وتوديع أيام البراعم مؤذن
بخلق الزهور الباسمات جمالا
ومصنع هذا الكون بالخلق دائر
فاني أرى فيه السكون محالا
وليس سوى التغيير في الكون ثابت
يغير حالا ثم ينشئ حالا – اقبال
يشير عبد الرحمن منيف في كتابه (الديمقراطية أولاً.. الديمقراطية دائماً) الي بعض الظواهر الظاهرة التي جعلت الحالة العربية (وتنطبق هذه الظاهرة على الحالة السودانية بامتياز) الراهنة متميزة هو ذلك التنافر وذلك التباعد الشديد الذي يبلغ حد القطيعة بين القول وبين الفعل، بين الخيال وبين الواقع، بين الفرد وبين المؤسسة، بين المواطن وبين الدولة.
هذا التنافر أو التباعد لا ينطبق على بلد دون باقي البلدان، ولا على مجموعات معينة دون الأخريات، وكما لا يقف عند جانب واحد من جوانب الحياة، ولكنه، له من الشمول ومن العمق ومن الاتساع، بحيث يعيش في الحياة العربية بمجموعها، ويتعامل مع مصائر الناس والبلد معاً.
ولم تخلق هذه الظاهرة فجأة ولم تأتي من العدم أو من فراغ، ولكنها عبارة عن أو نتيجة لمجموعة من الأسباب التي كانت سابقة لظهورها ولميلادها، بحيث اننا في الوقت الحالي نقف أمام حالة مركبة ومعقدة ومحيرة، وأيضاً مربكة، فنتوه ولا نعرف من أين نبدأ، ويختلط علينا الرئيسي والفرعي، وتضعف عندنا قدرة التفريق والتمييز بين السبب وبين النتيجة، بين الواجب الذي علينا فعله الآن، وذلك الذي علينا تحقيقه غداً. وولد ذلك حالة من الإحباط ومن الياس ومن المرارة ومن التوهان في أزقة الضياع والدهشة، ورافق كل ذلك نزعة الهروب من تحمل المسئولية ورميها على عاتق الأخرين.
وفي خضم ذلك الوضع المليء بالتعقيد وبالخيبة وبالضياع، كيف علينا الافتراض أو كيف علينا أن نتصور، أين تكون البداية، وأين هو الحل، وكيف نحدده؟
وهنا نحن نفترض، نقطة البداية والانطلاق، ونقول ان الحوار، وهو بالذات، الخطوة الأولى في هذا السير الطويل الصعب المليء بالمضبات، اذن، ماذا يعني هذا الحوار الذي نعني؟ هو يعني الاعتراف والاقرار بثلاث بديهيات جوهرية، وهي:
الأولي، وهو الاعتراف بالآخر، وليس الاعتراف الشكلي، ولكنه اعتراف فعلى وواقعي وسلوكي. وبهذا الاعتراف يصبح الآخر جزء من البنية التي تبني المجتمع وتشكله، وهذا يحتم التعايش معه أي مع الآخر والتعامل معه، على أساس، “أنا موجود، اذن، الآخر أيضاً موجود”، وهذا الوجود حق اصيل وليس منحة أو منة أو صدقة، ويكون دائم ويكون مستمر الي أن يرث الله الأرض، ولا يكون نتيجة وضع طارئي مؤقت أو تزييناً لبعض الشكليات الباهتة.
وأما الثانية، فهي تؤمن بأن الحقيقة ليست هي كتلة صلبة صماء، يحتكرها طرف واحد دوناً عن الأطراف الأخرى، والحقيقة نسبية وموزعة، ويستحيل اكتشافها أو بلوغها الا بمحاورة الآخر وفهمه، فحوارنا يكمل نقصنا، والنسبية تشير لنقصنا، لذلك تدعونا للحوار لنكمل هذا النقص. وهذا الحوار يمهد ويعبد لنا سبل الوصول الي الحقيقة الفعلية، الممكنة، والتي تنفخ في العمل روح العقلانية والامكانية والاستدامة.
والثالثة، تشترط أن يكون هذا الاعتراف وهذا الحوار في بيئة صحية من التكافؤ ومن الاعتراف المتبادل، ومعتمداً على الاحترام وعلى الرغبة في التعاون، تمهيداً لبلوغ ما تحتاجه المرحلة.
وهذا الحوار المفترض والمقترح، والذي يحتم ان يمارس على كل وعلى جميع المستويات، ويعالج كل القضايا، ويكون بين كل القوي وبين جميع العناصر. وهو يستند بصورة أساسية وبصورة جوهرية على حقيقة كبرى ينطلق منها، ولازم ولا بد أن يكون له أرضية وله أساس يوجهه، وهذا الأساس وهذه الأرضية هي دائماً: الديمقراطية.
وقبل ذلك وقبل أي شيء وكل شيء، هي عبارة عن ممارسة يومية مستمرة لا تنقطع، هي طريقة في التعامل، وهي تعالج كل مناحي الحياة وجوانبها، بداية بأصغر خلية والي أكبر نقطة هناك في قمة السلطة (الرأس الكبير)، ومن أسخف المسائل وأبسطها الي أكبر القضايا وأكثرها خطورة.
وفي حنايا هذا المناخ الصحي الحر وثناياه، وعلى ضوء مثل هكذا ممارسة، نستطيع أن نتخيل بداية معالجة قضايانا وتناولها، وبلوغ صيغ وقواعد تحكم عملية التعامل بين الأشخاص، وبين هؤلاء الأفراد وبين السلطة، وبينهم وبين الآخرين.
صحيح أن الديمقراطية ليست حُلماً سهل التحقيق، وليست امنية ذهبية سهلت المنال، ولا يمكننا بلوغها بين غمضة عين وانتباهها. وهي ليست، بنفسها، حلاً سحرياً مكتمل الأركان، ولكنها تمثل المناخ الصحي والبيئة المثالية، وهي بداية الوصول الي المعالجات والي الحلول، ومع ذلك علينا أن نقر، ومنذ البداية، بأن أعداءها الذين يقبعون بيننا في الداخل هم كُثر وهم موجودين، وأيضاً هناك في الخارج أيضاً موجودين بكثرة، ولكن المشكلة الحقيقية لا تكمن في أعداءها من خارجها، ولكن في أولئك الكثيرين الذين يتشدقون بها وينادون بها، وهم غير مؤمنين فيها وغير مقتنعين بها القناعة الكافية الكاملة، ولا يمارسونها هم في حياتهم الصغيرة، ولكنهم يطلبونها ويطالبوا بها في ميدان الحياة الكبير.
وهناك من يؤمن بها نظرياً ولكنه لا يمارسها، أو يمارسها بطريقة خاطئة، وكما أن هناك من هم مستعدين للتساهل كثيراً بمفهومها وبحدودها حين تعني الآخرين، ويعتبر هذا التساهل في الفهم وفي الممارسة هو أحد أهم هذه الأسباب التي تدفع الحكام الي حرمان الشعب منها.
وكما قلنا سالفاً وسلفاً، أن الديمقراطية ليست هي ذلك الحل السحري، وليست هي بعصا موسى ولا بهدهد سليمان، ولكنها هي المناخ الملائم أو هي الوسط المثالي الذي يرسخ العقلانية، ويتيح الفرصة لمناقشة كل القضايا تمهيداً لبلوغ أمثل الحلول، وهي تلك الصيغة التي تخلق توازناً تفرضه موازين القوي، دون الغاء الآخر أو عدم الاعتراف به.
وهي، أي الديمقراطية تساهم وتسهل الانتقال الهادئ الرزين والمتدرج والمنطقي، وهذا هو ما يجب أن يستوعبه الجميع، وما يجب أن يفهمونه بوضوح، وفي حالة عجز الجميع أو البعض عن الفهم وعن الاستيعاب، أو لم يتم القبول بها، فالثمن سيكون غالياً وثميناً وربما أيضاً يكون فاجعاً.
ويقول الدكتور محمد شحرور في كتابة الواعي “الدولة والمجتمع”، اما إذا نظرنا الي الاستبداد والي الديمقراطية (الشورى) في السياسة من منظور اسلامي، فسوف نجد بأن مثل هكذا موضوع يعتبر بمثابة مرض مزمن في مجتمعاتنا المسلمة والعربية على حد سواء، ويعود تاريخ تلك الآفة الي زمان نهاية الخلافة الراشدة ومستمرة الي يومنا الماثل بيننا.
والشفاء من هذا الداء العضال يتطلب كبير جهد وكثير عناء، من أجل تأسيس دولة مدنية ديمقراطية في عالمنا الإسلامي، تتمتع بالمؤسسات الديمقراطية التي نجد فيها التعددية السياسية ونرى فيها استقلالية القضاء ونمارس فيها حرية التعبير عن الراي وسيادة القانون وحرمة الدستور.
ان هذه الأزمة لهي بحق أزمة مركبة ومستعصية في العقل الإسلامي السياسي قبل أن تكون مستعصية هناك في المؤسسات، فمن خلال كل تلك القرون ومن خلال تلك العهود الطويلة المستطيلة صار مفهوم الاستبداد فلسفة تأخذ لها حيز وحيز عظيم في شخصية الانسان المسلم، وتكون ضمن قناعاته وجزء من ممارسته وممارساته. وقد لعب الفقه وكذلك التصوف دوراً عميقاً في ترسيخ هذه القناعات من خلال اعطاءها شرعية وصبغها بصبغة دينية، وعملوا على تأطيرها فقهياً وأيضاً اجتهدوا في تأطيرها فلسفياً.
والسؤال هو، كيف تم تأطيرها فقهياً؟ والاجابة تقول، تم ذلك من خلال “طاعة أولي الأمر”، بغض النظر عن كيف هم صاروا أولي أمر. والسؤال الثاني وهو، كيف تم تأطير هذه القناعات فلسفياً؟ ونقول لقد تم تأطيرها فلسفياً من خلال العقيدة الجبرية لعامة المسلمين، بتلك القناعة التي تردد بأن الرزق مقسوم، والعمر محتوم.
وأننا لواجدين بأن كثير من المفاهيم في مجتمعاتنا قد طالها التغيير، وذلك من خلال التطور التاريخي، فصارت الحرية فوضى، وأصبحت الشجاعة تهور، وتم اعتبار الجبن حكمة وتعقل. ولنا في المفكر العظيم عبد الرحمن الكواكبي مرجعية قوية، حيث وصف، في قرطاسه طبائع الاستبداد (ص 132)، هذه الفلسفة، فلسفة قبول الاستبداد عند الناس في عالمنا الإسلامي، فهو القائل…
((لقد ألفنا الأدب مع الكبير ولو داس رقابنا، وألفنا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، وألفنا الانقياد ولو الي المهالك، وألفنا أن نعتبر التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً، والتملق فصاحةً، واللكنة رزانةً، وترك الحقوق سماحةً، وقبول الإهانة تواضعاً، والرضى بالظلم طاعةً، ودعوة الاستحقاق غروراً، والبحث في العموميات (المصالح العامة) فضولاً، ومد النظر الي الغد أملاً طويلاً، والاقدام تهوراً، والحمية حماقةً، والشهامة شراسةً، وحرية القول وقاحةً، وحرية الفكر كفراً، وحب الوطن جنوناً)).
وكان أن اعتمد هذا الاستبداد السياسي على دعائم الاستبداد العقائدي والفكري والمعرفي والاجتماعي عند الناس، وصار من المؤكد أنه لا تحرر او لا أمل في التخلص من هذا الاستبداد السياسي الا بإنشاء تيار مؤمن بالديمقراطية قولاً وفعلاً، ويحمل في وجدانه ايماناً غليظاً بوجود الراي والرأي الآخر، ويتمتع بحق مقدس ومصان، ومن خلال ذلك يتم تصحيح المناهج الاجتماعية.
وبما أن الديمقراطية أو الشورى هي من صلب هذه العقيدة الإسلامية، فإننا لا نجد في النظام السياسي الإسلامي الا احتمال واحد لا بديل له، وهذا الاحتمال هو الديمقراطية في السياسة، وهو موضوع يتطلب منا النضال والكفاح والموت في سبيله ومن أجله، لأنه هو النمط العلمي المتحضر للحياة الإنسانية.
ويحدثنا رئيس وزراء السودان الأسبق الأديب الأريب محمد أحمد محجوب في كتابه الديمقراطية في الميزان عن الديمقراطية الحقيقية، وقبل أن يدلف على الديمقراطية، يبدأ قصته حاكياً عما ورثته جميع البلدان الأفريقية عن الاستعمار، وأن كل ما قامت به هو أنها سارت في الطريق التي رسمتها لها الأنظمة الاستعمارية، فأنشأت ديمقراطية على غرار الديمقراطية البريطانية.
ولكن، والحق يقال بأن مثل هذه الأنظمة لا تتناسب مع كثير من دول العالم الثالث، وخاصة هذه الدول الأفريقية، التي تعرضت لعوامل التغير والتغيير، وكان تغييراً وتغيراً جذرياً منذ انعتاقها من قبضة الاستعمار، بيد أنه من الملحوظ ومن الملاحظ أنه نظام حكم يسمى نفسه بأنه نظام ديمقراطي، حتى أذا دخلته تغييرات وتبديلات، وأصبح يبدو مغايراً ومختلفاً بصورة أساسية عن العناصر الرئيسية التي تحدد الديمقراطية.
وهكذا طفحت على الأسطح مسميات كثيرة منها الديمقراطية الشعبية، وهي لا شيء سوا نظام الحزب الواحد، وهذا الحزب الواحد يشدد على تمتع “حزب الشعب” بالمعصومية، فهو لا يأتيه الباطل من أي جانب، وهناك الديمقراطية المراقبة وهي ايضاً لا شيء، ولكنها في حقيقتها ديكتاتورية عسكرية أو بيروقراطية.
والمحجوب يقول بأن العناصر الرئيسية وتلك الأساسية للديمقراطية -ليس المقصود الديمقراطية البريطانية- تتمثل في الاقتراع السري وفي تأسيس أحزاب مخاصمة، تختلف في أفكارها وفي اتجاهاتها وفي برامجها وفي سياساتها، تتيح الفرصة للناخب مجالاً واسعاً للاختيار ولممارسة حريته في الاختيار. وهذه هي المؤسسات الديمقراطية التي تحتاج لحريات أساسية، وهي أول ما يعاديها وما يقمعها ويحاول أن يخرسها النظام الدكتاتوري.. وهو لا يمنع ولا يقمع الا حرية الكلام وحرية الاجتماع.
ويقول بأن اعتماد الديمقراطية أو هي تعتمد على عدد كاف من هؤلاء الناخبين المثقفين، الذين لهم القدرة ولهم كل المقدرة على التفريق وعلى التمييز بين الشعارات المتواصلة والمستمرة من السياسات الحقيقية، والأخرى التي لها علاقة بالنعرات الشعبية.
وانه بالجد لأمر شاذ ولأمر خطير جداً أن ينجح حزب يرفع شعار حكم البروليتاريا من أن يركب موجة شعارات حرية الكلام في سبيل الجلوس على كرسي السلطة، وبعدها يعمل على سلب هذه الحرية الأساسية ويقمعها ويعمل على الغائها نهائياً.
وأقول بأن منبع تأملاتي تلك هو ما حصل في عدد غير قليل من دول العالم الثالث، وخصوصاً في قارتنا الأفريقية، بعد أن نالت استقلالها. وكان من الملحوظ أن الذين طالبوا بحق الحكم الذاتي، كانوا هم من الفئة الفاعلة الوطنية ومن طبقة المثقفين، ولم يكن رجل الشارع على دراية وليس له أدنى فكرة بأن الاستقلال لا يعني شفاء جميع الأمراض السياسية والاقتصادية هكذا، وكأن الاستقلال هدهد سيدنا سليمان.
ولم يكن السياسيون أكثر وعياً ويعرفون بأن دورهم بعد نيل الاستقلال يكمن في الضرورة القصوى للمحافظة على ثقة كل العالم من خلال تحقيق الاستقرار الاقتصادي للبلاد. وأنا أؤمن ايماناً شديداً بأنه لا يجب أن يتم تصوير ميلاد نظام حكم سياسي جديد في بلد نامي فتي على أنه نزيه بإدخال تغيرات جذرية في البنية الاجتماعية للمجتمع، ويجب ألا نعطي رجل الشارع العادي انطباعاً بأن كل الأحوال الاقتصادية ستتحسن سريعاً وفوراً بتحقيق الاستقلال واعلانه.
ومثل هكذا سلوك يؤدي الي الاضطراب السياسي وعدم الاستقرار الاقتصادي، وهما عاملان مهمان وحاسمين في عرقلة تطور المؤسسات الديمقراطية في الدول الحديثة العهد بالاستقلال. والنتيجة الحتمية تكون الإطاحة بها، سوا كان ذلك بقيام نظام دكتاتوري للحزب الواحد، أو بالانقلابات العسكرية الدكتاتورية.
وإذا حدث أو حصل أو حصلت أي هزة في الاستقرار السياسي فنتيجته بالضرورة ستتشكل في صعوبة المحافظة على النظام وعلى القانون، فالحكم، أي حكم، في حقيقته يستند على الثقة في القدرة على المحافظة على الأمن الاجتماعي. وكل ذلك يعتمد على التقيد العام بالقوانين وبالاتفاقيات، من قبل الحكام أو من قبل المحكومين.
وليعلم الجميع بأن التغيرات التي تشوه مبادئ النظام القضائي يخلق حالة من عدم الثقة، فالاثنين، القانون والعدالة، ليسا شيئاً واحداً، ولكنهما اثنين لا واحد. ويكون من مستحيل المستحيلات في مثل هذه الأجواء الملبدة بعدم الثقة أن يتم ولادة جيل من السياسيين المقتدرين، الذين لهم الدراية في كيف يطبقون ميزان الاقناع والقوة الذي يمتاز بأنه حساس جداً -اقناع الخارج عن القانون- في سبيل تأسيس مجتمع مستقر آمن.
والشيء الوحيد القادر على تأمين الظروف الملائمة، التي فيها يبلغ السياسيون ويصبحون في مستوى رجال دولة هو الديمقراطية، وهذا بعد أن ينالون قسطاً من الخبرة في قضاء سنوات ليست بالقصيرة في مناصبهم. أما أي نظام لا يختار الديمقراطية فهو نظام يمتلئ بالمصالح الشخصية وبالطموح الذاتي وبالغرض المغرض، ولا شيء غير ما ذكر، يكون الوسيلة للمحافظة على المناصب.
ولا أخفى عليكم سراً بأننا قد راح علينا نحن كأفريقيين، أو تناسينا عن قصد أسس هذه الديمقراطية، ونصيحتي للجيل أو للأجيال الجديدة من السياسيين أن يجتهدوا ايما اجتهاد من أجل بعث الحياة من أول وجديد في هذه الأسس الديمقراطية، أو عليهم ألا يتجاهلوها، كأضعف الايمان، وذلك كله من أجل الأوطان ومن أجل المواطن.
لقد كان اختيار معظم الوطنيون وخاصة السياسيون في المستعمرات البريطانية الماضية هو اختيار نظام التمثيل البريطاني، وشعاره الجذاب الذي يطن في الآذان “رجل واحد.. صوت واحد”. وهو في حقيقته لا يحمل في جعبته تمثيلاً نسبياً، حتى للرأي السياسي. فهو يفضل نظام الحزبين، ويدعم الأغلبية الحاكمة أو الأكثرية، وهذا أمر لا خلاف حوله بل هو شيء مرغوب فيه.
ولكنني أرى أن يتم دراسة موضوع التمثيل هذا مجدداً في كل دولة من الدول، مع استصحاب طبيعة السكان والنظام الاجتماعي للبلد المعني. فقضية هذا التمثيل تمثل معضلة شديدة التعقيد في صياغة الدساتير والقوانين في أغلبية الدول الأفريقية، لأن وراءها نجد قضية السلطة السياسية واقفة متحفزة. فأي نظام يتم تبنيه فهو، في المدى القصير، سيخدم مجموعة معينة من السياسيين، بغض النظر عن شكل الانقسامات بين الناس، كانت هذه الانقسامات قبلية أم دينية أم عنصرية.
وأنا كسوداني أحاول أن أخذ السودان كمثال في هذه المساحة لأقول، لقد كانت هناك دائماً معضلات ومشكلات مرتبطة بهذا التمثيل وبإنشاء الدوائر الانتخابية في بلد ضخم كالسودان ومتنوع التضاريس ومتعدد الانتماءات القبلية والدينية وغيرها.
لقد سرنا في أسلوب أنظمة مجلس العموم البريطاني في حواراتنا وفي مناقشاتنا البرلمانية، ونجحنا في المحافظة على مستوى عالي رفيع. ولكن وبالرغم من ذلك، كان الشكل العام لبعض نواب المناطق الريفية اقليمياً وليس قومياً، وكانت جل اهتماماتهم هي البحث، وبإصرار، في مشاكل أريافهم ومناطقهم ودوائرهم الانتخابية، ودائماً ما كانوا في حالة تقديم الطلبات، المتعلقة بالمزيد من الخدمات التربوية وتلك الصحية، وبمد المزيد من الطرق ومن حفر الآبار لمناطقهم ولدوائرهم. ولم يعيروا أي انتباه، بل عجزوا عن المساهمة في البحث في أمور البلاد العامة كالشئون المالية وتلك الاقتصادية وأيضاً الدفاعية والعلاقات الخارجية.
ولا أتجرأ، لأقول بأن ديمقراطيتنا لم تنجح في بلادنا، ولكنني أتجرأ، وأقول بأنها لم تتاح لها الفرصة الكافية لتنجح ولتتطور ولتتقدم. فقد كان عمرها قصيراً فقط ثلاثة سنوات بعد الاستقلال، ثم تم القبض عليها بواسطة الجنرالات، وبعد فترة ست سنوات حسوماً، عادت لترى النور من جديد، ولكنها قبل أن تجر نفساً عميقاً خنقت بعد أربع سنوات ونصف بواسطة عسكر مايو الفاشيين.
ببساطة، فجوهر هذه الديمقراطية يتمثل في التمثيل وفي سيادة حكم القانون، ويمنع هذا القانون اعتقال أي مواطن تجاوزاً للقانون، ولا يحق لأي جهة أن تحبس انساناً من دون أن تقدم ضده اتهام أو جريرة ارتكبها، وهي تطلب من كل المواطنين احترام القوانين واحترام حرية الآخرين.
والمشكلة أن الناس في بلدنا يسيئون أو لا يعرفون استخدام الحرية المتاحة لهم بنص الدستور وبنصوص القانون، وكان نتيجة ذلك خسارتهم لجميع هذه الحريات الأساسية. لقد ظهرت الصحافة في شكل فوضوي وعدم مسئولية في تعاطيها لسياسات الحكومة، وكان يجب عليها أن تكون موضوعية وأن تكون بناءة. وعندما جلس العساكر على عرش السلطة بالقوة، كانت الصحافة هي أول ضحاياها، وكانت هي أول من دفعت الثمن غالياً، حيث تم تأميمها وتم اخراسها.
ودائماً أنا من المؤمنين بأن عيوب الديمقراطية أو أخطاء ممارستها يكون طرق علاجها من خلال تأمين المزيد والمزيد من الديمقراطية ومن الحريات، وليس القمع. وأرى أن الديمقراطية لا بد لها أن تبدأ في جذور المجتمعات الريفية القروية وتصعد الى أعلى الي أعلى حتى تصل أو تبلغ مستوى البرلمان من خلال الممثلين البرلمانيين المنتخبين.
والحرية هي الضامن وهي الضمانة الوحيدة لتصبح الديمقراطية قادرة، ويكون لها القدرة على منع زعيم الحزب أو رئيسه من إساءة استعمال نفوذه واستخدام سلطته، وأن يكون لها الجرأة الكافية لتنتقد أياً من ممارساته وأياً من أعماله، حتى تكون كل الأشياء مكشوفة في وضح النهار بعيداً عن الظلام وعن الظلم.
ولا يوجد أي نظام سياسي ممكن أن يتم تحت مظلته التقدم الاقتصادي والاجتماعي والحكومي ما عدا النظام الديمقراطي أو الديمقراطية. وإذا فكرت الدول الأفريقية في بناء أنظمة سياسية مناسبة، فعليها أن تبتعد كل البعد عن تبني نظام الحزب الواحد، وعليها أيضاً ألا تضل الطريق وتختار الديمقراطية العسكرية.
فالديمقراطية هي تلك التي تتيح الفرصة للجميع وللكل لكي أن يختلفوا في الأفكار وفي الآراء داخل رحم البلد الواحد، فهي الأنسب وهي الأمثل وهي الأمل، لأنها تسمح وتساعد في نمو البلاد نمواً مستقراً انسيابياً.
bakoor501@yahoo.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم