كتب د.محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية
wadrajab222@gmail.com
في أدبيات إدارة مخاطر الكوارث يعتمد الباحثون على تحليل وسائل سبل كسب المعيشة وفق الإطار الذي طورته منظمة التنمية الدولية البريطانية (DFID)، وهي المنظمة الرسمية للتنمية والتمويل في المملكة المتحدة.
يُشير أهم تعريفان لسبل كسب المعيشة إلى الأنشطة والقدرات والأصول التي يعتمد عليها الأفراد لتأمين احتياجاتهم وتحسين حياتهم و المرونة والتكيّف مع الصدمات دون فقدان مقومات العيش الأساسية. بحسب UNDP بينما يركّز تعريف DFID على الأصول الخماسية (الطبيعية، البشرية، الاجتماعية، المادية، المالية لرأس المال).
فإطار DFID أو ما يُعرف بـالخماسي (Pentagon)، يصنّف رؤوس الأموال التي يعتمد عليها الأفراد والمجتمعات في كسب عيشهم إلى خمسة أنواع رئيسية هي: رأس المال الطبيعي، والبشري، والاجتماعي، والمادي (الفيزيائي)، والمالي.
وبالنظر إلى واقع المجتمعات الهشة في السودان، فإن معظم سبل كسب المعيشة تقع في أربعة من هذه المحاور؛ إذ يعتمد الناس على الطبيعة في إنتاجهم، وعلى الخبرة اليدوية والمعرفة التقليدية في العمل، وعلى الروابط الاجتماعية في تبادل الموارد، وعلى الموجودات البسيطة كالأدوات و الايدي و المراكب والبهائم كمصدر للرزق. وبذلك فإن أي اضطراب في أحد هذه الرؤوس الأربعة كفيل بأن يهدد المنظومة المعيشية برمّتها، وهو ما يجعل هذا الإطار ذاته صالحاً لتحليل الهشاشة لا سيما في سياق الكوارث ذات المنشأ البشري. ويجدر القول في الحالة السودانية أن معظم سبل كسب المعيشة تعتمد على ما يُسمى بالقطاع غير المنتظم ولا تتدخل فيه الدولة كثيراً مما يدفعه عادة للتكيف وعدم انتظار الدعم الحكومي.
على عموم الأمر، يبدو أن الذين ينظرون إلى السد الإثيوبي من خلال منظور “الفائدة المؤكدة” يغفلون هذا الجانب الإنساني والاقتصادي معاً، ولا يلتفتون إلى حالات الفقر المباشر التي تسبب فيها السد بالفعل أو سيُحدثها مستقبلاً لدى الفئات العاملة في القطاع غير المنظم وعلى وسائل سبل كسب عيشهم. فهؤلاء لا يدخلون في حسابات مهندسي الري ولا في جداول التعويضات الحكومية، رغم أنهم مواطنون فقدوا مواردهم بفعل تدخل هندسي إقليمي لم يكن لهم فيه رأي ولا حماية.
فمن بين أكثر الفئات تضرراً التي ظهرت عليها آيات التأثر بالسد هي فئة ،(جامعي الحطب) من النيل الأزرق، وهي فئة اعتمدت لعقود على ما يجود به النهر من جذوع وأخشاب وأشجار طافية تأتي بها الفيضانات السنوية. ومع اكتمال جسم السد وبدء حجز المياه، انقطعت دورة الفيضان الطبيعية، فتوقفت معها موردية هذا النشاط الذي يمثل مصدر رزق يومي لآلاف الأسر. (وقد أجرت قناة الجزيرة الوثائقية تحقيقا معمقا حول أثر السد على هذه الفئة عكس مأساتها بصورة واضحة وتم عرض الفيلم مرات عدة) هذه الفئة لا تمتلك أراضي زراعية ولا مؤهلات أخرى، ولا ينتمون إلى نقابات أو تنظيمات مهنية قادرة على الدفاع عن حقوقهم. إنهم جزء من نسيج الاقتصاد الشعبي الذي يمدّ الأسواق بأدوات الوقود المحلي ويغني الدولة عن دعم مباشر، ومع ذلك فهم الآن في مواجهة بطالة مقنّعة لا يراها ولا يحس بها أحد. وربما سيؤثر غياب مهنتهم في المدى الطويل على الغطاء النباتي لأنهم لن يخضعوا لعمليات تعويض مناسب أو بناء مرونتهم لهذه الصدمة القاتلة. كما من المنتظر ان يظهر اثر السد على فئات أخرى تباعاً عاماً بعد عام.
إن أهمية استصحاب مفهوم إدارة مخاطر الكوارث في قضية السد تتمثل في أنها تكشف مجموعة الآثار والمخاطر من السد والتي ربما لا يدركها حتى المتضررون أنفسهم، كما لا يحفل بها في لحظة اللهفة مهندسو الري الذين صارت أعينهم لا تنظر إلا للفوائد التي وعدتهم بها إثيوبيا، وهي تندرج تحت طائلة التخدير الرسمي والغفلة العميقة ما يجسد خطأ الرؤية الفنية للسد.
وسينضم لذات المصير عما قريب أصحاب كمائن الطوب ومزارعو الجروف وصائدو الأسماك، وهي فئات تعتمد كلياً على انتظام جريان النيل وتقلبات مياهه الطبيعية. فالسد سيحرمهم من الطمي الذي كان يغذي الأراضي الطينية ويضمن خصوبتها، ومن مستوى المياه الذي كان يسمح بمواسم الصيد التقليدي. إن خسارتهم ليست فنية أو عارضة، بل تحول بنيوي في بيئة وسائل سبل كسب معيشتهم، كما سيضرب في عمق الاقتصاد الريفي ويزيد من وتائر الهجرة من الريف والفقر المدقع وانعدام الأمن الإنساني.
وقد تناولت هذه الجوانب الورقة العلمية المنشورة في مجلة الدراسات البيئية الصادرة عن جامعة باجي مختار – عنابة، كلية الحقوق والعلوم السياسية (ISSN: 2800-1370)، والتي أعدها الباحثان د. محمد عبد الحميد (شخصي) ود. أزاهر حسن عبد الرحمن (عميد كلية دراسات الكوارث والأمن الإنساني – جامعة أفريقيا العالمية) بعنوان «أثر سد النهضة الإثيوبي على مستويات الهشاشة المختلفة في السودان: دراسة تحليلية 2013–2023م»، المجلد 02، العدد 04، ديسمبر 2024م. وقد خلصت الورقة إلى أن السد يمثّل عامل هشاشة مركباً، تتقاطع فيه أبعاد البيئة والتنمية والسياسة والأمن الإنساني، وأن غياب سياسات الحماية الاجتماعية يجعل أثره ممتدا في الزمن ومضاعفا في العمق. (كارثة مقيمة في أعلى الهضبة)
واللافت أن المنظومات الحزبية والسياسية في السودان قد غاب وعيها أيضاً عن هذه التراجيديا المركبة. فلم يصدر عن الحزب الشيوعي السوداني، على سبيل المثال، موقف رسمي أو دراسة تحليلية حول أثر السد على الفئات التي يُفترض إنه يدافع عنها تاريخيا. وكذلك سائر الأحزاب التي انشغلت بالشعارات السياسية دون أن تدرك مستويات المخاطر على الفئات المنتجة في الريف. بل إن حكومة حمدوك نفسها، في ذروة عهد الثورة، منعت بقرار من الوزير فيصل محمد صالح مجموعة “مخاطر السد” من إقامة مؤتمر صحفي، في واقعة كشفت عن خذلان مزدوج: خذلانٍ للعلم، وللقطاعات الشعبية التي كانت تنتظر من الثورة أن تصغي لصوتها لا أن تصادره. والمفارقة المدهشة أن رئيس الوزراء آنذاك عبد الله حمدوك أكد في تصريح لافت له أن السد يشكل تهديدا لعشرين مليون سوداني. وهذا هو السودان النيلي بأكمله.
إن الاهتمام بوسائل سبل كسب المعيشة، بوصفها جوهر الأمن الإنساني Core of Human Security في السودان، تمثل اليوم واجباً وطنياً وأخلاقياً. لاسيما وأن نموذج الخماسي Pentagon الذي استحدثته DFID يربط مستويات رأس المال – بالحوكمة – وتأثيرها سلباً و ايجاباً على مستويات رأس المال الخمسة.
من المؤسف القول أن الدولة في السودان لا تهتم بمرونة وسائل سبل كسب معيشة قطاعات شعبية واسعة، بل لا تعوّض مواطنيها عندما يفقدون موردهم الوحيد بسبب مشروع إقليمي، و تُقصِّر في أهم وظائفها: حماية حياة الناس وكرامتهم. وإن تجاهل الخسائر “الصغيرة” المتراكمة في نظر البيروقراطيين في وزراة الري هو ما يراكم المأساة الكبرى في جسد المجتمع، تماماً كما تبدأ الكارثة بقطرة ثم تغمر الوادي بأكمله.
د. محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم