الحراك الشعبي والرهان على قطار ينطلق بلا مكابح

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم
بهدوء -4-

mohdatabuja@gmail.com

يبدو إن هناك علاقة ضعيفة جدأ في مجتمعاتنا بين ما نحلم به وما يحدث لنا في الواقع . ولان الامور في عالمنا تسير أصلا خبط عشواء ، فان الشخص الذي ينظر الى الغد بفضول غالبا ما نعتبره قليل الإيمان ( وزول شفقان ساكت) وفي نهاية الأمر ما من أحد لقي حتفه بسبب رداءة خطة عمله. على ان الامر ليس كذلك في العوالم المتقدمة التي تحترم العقلانية كمنهج حياة، خصوصا عندما يتعلق الامر بقضايا الوطن وخاصة عند المنعطفات الحرجة . الوضع الراهن في اي لحظة لا يؤخذ كواقع اصم مثل الكرة التي يمكن ارسالها الى مرمى الخصم ككتلة واحدة، بل هو كُل‘‘ يحمل تناقضاته؛ الخير والشر ، الخطا والصواب.....الخ، اي باختصار هو كل يحمل (فرصا ومخاطر ترقد جنبا الى جنب) . فقليل (جدا) من التحليل المبسط للفرص والمخاطر يساعد (كثيرا) على تركيز الجهود والموارد القليلة لإغتنام الفرص المتاحة لاقصى حد وتقليل مساحة المخاطر او إحتوائها وتفاديها. وبقليل جدا من العصف الذهني لفرز نقاط قوتنا عن نقاط ضعفنا تبرز الملامح العامة لما يمكن عمله ومالا يمكن عمله وما يجب عمله وما يجب تجنبه . والمحصلة النهائية لكل ذلك تكون رؤية واضحة واقعية قابلة للإنجاز في وقت معلوم بدلا من العيش على احلام ظلوط.
في مقالاتنا السابقة خلصنا الى إن الحراك الشعبي الذي ينتظم البلاد يحمل فرصة تاريخية نادرة للتحرر، والى الابد، من كافة مظاهر الاستبداد التي ظلت تسيطر على حياتنا السياسية منذ الاستقلال وفي نفس اللحظة فانه يحمل ايضا مخاطر حقيقية تتمثل في ؛(1) ان ننتقل تحت ضغط ضرورة إسقاط النظام معصوبي الاعين وتحت تاثير التنويم المغناطيسي من استبداد الى استبداد اخر بمسميات مختلفة او (2) الانزلاق الى فوضى تحصد الاخضر واليابس.
المراقب للمشهد الحالي بعين فاحصة يلاحظ اننا منذ انطلاق الحراك الشعبي في 19 ديسمبر مازلنا كمن يراهن على قطار ينطلق بلا مكابح ننتظر ان نصل الى محطتنا بضربة حظ. فلا مبادرات شجاعة وجادة من النخبة السياسية في الحكومة او المعارضة لإغتنام الفرص التاريخية للاعتراف بالفشل ومنح الشعب حق تقرير مصيره بنفسه ولاجهود جادة لتفادي المخاطر المصاحبة للازمة . ويمكن تلخيص ذلك كما يلي:
أولاً: فقدان الرؤية الواضحة لاغتنام فرصة الحراك لارساء الديمقراطية كبديل منطقي للإستبداد:
منذ انطلاقة الحراك في 19 ديسمبر 2019م ظلت الاحزاب السياسية وقوى المعارضة المنظمة تمارس التخطيط الاستراتجيي حصرياً في محافلها الخاصة وغرفها الخلفية المغلقة وبالطبع لا لشئ الا لتحديد ايسر السبل واقصر المداخل لإستغلال ثورة الشباب من اجل تعظيم مكاسبها وغنائمها السياسية الضيقة في سودان مابعد تسقط بس بمجرد سقوط النظام. بينما نجد ذات القوى السياسية ونشطائها والكتاب المساندين لتلك الاحزاب تعمل على الترويج واشاعة وتشجيع مظاهر الرفض القاطع والغريب ان لم يكن (الهستيري) لاي تفكير صحي وعقلاني فيما وراء تسقط بس . والمحصلة النهائية مبادرات تفتقر الى رؤى جادة يحتل فيها مشروع ارساء دعائم الديمقراطية مكان الصدارة والاولوية بل إن ذلك الحلم يضيع ويبتعد يوميا وسط جوقة المصطلحات التي تزدحم بها تلك المبادرات والتي هي عبارة عن مساومات ومحاصصات بين الاطراف الموقعة عليها فقط بدون مشاركة ذات معنى من الشعب . كل المبادرات تقترح فترة إنتقالية اقلها اربعة سنوات تصول فيها وتجول كما تشاء حكومات نخبة انتقالية هشة بدون شرعية وتفويض شعبي وتحمل على ظهرها كومة مهام لحل كافة مشاكل السودان الاقتصادية والسياسية. فعلى سبيل المثال لا الحصر وفي هذا الاطار اكدت قوى إعلان الحرية والتغيير أنها جمعت مناديب لدراسة تفاصيل الفترة الانتقالية و(صياغة الحلول العلمية والعملية لكل أزمات البلاد في المدى القصير والمتوسط)، ويمضي البيان ( فنحن نعلم بأن المهمة شاقة وأن الآمال عراض وواجبنا أن نعمل سوياً حتى تتحقق ولا تنحرف الثورة عن مراميها !!!!!) . الكثير من الاسئلة المنطقية والمشروعة تفرض نفسها بقوة في هذا الاطار :- او ليس هذا إصرار على عدم تعلم الدرس ؟ او ليس هذا اصرار من النخبة السياسة الفاشلة على الاستمرار في السطو المستمر على سيادة الشعب ومصادرة حقه في تقرير مصيره بنفسه بدون وصاية؟ هل هذا مشروع إنتقالي ام إستيطاني يحرم الشعب من المشاركة الحقيقية في بناء مستقبله و إختيار ما يشاء من اجندة ويرفض ما يشاء ومن يشاء عبر نظام ديمقراطي ؟ لماذا تريد هذه النخبة السياسية ان تحمل نفسها مهام (شاقة) كما تسميها ؟ ومن كلفها بذلك؟ لماذا لا تصيغ هذه النخبة حلولها العملية والعملية لحل (كل ازمات البلاد) في برامج انتخابية تعرضها اولا على مؤسساتها الحزبية ثم بعد ذلك على الشعب صاحب السيادة بخشم الباب ليقرر هو ما يريد ومن يريد ؟ هل الشعب السوداني مازال طفلا غير راشد يقل وعيا عن الشعوب الحرة التي تضع اجندتها بنفسها وتعرضها على النخبة السياسية في مقابل حصولهم على اصواتها في البلاد المتقدمة التي تعلو فيها هامة المواطن (السيد) على السياسي (خادم الشعب) ؟ او ليست هذه المبادرات محاولة لجرف الثورة عن مراميها ؟ او ليس هذا تبديد للوقت والجهد ووصفة جاهزة لاضاعة فرصة تاريخية للتحول الديمقراطي في هذا المنعطف؟. ثم ماهي ضمانات صمود مثل هذه الحكومات الانتقالية الهشة لمدة شهر واحد فقط ناهيك عن اربعة سنوات امام التوقعات الهائلة التي زروعها في أذهان الشباب الثائر بان كل المشاكل ستحل تلقائياً بمجرد سقوط النظام وبس ؟؟ وكيف سيعيش الشعب السوداني معزولا لمدة اربعة سنوات او أكثر عن مجتمع دولي واقليمي لا يقبل ولايستطيع قانونيا التعامل بارتياح مع حكومات تفتقر الشرعية الدستورية ؟؟؟؟
نعلم ان قوى اعلان الحرية والتغيير هو تجمع يضم احزاب سياسية محترفة تود ان تستغل الاخفاقات الهائلة لحكومة الانقاذ وتنتهز فرصة الفترة الانتقالية للاستيلاء على السلطة باسم شرعية ثورية وتفويض افتراضي من الشعب ولكن ماذا عن المكونات الاخرى وعلى رأسها تجمع المهنيين . ؟؟؟ هل هي أيضا واجهات اخرى لاحزاب اخرى ام إنها الابن البار للوطن الكبير ؟ نحن لانحتاج الى معرفة أسماء أوالسير الذاتية لقادة تجمع المهنيين للتعرف على هوية هذا الكيان الطموح. وفي تقديري ان هذا جهد لايحمل اي قيمة تحليلية. ولكن سلوكه وحركته خلال الفترة الماضية يوحي بانه أقرب لمؤتمر الخريجيين أكثر من كونه تجمع نقابي مهني . او كما قال الشاعر الامريكي James W. Riley قديما:
( عندما اشاهد طائرا يسير ويعوم كالبطة فيمكنني ان اطلق عليه بطة)
إذا كان الامر كذلك فمؤتمر الخريجين كان رداء واسعا فضفاضا يمكن ان يتقمصه اي حزب سياسي جاهز. في الحالة السودانية فقد استخدمه الحزب الشيوعي كحصان طروادة لدخول برلمان ما بعد اكتوبر 1965م كما استخدمته الجبهة الاسلامية القومية لاحقا بنفس الطريقة لتضخيم حجمها النيابي في برلمان ما بعد أبريل 1985م. بناء على ذلك فان البعض يرى ان الحزب الشيوعي، باعتباره الحزب الوحيد الذي استكمل بناء مؤسساته خلال مؤتمراته العامة الاخيرة، يقوم بتزويد التجمع ببنيته التحتية وشبكات خلاياه القاعدية في الاحياء والمدن لمساعدة تجمع المهنيين في تعبئة الشباب للمشاركة في الإحتجاجات في مقابل قيام الاخير بالترويج لشعارات آخر مؤتمر عام للحزب وسط الثوار بنفس صيغتها وايقاعاتها والأهازيج المصاحبة لها . واذا صحت هذه الصفقة ، فهل يستطيع تجمع المهنيين الفكاك من قبضة الاجندة الحزبية بسهولة (باخوي واخوك) والانحياز للفضاء العام ؟ .
ثانيا : ضعف او غياب الثقافة السياسية المصاحبة للديمقراطية في الخطاب العام
المؤشر الثاني على تراخي النخبة السياسية وجديتها في انجاز مشروع الإنتقال من الاستبداد الى سودان ديمقراطي، هو إفتقار القوى المسيطرة على الوضع الراهن الى لغة وخطاب يتناسق مع الثقافة السياسية المصاحبة للديمقراطية بل ان الادبيات السائدة على معظم الوسائط لا تنطلق من ثقافة سياسية تروج لقيم احترام الرأي الأخر والشخص الآخر وسيادة القانون وحرية التعبير والترويج للسلام وعدم اثارة الكراهية واحترام حقوق الإنسان كمستحقات طبيعية وليست كرم او منة او منحة من كائن من كان. فالمرأ احيانا يصاب بالصداع عند محاولة قراءة بعض المقالات المنشورة رغم ان كتابها يبدو انهم عاشوا ردحا من الزمان في مجتمعات لا تحترم فقط الرأي الاخر بل ترى في إختلاف الرأي ثروة واثراء للمعرفة فالراي الصواب لا يكمن في رايي انا او رأيك انت بل حصيلة التلاقح بينهما:
my opinion, your opinion and the right one) )
ثالثا : إنكار وتجاهل المخاطر المحتملة:
- المؤشر الثالث والمثير للقلق هو انتشار تيارات انكار واستخفاف مزعج بالمخاطر المصاحبة للمرحلة الحالية خصوصا خطر انتقالنا الى استبداد اخر او الانزلاق الى فوضي بل ان اي حديث عن أي مخاطر محتملة اصبح يعتبر امر مرفوض والافظع من ذلك ان بعض الاصوات تنعت مثل هذه الاتجاهات بمحاولات تثبيط الهمم وفتل العزيمة وإخماد الثورة والتشاؤم . وفي لهجة متعالية على الشعوب الاخرى، يرفض بعض النشطاء تماما احتمالات انزلاق البلاد الى فوضى، بدعوى تفوقنا على شعوب البلاد التي مزقتها ثورات الربيع العربي وذلك بفعل الانضباط او الوعي الثوري الذين نتمتع به دون سائرشعوب العالم الثالث. وهذا في تقديري، تعالي يفتقر الى الموضوعية فمعظم دول الربيع العربي على سبيل المثال، لم يكن بها مليشيات مسلحة عند بداية الحراك الشعبي ضد حكامها أما نحن فبلادنا تعج بكل أنواع المليشيات والحركات المسلحة منذ زمن يسبق إنطلاقة الحراك الشعبي في 19 ديسمبر العام الماضي. كما ان الحكومة لديها مليشيات ظاهرة وباطنة ولا احد يعلم كل من المليشيات القبلية والدينية الجديدة بدأت في التشكل حاليا للدفاع عن الانتماءات الابتدائية تحوطا لاحتمالات سقوط الدولة وانهيار النظام العام وضياع الوطن. الغريب ان كبار مسؤولي الحكومة اشاروا لهذه المخاطر وتبرع احدهم بمعلومات عن تواجد جيوش تنتظر ساعة الصفر ومع ذلك لم تخطو الحكومة الخطوات المنطقية المترتبة على هذه المعلومات.
- إن الذين يرفضون القبول بهذه الحقيقة وينكرون المخاطر إما إنهم يخطئون قراءة خريطة واقعنا او إنهم يسعون الى الوصول الى اهدافهم على قوارب تمخر فوق دماء ابناء هذا الشعب العظيم. فهم من على منابرهم الوثيرة يحرضون الشباب على مواجهة الرصاص بصدور عارية ( ولا ادري لماذا بصدور عارية ) وذلك لاسباب وجودية ... لان حراك الشباب في الشوارع ومواجهاتهم اليومية مع الاجهزة الامنية خصوصا عند وقوع ضحايا تمدهم بالاوكسجين اللازم لبقائهم على المسرح ولو ارتاح الشباب يوما واحدا يفقدون صوابهم ويجن جنونهم . ولو توقف الشباب ،الذي انطلق اصلا بدون اذن من احد وبدون خريطة شوارع من احد، فسوف يتبخر بعضهم في الهواء كالفقاعات.
الخلاصة:
1. إن ثورة الشباب تعتبر فرصة تاريخية قد لاتتكرر مرة اخرى، (لاعادة هيكلة علاقات القوة بين النخبة السياسية الفاشلة والشعب صاحب المصلحة الحقيقية والسيادة ) ليصبح الشعب هو السيد والمرجعية لمن يريد ان يخدمه من الحكام وليصبح الحكم والسلطة خدمة عامة وليست سيادة فوق الناس أو حصص تتقاسهما النخبة السياسية أيام المحن ولتصبح هامة الانسان السوادني البسيط هي الاطول من قامة اي فرعون صغير او كبير... قائم او قادم . هذه العبارات ليست الغاز او اوهام او هتافات وشعارت فارغة بل هي علاقات حية ماثلة امامنا في معظم بقاع الارض الا بلادنا المكلومة.
2. وان امر تحريرالانسان السوداني لايحتاج الي وضع المتاريس امام مساره نحو الإنعتاق ببرامج انتقالية ومهام شاقة وإبقاء الشعب رهن الحبس لفترة اربعة سنوات اخرى تحت اسر وقبضة الوجه الاخر لعملة الاستبداد من السياسيين المحترفين لينفقونها في ( واللت والعجن والطحن) والجدل البيزنطي. فاجراءات الانتقال والتحول الديمقرطي متوفرة في تجارب عشرات الشعوب التي سبقتنا في هذا المجال في العقود الماضية والدساتير الانتقالية والدائمة على قفى من يشيل ولايحتاج اعدادها لتأخير يوم الخلاص لمدة أربعة سنوات فالممللكة المتحدة على سبيل المثال ظلت تدير شؤونها السياسية منذ قرون بدون وثيقة محددة يطلق عليها( دستور المملكة المتحدة) ولم تسقط السماء.
- ان الوضع يحتاج الى ان ترتفع الاصوات الوطنية عاليا في هذا المرحلة لتنبيه قادة نادي النخبة السياسية الى طولهم وعرضهم الحقيقي في المعادلة السياسية الجديدة التي يكون فيها الشعب هو المرجعية وان الخروج من الازمة السياسية الحالية لايحتاج الى تنازلات من قادة النخبة او تسويات بين الفصائل المتناحرة فالنخبة ليست لديها مستحقات أو ديون على الشعب كي تتنازل عنها بل ان الامر على العكس تماما فبدلا عن ما يسمى (بتنازلات) فان الوضع يحتاج اولا وأخيرا الى (الإرتقاء) من الانتهازية السياسية الى مستوى ومسؤولية رجال الدولة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

 

آراء