الحَزَنَّيَة الثالثة : ذكرى الطيب العباسي ؛ قيثارة العشق والجمال والشجن

 


 

د. ابوبكر يوسف
3 September, 2011

 

بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى:(هَذَا بَلاغٌ لِلْنَّاس وَلِيُنْذَرُوْا بِه وَلِيَعْلَمُوَا أَنَّمَا هُو إِلَهٌ وَاحِد وَلِيَذَّكَّر أُوْلُو الألْبَابْ) ..الآية

هذا بلاغ للناس

بقلم: أبوبكر يوسف إبراهيم*



الاســتهلالة :

التاسع والعشرون من رمضان  1430 انتقل  إلى الرفيق الأعلى الأديب الأريب ؛ الشاعر  الصديق؛ الأخ والأب سليل الدوحة الصوفية السمانية ؛ القاضي الإنسان  الشاعر المرهف الرقيق الطيب محمد سعيد العباسي. و 29 رمضان يكون قد مضي على غيابه عامان؛ وفي ذكراه واجترارها   تنتابني مشاعر وأحاسيس الحزن والألم لفراقه؛ فراق رجل نادر الخصال. لقد غيّب الموت الطيبَ الطيبْ . بغيابه  صمت الكنار  المغرد العاشق للجمال؛ فلفراقه مرارة لا يدرك طعمها ولا كنهها إلا من كان قريب من هذا الفذ الذي قلما يجود الزمان بمثله.

المـــــــتن:

Ê    الطيب العباسي شاعر ملهم لا تخطيء عيناه الجمال وسحره فيقع أسيره فتجود قرائحه  بالقريض النميق المنمق. الطيب العباسي شاعر صوفي العشق ؛ مجذوب  للجمال لأن من يحترق بنار العشق والحب يعرج إلى منازل الوله  فيصبح صوفياً بحق . كيف لا ؛ وهو من يعانق القمر  ويبصر ما لا نبصر من أسرار وكنوز الجمال الذي لا تسبر غوره إلا روح صوفي عاشق!! إنه يبحث في سر الخرائد الجميلة في أكوان وعوالم السد يم .!!. حينما يعانق الطيب القمر يحتمل غزل النيازك؛ وحتى حينما قالوا له أن القمر بعد التحقق بات مقفراً.

Ê    الطيب العباسي سهل الغواية  حينما يتأمل في جمال مخلوقات الله ؛ تغويه البحار ؛ تعشق عيونه موجاته  فيلتهب وجدانه على ولو على صوت موجة معاندة ترتطم بصخرة؛ يتأمل الطيب في رمال الشطآن  والحصى وحتى الزبد ، فيتمنى أن يغمض عينيه ويضم كل الجمال إلى صدره في حنو الشاعر وتأمل الصوفي العاشق. أيها الطيب العزيز بكل كبرياء ونرجسية الشاعر فقد أبكاني الحنين وأنا أجتر ذكراك الغالية. أذكر يوم قلت  لي مداعباً وأنت تودعني بمطار الخرطوم في آخر لقاءٍ لنا : يا أبا بكر  أنك لا تملك إلا رقة  تتجلى دمعاً يأسر الحنايا؛ فلا  إطلاق لها ولا عفو من إساره وستصمت الدنيا بعد دمعك؛ فكان أن صمت الطيب وتركت العنان لدمعي ليرثيه.!!.. حقاً لقد صدقت نبوءتك ؛ فقد صمتت الدنيا بعد دمعي حينما فارقتها أيها القيثار المغني ؛ والزرياب المغرد ؛ والناي الذي يتردد رجع صداه في وجداننا إلى أن نلقك يا أبا أسعد!!..

Ê    إن غيبك الموت فهو السبب في شرخٌ جدار المشاعر الإنسانية لأحبائك وأصدقائك ولكل من خبرك عن قرب؛ إن فراقك لهو فراق أهل الوفاء النوادر؛ فلا أخجل من دمع ثخين هتون يتداعى على غير وعيٍ  مني ؛ إذ اعتادت عليه المآقي كلما تذكرنا ملحة أو خاطرة لك وهن كثر لذا كان الدمع غزيرا ..غزيرا.!!.

Ê    يا أبا أسعد إن ذكراك ؛ ما هي إلا نسمة صيفية تهب على جدار القلب فتفرحه أويقة ؛ وتبكيه لما أصاب القلب من شرخٍ لفراق شاعرٍ مثلك كانت أبرز خصاله العطاء الوفاء والإخاء الصادق وايثار الغير على النفس ؛ لقد كان ما بيني وبينك إلياذة وأوديسة ؛ ملحمة وفاء واقتسام خواطر وعشقٌ طاهرٌ للجمال؛ ما بيننا  هو؛ قصص وفاء أسطورية قلما يجود بها الزمان؛ وعشق طاهرٌ عفيف للجمال أينما كان وكيفما كان وفي أي مخلوقات الله كان !!. كنت أتساءل: هل كان الطيب يملك مثل الناس غضباً يلوح به لمن أساؤوا إليه؟!. لقد كنت سامقاً – كما كان عهدي بك على الدوام - ؛ وكنت كبيراً ؛ وكنت التسامح والسماحة؛ كنت كأسنام وهامات الجبال السوامق. كل اللغات تعجز عن وصف حزني على فراقك؛ فكلمة حزن تحتاج مني إلى آلاف الكتب لتعبر عن حزني على فقدك وافتقادك وفراقك.!!

Ê    لقد كنت قمة المعاني الثرة الجميلة الحلوة؛ بعد فراقك نشعر بأن الأفق ينزف ألماً على فقدان المعاني والعبارات الرشيقة؛ أحياناً ينتابنا شيء من الذهول وكأننا تعيش فراغ مقبور؛ نذكرك ونجتر قصائدك المراوحة لنا كأنها نسمات تطفو في فاجعة فقدك.. قصائدك هي عزاءنا ؛ فإنها سماء من أصداء ترن في أوتار أحاسيسنا فتوقظها خوفاً من سُبات النسيان ؛ إنها كصليل أجراس ديرٍ لناسك يتعبد ؛ أطمئنك فمثلك من الشعراء الأفذاذ والرجال الأوفياء لا ينسى حتى نلحق به.!! . تتمادى الذكريات ، وجنيات وادي عبقر يرددن  قصائدك أغنيات؛ والأفق ينزفها في خاصرة الشفق رجع صدى أصواتهن العذبة .. وهناك حيث أنت أيضاً حوريات حولك كفراشات الضوء من ألقهن !!

الحاشــية:

Ê    ذكرياتي معك كانت وستبقى ما حييت حتى ألقك ونحن في انتصاف الأحزان؛ قصائدك مباحة تخرج كأمواج نيلنا مباحة للماء ؛ للموج؛  للنسيمات الجميلة ؛ ذكرياتنا  معاً تظل كمحارات في قلب اليم تتكتم على لؤلؤ مكنون ؛ تورث  الجمال والعشق ؛ تورث أغاريد البلابل؛ ورقص الحوريات؛ وفوضى الحب؛ وأفنان في حدائق غنّاء.

Ê    في حزنيتك الثالثة أيها الطيب ؛ فإنك تشعل في جوف الليل قناديل الذكريات؛ وقصائد أشبه بصهيل الجياد الصافنات؛ قصائدك تداعب المساء ثم ترميني بجمالها وكأنها حسناء تتثنى وفي مشيها الهوينى لتغويني وأنا أسير الحرف ؛ فيسألني القصيد: يا هذا ما الذي أغواك وأغراك بي ؟! .. وأجيبها: أنا أهفو دوماً للجمال وأسجله قصائد عشق وصفتني بعدها بأني سليل العباس بن الأحنف في عفة عشقي؛ وطهر إعجابي ؛وسبري لأغوار الجمال فأقع أسيره دون غواية. هل لي أن أسترجع بعض أبياتٍ من روائعك الرائعات؛ و ما سطرته أناملك في الجمال الذي أخذ بلبك فحرك  أسر اب  من جنيات عبقر فكتبت  رائعتك " بهجة الروح"

يا بهجة الروح يا روحي ويا قدري رُدي إليّ الذي ضاع من عمــري

بنظرةٍ؛ بابتساماـتٍ، بهمـهمةٍ أحلى من النصـر؛ في أعماق منتصـــرِ


حتى تأتي إلى قولك الذي ندرك فيه معاني الطهر والعفة:


والحبُ عندي نقيٌ طاهرٌ ألق أنقي من الـنور، نـور الشمـس والقمـــر

حتى تصل إلى خاتمة القصيدة فتقول:

يا بهجة الروح هل يرضيك أن تَندي حباً هو الزاد في حِلّي وفي سفري

حبـاً رعـاه فـؤادي طاهـراً نضــراً عـوّذتـه مـن شـرور الجـــن والبشــر

فـإن قَرُبْـتِ فإني لستُ أطمع في شيٍ سوى الهمس والبسمات والســمرِ

وإن بَعُـدتِ فحالي كلها كـرمٌ أرعـى الهـوى بين أضـلاعي مـدى عمـري

هامـــش:  من قصيدته (أمل):

ما رأيتُ العمرَ أحلى من أمل نهدة الثدين عجزاء الكـــفل

خُـلق الانسان من طينٍ ؛ وما هي إلا من رحيقٍ وعـــسـل

تنثــر الــدر إذا ما نطقـــتْ من فـــمٍٍ مـا صـــيغ إلا للقبــل

لــو رآهـا فـي صـــباه عُمـر مـا تغنـّى بالثُـــريّا أو جُــمَلْ

حُسْــنُها معجـزةٌ أوصـافه ؛ فهو أسمى من بليغات الجُمَل

أشْــرعَتْ أهــدابَها فتغنّـتْ بيـن أحنـائي أغــاريدُ الغـــزل

ثمّ قالت لي بصوتٍ ناغمٍ: هل تذوقت الهوى؟ ؛ قلت أجل!

ذقــته شــهداً وسُـــماً ناقـــعاً ؛ ذقـــته  صـداً وإقبـالاً ودل

فالهـوى في كـل قلـبٍ نابضٍ؛ قـدر الانسان مـذ كان الأزل

فاصـرفي ذكــرى ليــالٍ سـلفتْ؛ رَحِــمَ الله ليالــــــيّ الأُوَل

Ê    رحم الله الشاعر الصديق والأخ  والأب المرهف الفذ  الوفي؛ سليل الدوحة الصوفية السمانية ؛ ووريث الشعر كابر عن كابر ؛ أسأل الله أن يوسع له في قبره ويجعله روضة من رياض جنانه .. لقد فقدنا افتقدنا قيثارة العشق والوجد والجمال والشجن.!! سأظل أبكيك فذكراك باقية ما أبقاني الله حياً يا أبا أسعد.!!
abubakr ibrahim <zorayyab@gmail.com>

 

آراء