانون "الدعم السريع" لعام 2017 وتعديله في 2019 منه جيشاً ثانياً كما أراد له حميدتي في 2017 صريحاً في برنامج تلفزيوني. وترافق مع ذلك أن انفتحت عليه أبواب المال من استثماراته الكثيفة وأعماله، وعقوده في إجارة قوات دعمه السريع للراغب حتى كان الاتحاد الأوروبي من زبائنه يكف عنه الهجرة غير الشرعية. واقتحم حميدتي بعد الثورة أروقة المركز ليصبح الرجل الثاني في الدولة. وهي منزلة لم يحصل عليها العقيد قرنق إلا بعد حرب نحو ربع قرن من قتال المركز ثم الاصطلاح معه في 2005.
وشيد حميدتي من فوق هذا السلطان مملكة سياسة أنفق عليها بغير حساب. ولم يروع الناس في هذه الحرب مثل شهودهم ما أعده لها من رباط الخيل. فغر لها السودانيون فم الدهشة: كيف راكم الرجل هذا العتاد في وضح النهار وعين المركز تعاين؟ فإن كانت لحميدتي مظلمة من المركز فهي أنه لم يسلمه الحكم حين طلبه عن يد وهو صاغر.
تلوك الصفوة اتهامات لبعضها البعض عن مسؤولية أطرافها في إشعال الحرب الدائرة. وهي من الحديث المرجم الذي صرفها عن إدراك مفهوم الحرب القائمة أو تحليل دلالاتها السياسة والاجتماعية والعسكرية التي أتينا على بعضها في هذا المقال. واتفقت هذه الأطراف في شيء واحد على رغم وسع الشقة بينها وهي الجهل بحرب يعدها بعضهم عبثية بينما يعدها الآخر من ذرى الوطنية السودانية.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء