الشتائم المتبادلة بين الشعبين المصري والسوداني

 


 

 

 

المسرح الأسفيري هذه الأيام محتدم بين الجماهير السودانية والمصرية .. اساءات متبادلة .. وكلا الفريقان لا يعلمان شيئا عن الآخر فلا الشعب المصري له معرفة بالشعب السوداني ولا الشعب السوداني له معرفة بالشعب المصري. رغم أن هناك نقاط التقاء بين الشعبين وهذا أمر لا مراء فيه .. ولكنها نقاط هزيلة جدا عندما تقارن بنقاط الاختلاف والتباين. فتراث كلا البلدين وأقصد به التراث الفني والأدبي مختلف تماما.. فسلمنا خماسي وسلم مصر سباعي ولا يمكن الجمع بين السلمين.. وكل يغرد على ليلاه. الا انه قد لفت نظري أن هناك قضايا برزت إبان هذا الصراع الشعبي وهي قضايا تكشف عن جهل الشعبين كل بالآخر ، فبالنسبة للشعب المصري لديه اعتقاد بأن الشعب السوداني كله كان يعمل بوابين في مصر وذلك طبعا ما عكسه الاعلام المصري من أفلام ومسلسلات ، في الواقع السودانيون لم يعملوا بوابين في مصر ، انما اختلط الأمر على المصريين نتيجة لبعض النوبيين من جنوب مصر كانوا يعملون في عهد الملكية مع الحاشية وأيضا كبوابين وطباخين وحراس وذلك لأن الملك لم يكن يطمئن للمصريين وكان يفضل النوبة في أداء المهام الثانوية والقريبة من نشاطه اليومي ، وهذا يعني ان الملك ولا احفاده اي منذ محمد علي باشا كان يعتقد أنه مصري ، بل يعرف تماما أنه محتل وغاز ، لكن الشعب المصري كان طوال العصور يتماهى مع الاحتلال منذ حكم الهكسوس والليبيين والنوبة واليونانيين والبطالمة ثم الرومان والفرس والعرب والمماليك وحتى محمد على باشا . لم يكن يسمى المحتل محتلا بل يتماهى الاحتلال الأجنبي ويصير مصريا . ويقبل به الشعب المصري وربما يغير الشعب من الكثير من ثقافته كاللغة والدين ليتأقلم مع المحتل كما حدث إبان حكم الاسكندر الأكبر. إذن السودانيون لم يعملوا كبوابين وإنما قلة من النوبة ولأن المصريين يعتبرون أن اي صاحب بشرة أسود فهو سوداني فقد اختلط عليهم الأمر.والحقيقة أن محمد علي باشا وابناءه كانوا يحتقرون المصريين احتقارا شديدا ويعتبرونهم فلاحين خسيسين لا يصلحون إلا للزراعة والفلاحة واستغل الألباني محمد علي باشا وحاشيته وأبناؤه استنزاف خيرات مصر ولم يترك للمصريين إلا الفتاة حتى جاءت الثورة في الخمسينيات من القرن المنصرم وقام عبد الناصر بنزع الملكية الزراعية من الاقطاعيين وتفتيتها لمصلحة الأقنان من المصريين وكان ذلك هو العهد الوحيد الذي عرف فيه المصريون أنهم يملكون بضم اللام ولا يملكون بفتحها . ومع ذلك فإن نوبة مصر وعبر العصور تعرضوا لاضطهاد كبير . وخاصة بعد ترحيلهم وتشتيتهم نتيجة بناء السد العالي ، ناهيك عن العنصرية الناتجة عن احتقار المصريين للون الأسود بشكل عام . ولذلك فإن تيارا كبيرا من النوبيين المثقفين كانت لديه ميول انفصالية ، وعندما تم اعلان تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية رفع بعض المثقفين النوبة دعوى قضائية للسماح للنوبة بتقرير المصير إلا أن الحكومة المصرية تداركت الأمر وقامت بترضيات ووعود.. لكن النار لا تزال كامنة. وهكذا فإن الشعب المصري لا يعرف شيئا عن السودان ، خاصة مع ارتفاع نسبة الأمية وزيادة عدد السكان والضغط الاقتصادي والسياسي والأمني كل ذلك لا يتيح للمصري أن يتعرف على ثقافات أخرى ولكن هناك طبقة مثقفة في مصر واعية جدا ولها علاقات أسرية وعلاقات صداقة طيبة مع السودانيين .
أما السودانيون فهم يجهلون الانسان المصري ، وذلك رغم أنهم يسافرون إلى مصر كثيرا ، وأعتقد ان السبب في جهلهم بالمصريين هو أن السودانيين لا يحتكون كثيرا بالطبقات النظيفة من المجتمع المصري ، فمن بوابة المطار يتلقاهم سائقوا التاكسي وهم شرذمة من النصابين والأفاكين الاستغلاليين ، ثم ينتقل السوداني من علاقته المتوترة بسائقي التاكسي إلى سماسرة الشقق السكنية وهم أوسخ طبقة في مصر ، ويحتكوا بطبقة البوابين وبائعي الخضر واللحم والرغيف وخلافه أي انهم يحتكوا فقط بطبقة البلوريتاريا الكادحة ، وهي طبقة مأزومة جدا أخلاقيا وتتميز بالجلافة والتذاكي الممزوج بالحمق ، ولكن في مصر مصريون من الطبقة الوسطى والعليا أصحاب أخلاق عالية جدا كأساتذة الجامعات والمهندسين وبعض الأطباء والرأسماليين ويتميزون بكرم شديد لا يمكن أن تجده حتى في السودان ، باختصار كانت هناك لوحة مكتوبة على السكة حديد المصرية وهي تقول: (ياداخل مصر هناك الف مثلك) وهذا صحيح لا يمكن للشعب السوداني أن يبخس عراقة مصر وإلا كان أحمقا ، فإذا كان لدينا علماء في الطب والهندسة وخلافه فلمصر آلاف من العلماء في ذات المجال ، وإذا كان لدينا أدباء ومفكرون فإن هناك آلاف من الأدباء والمفكرين في مصر ، واذا كان لدينا من حصل على جوائز عالمية فإن في مصر آلاف حصلوا على جوائز عالمية تصل حتى جائزة نوبل ، ناهيك عن التفوق المصري المعروف تاريخيا في مجال السينما والمسرح والآداب والفنون عموما بمافيها الفن الحديث ، وإذا كانت الثقافة عندنا تعاني من ضعف التأليف والطباعة والنشر والرقابة الأمنية فإن مصر هي أول دولة عربية دخلتها الطابعة الورقية مع الاحتلال الفرنسي ، وهناك مكتبات عريقة تتجاوز المائتي عام ولا زالت تعمل وتنشط في مجال الكتب كمكتبة ألبابي الحلبي وشركاه. وإذا كنا نعاني في السودان من أزمة مراجع الكتاب العلمي في القانون والهندسة والطب وخلافه فإن مصر تتمتع بنشرها السنوي لآلاف الكتب في شتى فروع العلوم. إذا فمصر تتفوق على السودان من نواح كثيرة ويكون تجاهل ذلك مجرد كبر زائف وغرور جاهل .
أيضا تم اثارت مسألة حلايب وشلاتين.. وطالب بعض السودانيين الشباب باستخدام القوة العسكرية لاسترجاعها وهذا مطلب ينم عن سذاجة بالغة وكبرياء يتجاهل الحقيقة فمن حيث القوة العسكرية يعتبر الجيش المصري عاشر جيش على مستوى العالم ، ومعد بكافة أنواع العتاد العسكري الثقيل والخفيف وكافة وسائل التكنولوجيا الحديثة القتالية واللوجستية ناهيك عن المناورات المشتركة مع جيوش الدول العظمى كأمريكا وفرنسا ، فأين جيشنا نحن من الجيش المصري ، إن جيشنا مرهق ، وممزق ، بل وتم تفتيته إلى شظايا بل والتغول على صلاحياته واختصاصاته بمليشيات بدائية ، فكيف يمكن استرداد حلايب بالقوة العسكرية ..بالتأكيد هذا وهم كبير ، إن مسألة حلايب وشلاتين لا يمكن حلها عسكريا لأن ميزان القوى لا يميل لمصلحة السودان وليس لهذا الأخير من حل سوى مواصلة الضغط السياسي على مصر لتقبل التحكيم الدولي أسوة بالتحكيم الذي خضعت له في مسألة طابا.
اخيرا مسألة الأهرامات.. للأسف الشديد فإن بعض السياسيين السودانيين يحرجوننا دوما بمعلوماتهم المغلوطة المؤسسة على عاطفة جاهلة وهذا ما وقع من وزير الاعلام الذي تحدث عن أن أهرامات السودان سبقت اهرامات الجيزة بمأتي عام ..وهذا ما نفاه جميع الخبراء العالميون عبر تحقيق نشرته إذاعة BBC بالعربية ولا زال التحقيق متوفرا على الانترنت .. نحن لدينا حضارة ولكن فلننزع عنا التوهمات التي نعيش فيها حين نعتبر أن أهرامات البجراوية كاهرامات الجيزة..لا يمكن أساسا المقارنة بينهما..لا يمكن المقارنة بين أهرامات الجيزة التي تعتبر معجزة حقيقية تتجاوز كونها قبورا ملكية إلى درجة أن حيكت حول حقيقتها الأساطير وأهراماتنا الصغيرة التي ليس فيها أي اعجاز.. وهذا لا يقلل من قيمتها لكن يجب ان نكون منطقيين وواقعيين فلا شيء يماثل اهرامات الجيزة الضخمة ولا يمكن ان تتماثل حضارة كوش مع الحضارة المصرية القديمة. مع ذلك فهناك حقيقة يجب أن يعلمها الشعبان السوداني والمصري ، وهي أن شعوب مصر والسودان القديمة ليست هي شعوبها الحالية الحديثة ، لقد اختلفتا نتيجة الهجرات والتداخل الاجتماعي والفناء والاندثار والانقراض وهذه سنة الحياة ... وبالتالي فإننا حين نحتفل بكوش أو بالفراعنة فلا يعني هذا أننا أحفاد لأولئك الأقدمين .. بل نحتفل بتاريخ الأرض والتراث الانساني العالمي ، واي ارتداد جيني إلى جذور سحيقة ليس سوى وهم كبير يعيشه الانسان. ونحن في عالم تجاوز الأوهام بل صارت الحقائق تفحص وتدقق بلمسة زر في محرك بحث قوقل.
أخيرا إن هذا الجدل الفارغ والصراع الشعبوي المتبادل هو صراع يعبر عن جهالة متبادلة ويجب أن ننأى بأنفسنا كمثقفين وواعين عنه .. وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح فالسودانيون سيظلوا يسافرون إلى مصري للعلاج والمصريون سيأتوا إلى السودان للعمل مهما ارتفعت الأصوات وتضخمت الحناجر . إنه مصير لا فكاك منه.

amallaw@hotmail.com

 

آراء