السودانيون وأزمة الوعي السياسي: حين يسبق التعليمُ الوعيَ وتتأخرُ التجربةُ عن الفهم

تبدو أزمة الوعي السياسي في السودان من أكثر الظواهر استعصاءً على الفهم والتجاوز، إذ لا تتجسد في قصورٍ معرفي أو نقصٍ في التعليم، بل في خللٍ بنيوي في طريقة التفكير السوداني ذاتها، في علاقة الإنسان بالواقع، وفي غياب القدرة على الربط بين الأسباب والنتائج، وعلى قراءة البنى العميقة خلف الأحداث.
فرغم أن السودان من أوائل البلدان الإفريقية والعربية التي عرفت التعليم الحديث، والنشاط النقابي، والحياة الحزبية المبكرة، إلا أن هذا الثراء التاريخي لم يثمر نضجًا سياسيًا موازيًا. فقد ظل الوعي السياسي هشًا، متقلبًا، وعاطفيًا، تهيمن عليه الانفعالات، وتوجهه الولاءات الأولية لا البصيرة العقلانية.

إننا بإزاء مفارقة مأساوية: بلد يفيض بالتجارب السياسية والفكرية، لكنه عاجز عن تحويلها إلى وعي نقدي متراكم. لقد تبدّلت الأنظمة وتغيّر الحكام، لكن ذهنية المواطن ظلت أسيرة ردود الفعل، وسجينة العواطف والمزايدات، أكثر منها محكومة بالعقل النقدي والتحليل البنيوي.
ولعل أكثر ما يكشف عمق هذه الأزمة هو ضعف الوعي حتى وسط المتعلمين، الذين يفترض أنهم طليعة الفهم والتمييز. فالكثير منهم يعيدون إنتاج أخطاء العامة نفسها، من تصديق الخرافة السياسية إلى تقديس الزعيم إلى التماهي مع السلطة أو العرق أو الجهة. حتى بات من الضروري — والموجع في آن — إعادة تعليم المتعلمين، أي إعادة بناء أدوات التفكير ذاتها، قبل إعادة بناء المناهج.

إنّ غلبة العاطفة على العقل، والانفعال على التحليل، ليست عرضًا عابرًا، بل نتاج صراعات نفسية عميقة داخل الذات السودانية، ناجمة عن غياب التصالح مع الذات والتاريخ. السوداني الذي لم يُمنح يومًا فرصة التقييم الموضوعي لتجربته، ظلّ ممزقًا بين هويةٍ يريدها عربية خالصة وأخرى إفريقية منكرة، بين ماضٍ مثقل بالاستعلاء ومُستقبلٍ موعودٍ بالعدالة المجهضة. هذا الانقسام الوجداني انعكس على السلوك السياسي فأنتج مواطنًا شديد الحساسية، سريع الغضب، يميل إلى الانفعال بدل التحليل، ويبحث عن تبريرات خارجية لأزماته بدل مواجهة جذورها الداخلية.

إنّ أحد مظاهر هذه الأزمة يتجلى في الخلط بين الانفتاح السياسي والوعي السياسي. فقد يكون المجتمع منفتحًا شكلاً، لكنه منغلق وعيًا، كما في السودان، أو قد يكون منغلقًا سياسيًا لكنه عميق الوعي، كما في بعض الدول التي لم تعرف التعدد الحزبي لكنها امتلكت أدوات نقد وحس سياسي رفيع. فالوعي السياسي ليس نتاج حرية الشعار، بل ثمرة القدرة على القراءة النقدية للواقع، وعلى إدراك العلاقات السببية بين الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

لقد بلغ الانهيار في الوعي السياسي حدًّا جعل البعض يختزل مأساة الحرب السودانية في مؤامرة دولة بعينها، كالإمارات مثلاً، دون النظر إلى أن الحرب هي نتاج تراكمات داخلية من الفشل البنيوي، والاحتكار الطبقي، والولاءات المريضة، والجهل الاجتماعي. وهذا النموذج من التفكير هو ما يمكن تسميته بـ«السواقة بالخلاء» — تلك النزعة السودانية المزمنة للهروب من التحليل إلى الانفعال، ومن النقد إلى العاطفة الفجة.

وحين نسمع من يختزل تاريخ السودان كله في معادلة «كل النخب فاسدة إلا الأزهري والمحجوب»، ندرك أننا ما زلنا نفكر بعقلية التقديس لا التحليل. فهؤلاء الزعماء، رغم نبلهم، كانوا جزءًا من منظومة فشلت في بناء دولة حديثة، دولة مؤسسات ومواطنة. فشلهم لم يكن سرقة للمال العام، لكنه سرقة لفرصة بناء الوطن نفسه عبر تغليب الولاء الحزبي والطائفي على فكرة الدولة.

اليوم، وسط الحرب والموت والدمار، ما المطلوب من السياسيين؟ ليس مزيدًا من الخطابات، بل السكوت من أجل التفكير، والاعتراف بأنهم جزء من الكارثة لا وسطاء الخلاص. المطلوب أن يُعاد تعريف السياسة بوصفها مسؤولية أخلاقية لا مهنة للابتزاز والمناورات. أن يواجهوا شعوبهم بالحقيقة لا بالخداع، وأن يعترفوا بأن كل مشروع سياسي لا يبدأ من الإنسان السوداني نفسه، ومن إعادة بنائه ووعيه، هو مشروعٌ ميتٌ سلفًا.

ورغم كل السواد، ما زالت هناك مساحة لإنقاذ السودان — مساحة ضيقة لكنها ممكنة. شرطها الأول هو الوعي، والثاني وقف الحرب فورًا دون شروط، والثالث محاسبة من أشعلوها بلا استثناء. ثم تبدأ مهمة كبرى: بناء عقد اجتماعي جديد، يحرر الدين من السياسة، والجيش من الأيديولوجيا، والسياسة من الطمع.
حينها فقط يمكن أن يتحول هذا البلد من كومة رماد إلى وطن يتنفس العقل، وطن يفكر قبل أن يثور، ويتعلم قبل أن يحكم.
hishamosman315@gmail.com
د. هشام عثمان

عن هشام عثمان

هشام عثمان

شاهد أيضاً

إدانة علي كوشيب …بين انعاش الأمل وخيانة الذاكرة ..

د.هشام عثمانhishamosman315@gmail.comفي خطوة وُصفت بالتاريخية، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية حكمها بإدانة علي كوشيب، أحد أبرز …