السلطة القضائية بناء مشرق وحصن وطني ولا عزاء لبنية التمكين 

 


 

 

        للقضاء السوداني  تاريخ مشرق ‘ وهو حارس  يحرس الحقوق في الدولة السودانية  ،وهو من اعرق الاجهزة القضائية بالمنطقة الافريقية والعربية ، وقد ساهم رجال القضاء السوداني  في تأسيس السلطة القضائية في كثير من الدول العربية الى يومنا هذا ، وشغل بعضهم مناصب رئاسة القضاء وهم يحملون الجواز السوداني الى الأن  ويحملون معه الأدب السوداني والصرامة السودانية والفضيلة ، وهم مصدر فخرنا وسيظلون محل تقدير واحترام في نفوس السودانيين وكل شعوب الأرض،  فهم دوحة ترتاح فيها النفوس لما لمسه فيهم المتقاضون  من تحقيق العدل  وسماحة النفس وخفض الجناح،  ففي أغلب بقاع الدنيا التي يعمل بها القاضي السوداني  يلتمس المتقاضون ويحلمون ان يكون قاضيهم سوداني  تلك عندهم اولى بشائر العدل  وعنوان العدالة وتخرج من السلطة القضائية  علماء افذاذ وقضاة افاضل  يشهد لهم المحاص القانوني في اوروبا وامريكا وبلاد العرب كافة وكل المنظمات القانونية  الدولية،  ولا يزال هؤلاء النفر من منتسبي القضاء السوداني يعطون رحيق الأدب والسمت الطيب وتحقيق العدالة    فالقضاة السودانيين هم ملح الارض . وربما يجهل الكثير من الناس ان القضاة في السودان ميثاق شرف  اخلاقي    يهدف لترسيخ  العدالة في نفوس المتقاضين والنأي بمراتب القاضي عن الشبهات   قد تمت  تربيتهم على العطاء دون انتظار  المدح  ، بل هم لا يحبون المدح والتعرض له  فهم  لأكثر من مائة سنه من عمر الدولة السودانية   ينجحون في الحفاظ على أعرافهم التي من بينها عدم الخوض في الأسافير والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي  بالتعليقات  على الشأن العام  او التعليق على اي قضية رأي عام ولا يقدمون المشورة والنصح لاي شخص ولو كانوا اباءهم او عشيرتهم وهذا من حسن الأدب والورع الذي عايشته لاكثر من اربعين عاما  من مخالطة أهل القضاء السوداني  ، هذه شهادة حق وقد خلا القال من ذكر اسم قاضي واحد  ، وبالرغم من هذا  الأدب والسمت الأخلاقي السامي  يظن الكثيرون ان الرجرجة والدهماء   ان رجال القضاء عاجزون عن الرد على كثير من الترهات والإساءات  التي يقذفونها  في وجه السلطة القضائية ظلماً وبهتانا ً   !؟ كلا انهم غير عاجزين البتة ولكن حسن الخلق يمنعهم وهو ميثاق شرف  تليد وراسخ .

      إن الدفاع عن السلطة  القضائية  كان ولا يزال  واجب  وطني مقدس ويجب حماية السلطة  القضائية من  محاولات  الاعتداء عليه من (الساسة) و السلطة التنفيذية والتشريعية على امتداد التاريخ السوداني وهو ديدن منتسبي السلطة القضائية  ومن الوطنيين الاخيار من ابناء هذا الشعب الكريم ،  فعلى سبيل المثال كان موقف القضاء من ثورة اكتوبر 1964 م  واضحاً ومشرفاً حينما أمر مولانا عبد المجيد أمام  قوات الشرطة بعدم الاعتداء على المتظاهرين في طرقات الخرطوم ، ونجحت الثورة في اكتوبر 1964م ولم يكن مولانا عبد المجيد يتحرك بدوافعه السياسية انما كان يطبق القانون فقط لاغير وكان يتمثل السلطة القضائية المستقلة .

كذلك كان موقف  القضاء  السوداني مشرفاً حينما تهور الساسة وألغوا الحزب الشيوعي السوداني ومنعوه من العمل السياسي في البرلمان المنتخب  فكتب مولانا صلاح حسن حكماً أنصف فيه الحزب السوداني ولم يكن يقوم بدور سياسي اطلاقاً  ، بل طبق القانون فقط لا غير وسجل استقلال القضاء بأحرف من نور .

  ولم تتوقف مسيرة السلطة القضائية المشرقة فقد حاولت الأجهزة الشمولية في مايو منذ 1969م الى  1985 م تدجين القضاة واستمالتهم الى بعض المكونات السياسية فخرجت السلطة القضائية معافاة من أذى السياسيين وشهدنا اضراب القضاء في السبعينات والثمانينات في وجه التدخل السافر من السلطة القضائية  وقتذاك ورفضوا ان ينصاعوا لأهواء السياسيين (الموتورين) من أصحاب السلطة التنفيذية  وخرجت طلائع القضاة في ثورة ابريل 1985 م ونحجت ثورة القضاة في التجرد والمحافظة على وحدتها وألقها وبسط العدل في كل التراب السوداني .

ثم جاءت فترة الانقاذ 1989م ولم يتوقف شيطان السلطة التنفيذية (الساسة الموتورين) من أهل اليمين والشمال الوسط  وتعددت  محاولات  الولوغ في  عمل السلطة القضائية وشأنها وتدجين  القضاة وصبغهم باللون السياسي و مدهم بمناهج فاسدة أساسها النظر القصير والأفق المسدود  وحاولوا تهديم بناء القضائية وارثها التليد ولكنهم  خابوا وخسروا فرغم حاولاتهم المستمرة فان عجلة الأحداث تؤكد ان السلطة القضائية كانت عصية عليهم ولم ينجحوا بجعلها في ابطهم كعصا راعي الأغنام ،  وكنا نشهد دوماً رجال القضاء يقولون لا والف لا  لكل  جبار عنيد يريد التغول على حقوق الناس  وكسر ميزان العدالة ولا يزال سجل المحاكم يحتفظ بإشراقات القضاة في هذه الفترة وهم يرسمون لوحات زاهيات جميلات وقصص رائعة في افشال التدخل في  عمل السلطة القضائية    بل اصبحث مثلاً يحتذى بها  في التزام العدل والتزام سيادة القانون وهي قصص موجودة في المجلات القضائية السودانية وفي صدر الشعب السوداني  ، و نحن  كاكاديميين ندرسها لطلاب القانون والقضاء في قارات  العالم كله باعتبارها رصيد إنساني عالمي من السودان،  ونفخر بذلك.

  وتدور ساعة الأحداث وتظل السلطة القضائية شامخة طيلة فترة الانقاذ  حتى ديسمبر 2019م  التي تصدرت مسيراتها  مواكب  القضاة  السودانيين  حيث تبنى الشرفاء في السلطة القضائية إرادة الشعب ( حرية سلام وعدالة ) فهم  شركاء الشعب في ذلك بلا نزاع  وهم رمانة العدل التي يرتاح امامها ( محمد احمد ) السوداني صباح مساء .  ولم يتوقف عطاء الشرفاء من أبناء السلطة القضائية بعد ثورة 2019م وهم يحرسون الحقوق  الفضيلة وقيم السودان الأصيلة  بصبر أيوب وحكمة جدهم لقمان  ويتمثلون بأحسن قضاة الإسلام  رسول الله صلى الله عليه وسلم  وعلى بن ابن طالب   واياس ومعاوية ويضاهون  أشهر قضاة  المدرسة  القانونية الأنجلوسكسونية والأنجلوأمريكية والمدرسة اللاتينية  في القانون وربما يتفوقون عليهم في بعض الأحوال   وهذا ليس مدحاً فيهم انما هو تقرير لواقعات مثبتة .

لم تتوقف أيدي السياسة الخبيثة فقد حاولت مرارا أن تتدخل في عمل السلطة القضائية بعد ثورة الشعب في ديسمبر 2021م وسقوط نظام الانقاذ فبدأت بعض الأيدي تريد بالدخول في اختصاص السلطة القضائية وتهديمها بحجة(  الاصلاح) وإزالة التمكين ووقود المرحلة كان عاطفة سائلة  بلا  منهج علمي  راسخ ، ومع ايماننا وايمان الجميع  أن في  فترة الانقاذ قد تسلل بعض الساسة  من ازلام النظام السياسي السابق  لبعض اجسام السلطة القضائية السودانية كسائر دواوين وموسسات الدولة السودانية  وهذه كلمة حق فليس بمستغرب حدوث ذلك  بل إن هذا هو سباب ثورة الشعب  على الانقاذ   بطبيعة الحال  ، وهؤلاء المتمكنون باسم الانقاذ ولو ثبتت صحة هذا الادعاء بحقهم  فيجب  ازالتهم من جسم السلطة القضائية فورا  فهم لا يستحقون شرف الانتماء لتاريخ القضاء السوداني الطاهر ،  و يجب اخراجهم ذليلين غير مأسوف عليهم وفق قنوات قانون مفوضية اصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية لعام 2020م الذي صدر في 22/4/2020م  وهو أحد أدوات تفكيك بنية نظام الثلاثين من يونيو  1989م  وهو قانون يحقق  المطلب الثورى والمنطقي والعدلي والقانوني   ويهدف الى  اصلاح الفساد والتمكين عن كل المنظومة العدلية والحقوقية بالسودان واختصاص هذا القانون يشمل القضاة والنيابة والمحامين وكل   المهن العدلية والقانونية في السودان .


        قد صدرت من  لجنة ازالة التمكين وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو قرارات  قضت  بفصل بعض  القضاة منذ2020 م  ( بتهمة )كونهم من بنية التمكين في فترة  الانقاذ وهو إتهام مشروع  وفقاً للقانون من حيث المبدأ  لأن القضاة في كل الدنيا محاسبون على سلوكهم في اي زمان وفق قنوات ادرية وقانونية   خاصة بهم   وقد انبرى هؤلاء  القضاة  للدفاع عن حقهم في المحاسبة والمحاكمة العادلة بطبيعة الحال وهو حق من حقوق الانسان فضلاً من انه حق دستوري لمن تقرر فصله وقد احتكم القضاة للمحكمة المختصة وفقا لذات الإجراءات التي رسمها القانون الذي تم فصلهم  به   وقد  أصدرت  المحكمة القومية العليا السودانية قراراً نهائياً بإلغاء وابطال    تلك القرارات التي صدرت في حق هؤلاء القضاة  وسببت قرارها وفقاً للقانون السوداني  وتوصلت  لبطلان قرارات لجنة التفكيك  لعدم سلامة الإجراءات القانونية وعدم تسبيب القرار   وعدم اختصاص لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو بإصدار مثل هذه القرارات لأن صاحب  الحق في اصدار مثل هذه القرارات هو  مفوضية اصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية  واعتبر الحكم ان  القرارات الصادرة من  لجنة ازالة التمكين  لا أثر قانوني لها وتقع منعدمة  ،  لان اللجنة غير مختصة و معتدية على اختصاص  مفوضية اصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية ، التي لها آلية اخرى  لتفكيك تمكين القضاة والمهن القانونية والعدلية الاخرى وفق منظومة محددة   واجراءات محددة .

  ان الحكم النهائي بشأن هؤلاء القضاة يجب احترامه وتنفيذه لانه جزء من قرارات السلطة القضائية السودانية بغض النظر عن الجدل الموضوعي بشأنه لان القرار اصبح نهائياً   حسب قانون تفكيك بنية نظام الانقذ تعديل 2020 م  ومع ذلك يظل باب الإدعاء مفتوحاً  لاي مدعي بشأن اتهام  أي قاضي في السودان  انه  جزء من بنيان التمكين الانقاذي ان يطلب باب مفوضية  اصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية   المشكلة بموجب قانونها ومقرها الدائم بالخرطوم ويقدم طلباً لازالة تمكين هذا   القاضي او ذاك وفق اجراءات المفوضية من تحري ومواجهة وخلافة ، وأن يحشد من الأدلة ما يراه مناسبا ً   وفي ذلك خدمة للسلطة القضائية ان تتخلص من اعضائها الفاسدين ( ان وجدوا ) ويجب بتر  اي منتسب لها يثبت تمكينه في فترة الانقاذ وفساده ،  وفق اجراءات قانونية يتاح فيها مبدأ المواجهة وإقامة الدليل ومن ثم الطعن في قرارات  المفوضية وفقاً لقانونها ،  وفي مثل هذه الدعاوى التي تقام ضد القضاة في المفوضية خدمة لشعار الثورة  ( حرية سلام وعدالة ) وهو أحد لبنات بناء دولة القانون وأحد أليات سيادة القانون في الدولة السودانية  وأوصي الدولة السودانية  بإصدار تشريع يقضي بالتكريم المعنوي والتحفيز  لمن يستطيع المساعدة في التخلص من المفسدين بالدولة من المتمكنين بغير حق في أي وظيفة وفقاً للاجراءات القانونية السليمة . و ليكن هذا هو أحد أذرع التنمية المستدامة في دولة  القانون التي ننشدها  .

 وفي الختام  نتمنى أن نرى عشرات الدعاوى التي تهدف الى  إزالة التمكين أمام مفوضية اصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية في حق  منتسبي المهن الحقوقية والعدلية  الذين عرفتهم المادة (2) بقولها : ( المنظومة الحقوقية والعدلية يقصد بها السلطة القضائية ، المحكمة الدستورية و النيابة العامة  ووزارة العدل  ، لجنة قبول المحامين  ، نقابة المحامين ، معهد العلوم القضائية والقانونية كليات القانون في الجامعات السودانية  وأي جهة تختض بالعمل الحقوقي والعدلي ).


ويحق لنا أن نتساءل هل التمكين في نظام الانقاذ كان في السلطة القضائية وحدها !؟ اذا كانت الاجابة بالنفي   فنقول اننا اذن  ننتظر عشرات المفصولين من منتسبي المنظومة الحقوقية والعدلية  الذين تنجح دعاوي التمكين في حقهم !؟    وبذلك نكشف  أن الهجمة الشرسة التي  تريد النيل من السلطة القضائية وحدها دون المهن الأخرى  هي هجمة يراد منها الإعتداء على قيمة العدالة بالسودان وإشاعة قانون الفوضى والغاب ، واستهداف السلطة القضائية وهو تخريب  ممنهج للدولة السودانية وإندثار إرثها الى خراب  و هو اعتداء على خريطة السودان القضائية  التي  هي خريطة تشمل كل حدود الوطن وترابه  ويجب الذود عنها تماماً كما ندافع عن حدود السودان الجغرافية سواء بسواء  ويجب دحر كل متربص  ولا بد من تفكيك التمكين السياسي والفساد في فترة الانقاذ وبعد الثورة  فهو تمكين وفساد ضد القانون ولا سبيل الى ذلك إلا وفق تطبيق القانون السليم  وسيادة دولة القانون  بعيداً عن صراخ المخربين الذين يعتمدون على تجهيل الناس واستغلال عواطف السوقة والرجرجة والدهماء    وختاما أقول آمنت بالله وبنفسي وببلادي.


prodoush@gmail.com

 

آراء