قد يبدو من المبكر الحديث عن فترة ديمقراطية رابعة هذا إذا تمكنا من إجتياز الفترة الإنتقالية المترنحة والوصول لترتيبات تفضي لإنتخابات حرة تلج بنا فترة ديمقراطية. ولكن قد يكون علينا التحسب بأن الديمقراطية الرابعة قد تكون كالعنقاء نسمع بها ولا نراها بل وقد يصل بنا الأمر بأن نتمنى حتى أن لا نراها. سنتحدث في هذه السلسلة المتتابعة عن ما نعتقد بأنه العوائق التي ستعوق الوصول لفترة ديمقراطية رابعة وموت الفترة الإنتقالية نفسها وبدأناها بالشد بين اليسار والدعم السريع في الجزء الأول ونواصل هنا بالحديث عن الشد بين اليمين وحركات الهامش المسلحة.
بالطبع في بؤرة الشد بين اليمين والحركات المسلحة الشد الأزلي بين الإمام الصادق المهدي والحركة الشعبية لتحرير السودان ولب النزاع هو علمانية الدولة. وعملياً هذا يضع الإمام في مواجهة مع حركة تحرير السودان بقيادة القائد عبدالواحد محمد نور والتي لم تدخل بعد في عملية تفاوضية مع الحكومة. ولم نذكر تقرير المصير لأنه لا يَهُم الإمام كعلمانية الدولة التي ستقوض مكانته ومكانة أجداده وذريته المقدسة إلاهياً وتجعل مثل هذا التعاطي في السياسة مستقبلاً أمر تشمئز منه الأجيال القادمة وتنفر منه كجذام رجعي قطع أوصال السودان، وتستطيع التنبؤ بسهولة بأنه سيوافق على بتر وإذا كان الأمر بيده حرق كل جزء يسلط بجدية سيف العلمانية على رقبته المقدسة. في الحقيقة فإن الإمام مقدس حتى رقبته فقط لأن القداسة تستحي أن تصل لرأسه، إن رأس الإمام خاو بطريقة مخجلة حتى بالنسبة للقداسة التي يمكن أن يحصل الناس عليها إعتباطاً، إن الإمام عندما يكتب أو يتكلم يصيبك تعجب شديد ليس من مستوى الإمام المثير للريبة، بل من كيف هناك من يتبع الإمام مِن مَن يستطيعون القراء والكتابة خصوصاً ونحن في القرن الواحد والعشرين. إن الإمام الصادق يدمر كل شيء يلمسه بيده وآخر ضحاياه الآن قحت وسوف يدمر حزب الأمة نفسه وسترون هذا. إن الإمام الصادق يكره الحركة الشعبية كره غير طبيعي منذ أيام المرحوم قرنق وكان كرهه الشخصي لدكتور جون قرنق لايخفى على أحد، وللأمانة فإن جمهور الحركة الشعبية يكره الإمام كره غير طبيعي أيضاً للحد الذي نستطيع أن نقول معه بأن هناك فوبيا الإمام وسط هذا الجمهور وهذه الفوبيا مستحقة، إن تقارب الإمام مع القائديين التاريخيين في الحركة القائد مالك عقار والقائد ياسر عرمان وخصوصاً تقاربه مع الإخير قد أدى لإزاحتهما عن القيادة ثم لإنشقاقهما المؤسف قبل عدة أعوام، أي أنه حتى الحركة الشعبية التي كان يعتقد أنها بعيدة جداً عن تأثيرات الأمام تأثرت بمقدراته الشهيرة على تفتيت التنظيمات والتحالفات السياسية التي تحاول مواجهة اليمين المتطرف في المركز بل وحتى تجربة مواجهة اليسار في سبعينيات القرن الماضي. من الجدير أن ندعوا للتساؤل لماذا لايكره جمهور الحركة الشعبية مولانا السيد محمد عثمان الميرغني؟ رغم أن مولانا وطائفته وتنظيمه بالنسبة لهذا الجمهور يقع في لُبْ تكوين المركز وأحد أعمدته الرئيسية. ببساطة لأنهم لم يتلوثوا بالأفكار والعقيدة الشوفينية النازية الفاشية للأخوان المسلمين والسلفية، وليس لديهم رسالة دينية وثقافية يريدون فرضها على الآخرين قسراً وأمراً من الله، ولا يبعثون أو يوحون بأي رسالة أبوية تجاه الآخرين، ولايعطون إحساساً بأن لديهم حق إلاهي (حتى لو كانوا يضمرون هذا في قلوبهم) في حكم الآخرين، في حقيقة الأمر هم طريقة وطائفة صوفية عادية مثلها ومثل أي طريقة أو طائفة صوفية في الحزام السوداني وشمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، وتستطيع الجزم بأنه لو لا ضغط الأخوان المسلمين والسلفية - والإمام الصادق منهم - بأنهم ليست لديهم أي مشكلة في العيش تحت دولة علمانية مثلهم مثل أي طريقة صوفية في أفريقيا أو آسيا والتي بها طرق صوفية كبيرة جداً عكست أمثلة رائعة في التعايش مع العصر والدولة الحديثة. إن الإمام إذا لم تَحْسِمُه حاضنته الإجتماعية إذا كانت تريد العيش بسلام ونخبة المركز التي بطريقة أو بأخرى ترضخ له دوماً سيشد حتى الموت لكي لا يتم تحديث الدولة والمجتمع، وفي المقابل ستشد الحركة الشعبية حتى الموت (هذا حرفي فهي تحارب) ليتم تحديث الدولة والمجتمع أو ينقطع جزءها الخاص بها بين يديها. إن رجعية الصادق التاريخية والأبدية وقدرته العجيبة على لي يد اليسار ستتسبب حتماً في في إنهيار المفاوضات مع الحركة الشعبية ومن المؤكد مع حركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد مستقبلاً وقيام إنتخابات جزئية تغيب عنها مناطق عديدة من السودان وهي الهواية المحببة للصادق المهدي ولا داعي أن نحكي التاريخ في الفترة من 1985م - 1989م فمن عاشوا هذه الفترة وهم كبار وواعون مازالوا موجودين وفي صحة جيدة وهم أقرب إلى الشباب منه إلى الكبر.
إن من أوجه الغرابة للمتابعين لمجرى الإنتفاضة ’’ثورة ديسمبر‘‘ أن الأخوان المسلمين الذين يعتبر الصادق منهم قد وافقوا على العلمانية صراحة في الفترة التي تلت سقوط البشير وبدءوا في تهيئة الأجواء لذلك، وبدا كأن علمانية الدولة أمر مسلم به حسب مجرى الثورة نفسها وكان واضحاً بأن هناك إستعداد نفسي لقطاعات كبيرة للقبول بعلمانية الدولة، بينما رفضها الصادق وكون جبهة جر إليها المترددين والمتشددين وفلول المؤتمر الوطني ورضخ له اليسار خوفاً من تصدع البيت الكبير الذي هو بداخله، وبالضبط هذا هو التكتل الذي وصفه القائد الحلو بالـ ’’الجاك‘‘ الذي لا يمكن أن يقوم بتشليع منزله (للمعلومية فإن الجاك هو الحرفي). وبالطبع لا داعي للتذكير بأنه لا يوجد يسار راديكالي في الشمال بما أن الراديكالية هنا معنية بهدم المنزل.
بعد أن رأينا كلنا تواطؤ اليسار ورضوخه المُخزي مع اليمين تجاه مطالب حركات الهامش المسلحة ومطلب الحركة الشعبية بالعلمانية في المفاوضات، الرضوخ الذي أثار حتى إشمئزاز بعض المفاوضين، رأينا كيف أن بعض قوى اليسار حولت موقفها لدعم موقف الحركة في العلمانية ليس لأنها راجعت نفسها مبدئياً وأخلاقياً ولكن بسبب الإقصاء الذي واجهته من الجناح الذي يُزعم بأنه يسيطر على الشق المدني في مستويات السلطة بعد الثورة وهو جناح الشفيع خضر، وفي نفس الوقت شعورها بأن جبهة الإمام الصادق اليمينية والتي شعرت أيضاً بالإقصاء والعرقلة من ذات الجناح ليست في حاجة لهم وبأنها بدأت في فرز معيشتها بعيداً عنهم (بعد أن إكتشفوا بأن الصادق هو الصادق وكأنهم قد ولدوا بالأمس، بعد أن صد الصادق وصالهم وأحسوا بالخطر وبأنهم قد يعيدوا تمثيل مسرحية مقلب إنتفاضة أبريل 1985م والديمقراطية الثالثة) الشعور باليُتم هذا، هو ما يبرر تعلق هذه القوى اليسارية الجديد بمطالب حركات الهامش على أمل أن تكسب أرضية جديدة وأن لا تضيع بين الأرجل.
كلنا أصبح يعلم بأن للنخبة الشمالية بمختلف إتجاهاتها وألوانها خطوط حمراء هي المقابل الموضوعي للحفاظ على إمتيازاتهم. ولهذا من المتوقع بأن التصدع في الجبهة الشمالية سيلتئم لمصلحتهم العليا - حيث أن خطر الهامش أصبح أقوى عليهم من أي وقت مضى - على صيغة تتشبه بالعلمانية تحاول أن تحافظ على أكثر إمتيازاتهم حيوية مع التخلص من الزوائد غير الضرورية وتقديمها كتضحية عظيمة مع العويل والبكاء حتى يتم تمريرها، وبالطبع سيتم التأكيد على حق المنطقتين في الحكم الذاتي والتشريع، ويتناسى هؤلاء بأن معظم سكان المنطقتين يعيشون في الشمال ليس فقط بسبب النزوح من الحرب ولكن لأنه تم تجريفهم من مناطقهم عمداً (أعتقد أن مخططات الحركة الإسلامية معروفة وتم كشف بعضها علناً ولا تحتاج لشرح) ليعيشوا في الشمال ليتم تدجينهم ونهب ثرواتهم وفائض قيمة عملهم هم أنفسهم في الشمال، وربما كان هذا من أهم أسباب المطالبة بالعلمانية في كل السودان. في الحقيقة فإن تطبيق العلمانية في المنطقتين فقط قد يستفيد منه الشمالييون الجلابة - وهذا إسمهم الحقيقي بالمناسبة في تلك المناطق وليس إساءة - الذين يعيشون هناك أكثر من السكان الأصليين Natives الذين لازالوا يعيشون في مناطقهم والمعنيين بالحقوق الجديدة والتنمية المتوازنة والتمييز الإيجابي.
يبدو من الواضح بأن الشد بين اليمين ومن تواطأ معه ضد حركات الهامش المسلحة وليس كما يعتقد البعض فقط ضد الحركة الشعبية بقيادة الحلو وتحرير السودان بقيادة عبدالواحد ولكن معظم الحركات، سيجعل إكمال العملية الدستورية دون هزيمة أحد الأطراف أمر شبه مستحيل إذا لم تحدث معجزة أو تجلي لأحد الأطراف يجعله يتنازل فجأة ويذهب إلى الخلوة، فإن معظم الحركات المنضوية تحت لواء الجبهة الثورية وتفاوض الآن في منبر جوبا للسلام والتي يعتقد البعض بأنها الحركات المهزومة للمركز وتبحث عن مخرج ما مشرف لها، قد تبرهن في القريب بأنها أكبر ورطة سيبتلعها المركز بعد ورطة الدعم السريع، إن خطة الجبهة الثورية ليست بذلك الغموض، من الواضح بأنهم يخططون لقلب الطاولة من الداخل، وهو أمر إذا تم التفكير فيه بتمعن ليس بالمستحيل مع التخطيط بطريقة جيدة ونية تكامل الجهود مع الآخرين فيما بعد، ولهذا لا يوجد سبب منطقي للإحتقار الزائد لمنهج الجبهة الثورية وفقدان الأمل فيها بإعتبارها كما يصنفها البعض إحدى قوى الهبوط الناعم التي دجنها الصادق والمجتمع الدولي، إن الجبهة الثورية ببساطة يمكنها أن تكون حصان طروادة. لا يوجد سبب للتصديق بأن نخبة المركز إذا لم تتنازل عن ثوابتها في موعد أقصاه المؤتمر الدستوري بأنه يمكن عقد إنتخابات شاملة متوافق عليها تُفضي إلى فترة ديمقراطية رابعة حيث أن المعني بالإنتقال إلى هذه الفترة وهو السودان قد لا يكون موجوداً.
كوكو موسى
kuku.musa.abuasha@gmail.com
///////////////////