الشاعر السوداني عبد الإله زمراوى للأهرام المصرية: الشعر أعلى درجات المقاومة الإنسانية

 


 

 

حوار: رانيا رفاعي
http://www.ahram.org.eg/Media/News/2015/1/24/2015-635577315834289564-428.jpg

ربما كان الوصف الأدق الذى يمكن أن يطلق على شاعر مثل السودانى عبد الاله زمراوى هو أنه أحد جسور التواصل بين مصر والسودان وجدانيا وتاريخيا وشعريا .. فهو ابن قرية الكرمة النوبية التى تقع على الحدود بين البلدين والتى كان عدد المصريين فيها أيام نشأته يقارب نصف عدد سكانها إن لم يكن أكثر.. بل قد يظن من يستمع إليه وهو يحكى عن نشأته وأصوله المصري- سودانية أنه يفتح كتاب التاريخ على صفحة مرحلة مفصلية فى تاريخ مصر ؛ فقد كان والده من خواص الملك فاروق وعاش فى خدمته لمدة أربعين عاما كاملة قضاها ما بين القاهرة والاسكندرية، إلى أن انتهى الحكم الملكى فى مصر فعاد إلى السودان بعد انفصال الدولتين ، لكن هذا لم ينفِ الشق المصرى فى وجدانه يوما ما.
الأهرام وقفت على نقطة حدودية وجدانية خاصة جدا بين شقيقتى وادى النيل فى حوارها التالى مع الشاعر السودانى عبد الاله زمرواى صاحب دواوين "دمعتان على الوطن" و"صهوة العمر الشقى " و"أغنيات الليل" و"القمر الحزين".
كيف أثرت الثقافة المصرية فى وجدانك ؟
الثقافة المصرية لم تؤثر فى وحدى بل أثرت ولازالت تملك التأثير ذاته على كل صاحب قلم سودانى . وكانت لنا فى قرية الكرمة خصوصية وميزات أكبر؛ حيث كنا هناك نستمع إلى اذاعة الشرق الأوسط والبرنامج العام وصوت العرب بشكل يومى منتظم بينما كنا نواجه صعوبات فى الوصول لإذاعة أم درمان التى لم يكن يلتقطها الراديو إلا وهو فى أعلى نقطة فوق سطح منزلنا. لذلك فأنا أدعى أنا وجيلى أننا سودانيون من جنوب مصر, فنحن أقرب فى تكويننا وطبيعتنا إلى أهالى صعيد مصر ، والذين أفتخر بعلاقات النسب التى تربط عائلتى بهم.. وهى ممتدة حتى الآن.
كما أذكر أنى كنت طفلا صغيرا أكتب قصائد ابراهيم ناجى على رمل قطعة من الأرض فى بلدتى الصغيرة كى أحفظها.
مصر دائما هى الشقيقة الكبرى التى اذا ما فعلت شيئا وصل بطبيعة الحال إلى أختها الصغرى .. حتى الحركات الفكرية والثقافات العالمية والموجات الثورية عرفتها السودان بعد أن وصلت إليها عبر مصر . ولولا مصر على السودان لكان ينقصنا الكثير جدا حتى الآن من علوم وثقافات وآداب وفكر سياسى واجتماعى وثوري.
إذن لماذا فى وجهة نظرك هناك شعور بالقطيعة والغضب بين الشقيقتين .. بم تفسر ما حدث؟!
اللوم كل اللوم يقع فى وجهة نظرى على الحقبة المباركية, التى ظلت طوال سنواتها الثلاثين ترعى وتبارك النظام الحاكم فى السودان, مما تسبب فى حالة التوتر بين الشعبين. حتى وإن لم يكن هذا هو بداية أسبابها, لكن ترك المشكلة لتفاقم طوال هذه السنوات كان جرما أبشع. وأنتم فى مصر جربتم حكم الاخوان لمدة عام واحد ثم ثرتم ضده. فما بالنا نحن الذين نعانى كل هذه السنوات؟! 
على ذكر الثورة .. لماذا أتى الربيع العربى إلى أبواب السودان ثم انصرف دون أسباب تفهم ؟ المتظاهرون خرجوا إلى ميادين الخرطوم فى باديء الأمر ثم انتهى كل شيء وكأنه لم يكن .. لماذا؟
السودان تعيش حالة دائمة من الثورة. ولدينا الكثير من عوامل الثورة العارمة التى تتفاقم على أرضنا كل يوم أكثر من ذى قبل. وظنى منذ البداية فى ثورات الربيع العربى أنها مجرد انتفاضات إذا ما قورنت بحالة الغضب التى تعيشها السودان منذ سنوات.
عودة إلى الشعر .. بمن تأثرت فى كتاباتك؟!
كل أسماء الشعراء المصرين الكبار وشعراء الجاهلية وشعراء ما قبل الاسلام. وفى السودان لدينا شاعر كبير اسمه محمد المكى ابراهيم. لو كان فى مصر لكان اسمه سطر بأحرف من نور، وكان حظى بتقدير لا يقل عن ذلك الذى يحظى به الشاعر الكبير أمل دنقل .
ولى مع المكى قصة أفخر بها,لأننى شعرت معها أن الله لا يترك لى أمنية دون أن يحققها. فقد كان لقاؤه أحد أهم أمنيات حياتى وكل أصدقائى كانوا يعلمون ذلك جيدا, إلى أن جاء اليوم الذى دخل فيه عليَّ فى مكان عملى فى الولايات المتحدة رجل سودانى لا أعرفه ، ولإنه من بلادى احتفيت به وسلمت عليه دون أن أعرف من هو وقمت لأقدم له القهوة . قال لى إنه هو محمد المكى إبراهيم, فانسكبت القهوة من يدي. وأخذت أرحب به وبالأمنية التى حققها لى الله. وبعدها قدمت له ديوانى الجديد وكتب بنفسه مقدمة له. 
خرجت على الناس فى دواوينك بأكثر من وجه ... فتارة يرون فيك الحبيب الرومانسى وتارة أخرى الوطنى الثائر وتارة ثالثة الصوفى الزاهد .. من أنت فى هؤلاء أو أيهم أقرب اليك؟
أنا كل هؤلاء إن شئتِ. وكل وصف من هذه الأوصاف يمثل مرحلة فى حياتى . وفى كل الحالات يظل الشعر هو أعلى درجات المقاومة الانسانية, وهو بالمناسبة مالم تستطع فعله الرواية التى يزعم البعض أنها حلت محل الشعر فى اهتمامات الناس. فإذا أنشدنا الآن :
"إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر"
ترين كيف تلتهب مشاعر الناس وقد تخرج مظاهرة بسبب هذا البيت. لكن إذا ما جاء راو أو قاص وجلس وسط الناس فى مقهى وأخذ يقرأ عليهم رائعة نجيب محفوظ "الحرافيش " ...فهل يجلس الجميع للنهاية ؟! على أحسن حال قد يخرج شخص أو اثنان حافظين أكثر جملة أو مقولة أثرت فيهم. 
وأعترف بأن شعرى كان صادما لحد كبير .. وأنا تعمدت ذلك لأنى أتمنى لشعرى أن يخلد . فلم أكتب فى شعرى عن أشخاص ولا مناسبات حتى لا تموت أبياتى مع موت هؤلاء . حتى عندما كتبت أشد قصائدى هجوما ضد النظام السودانى تحت عنوان "الرقصة الأخيرة" عرف الجميع من أقصد... دون أن أذكر اسمه ولو لمرة واحدة.
الوطن دائما هناك فى كل قصائدك ، فلماذا أنت كثير الارتحال ؟!
لم أرحل يوما عن وطني, فهو فى أحشائى دوما يرحل معى الى كل مكان فى الدنيا لم يغادرنى ولم أغادره. 
كنت فى السودان قاضيا .. وعملت فى معظم محاكم السودان . والقاضى فى بلادنا صاحب سلطة واسعة وحياة كريمة ويأتمر بأمره. وفى ذروة هذه السلطة اخترت أن أكون شاعرا, وهو ما خشيت أن يفسره البعض ضعفا بداخلى بسبب عادات مجتمعية خشنة . ومن القاضى ذى السلطة فى السودان ذهبت إلى الولايات المتحدة لأدرس وأتعلم وأعمل ، حيث أصبحت موزعا للبيتزا فى محل بالقرب من البيت الأبيض.
وهناك تعلمت درسا غير حياتى بأكملها ، حيث كنت أقف فى يوم ما على باب محل البيتزا فى انتظار أن ينهى رجل ما تنظيف الأرضية ، فسألت من هذا ؟! قالوا لى انه صاحب سلسلة محلات البيتزا الشهيرة التى أعمل فى أحدها . فى تلك اللحظة رأيت بعينى الفارق بين مجتمعاتنا والمجتمع الغربي.
و أنت فى المهجر ، كيف مرت عليك أحداث مثل انفصال جنوب السودان عن شماله وبناء سد النهضة ؟!
رأيت انفصال الجنوب كمن ينقسم نصف جسده عن النصف الأخر. وملأ روحى الحسرة والشجن على وطنى الذى عشت زمنا أنعى انفصاله عن مصر, ثم تأتينى ضربة قاصمة أخرى وأنا أراه ينشطر ليصبح جزءين لا كيانا واحدا. وفور الانفصال كتبت ديوانى «دمعتان على الوطن» والذى قلت فيه ..
وَجَعى هُنَا…
فَلْتَسْفَحى فَوْقَ الْجِرَاحِ
دُمُوعَ عَسْجَـدْ
كَيْ أرَي
عُصْفُورَتَيْنِ،
وَأَيْكَتَيْنِ، وَجُلُنَارْ!
وَجَعى هُناكَ
كَدَمْعَتَيْنِ تَشَظَّتَا
فَوْقَ الْجَبينِ وَحَطَّتَا
مَا بَيْنَ أنفَاسي
وأَحْدَاقِ النَّهَارْ
zomrawi@amwaj.qa

 

آراء