غربا باتجاه الشرق
mustafabatal@msn.com
(1)
لا أحب ان يدعوني أحد (الصحفي مصطفى البطل)، تلك صفة لا تصف الحقيقة. الكاتب الصحفي ليس صحافياً. هناك فارق مهول بين الصحافي المحترف والكاتب الصحافي. الاول يمتهن الصحافة ويكتاد رغيفه راتباً معلوماً عبر كدحه في مؤسساتها. أما الكاتب الصحفي فقد يكون مزارعاً، او مهندساً ميكانيكياً، او طبيباً اختصاصياً، او استاذاً جامعياً، او مديراً لشركة تجارية. وقد يكون شاغلاً لوظيفة (بروغرام سيوبرفايزر) بحكومة ولاية مينيسوتا الامريكية، مثل كاتب هذه الكلمات.
وقد كتبت من قبل عن الراحل الكبير الاستاذ محمد توفيق، اشهر كتاب الاعمدة في تاريخ الصحافة السودانية، أنه كان عندما يريد ان يفرق بينه وبين صديقه المهني المحترف الاستاذ محجوب محمد صالح، يقول بلغته الساخرة: "محجوب صحفي عامل، وانا عامل صحفي"!
الصيحة تعلو في اوساط بعض محرري الصحف احتجاجاً على سطوة مفترضة للكتاب الصحافيين وافتئات مزعوم لهؤلاء على حقوق الصحافيين المهنيين. جوهر الدعوى أن الناشرين أحالوا الصحافة السودانية الى (صحافة رأى)، وأن الكُتاب يستأثرون بمكافآت ضخمة نظير مقالاتهم واعمدتهم، مقابل الفتات الذي يمنحه الناشرون للمحررين المحترفين!
الحرب بين المحررين والكتاب، بهدف انصاف الأولين، رفع لواءها الصحافي الدكتور عبد المطلب صديق عبر سلسلة مقالاتٍ له منشورة. وقد رأيت صديقي الصحافي الاستاذ حسن البشاري، أحد اعمدة (الرأي العام) سابقاً و(الشرق) القطرية حالياً، يزكي نار الحرب ويجمع لها الحطب في مجموعات (الواتساب).
(2)
عندما طالعت في صحيفة (اليوم التالي)، الخميس الماضي، مقال الصهر الرئاسي الاستاذ محمد لطيف حول ذات القضية بعنوان (حجب المعلومات وتدفق المقالات) أدهشني قبوله المذعن وتسليمه بغير شروط بصحة الفرضية الخزعبلية أن الصحافة السودانية تحولت لصحافة رأى، ثم شروعه في ايجاد المبررات لذلك الواقع!
أزاح لطيف اللوم عن الناشرين بحسبانهم محض منتجين لسلعة يلجأون الى استقطاب الكتاب باعتبارهم من محسّناتها. ثم انتهى بأن وضع اللوم على عتبة باب القارئ السوداني الذي بات يحدد موقفه من كل صحيفة بناء على شخصيات الكتاب لا جودة الخدمة الصحفية. غير أنه عاد مرة اخرى ليزحزح اللوم عن عتبة القارئ ويضعه أمام عتبة أصهاره!
كتب صاحبنا ان الصحافة تأثرت بالقيود الأمنية، وان استراتيجية النظام تقوم على تقييد المعلومات واطلاق حرية التعبير. فهي (توقف تدفق المعلومات عن الصحافة، بينما تسمح بتدفق الاعمدة والمقالات عليها).
ولكن الذي يتفحص الصحافة الامريكية والاوربية والعربية، ثم يقارنها جميعاً بالصحافة السودانية، سيدرك بغير كثير عناء أن نسبة مساحات الرأى في صحف السودان لا تتجاوز بأى حال نظيراتها في العالمين الغربي والعربي.
في الولايات المتحدة واروبا هناك بالاضافة الى الصحف السيارة، عدد مهول من المجلات المكمّلة، التي تصدر جنباً الى جنب الصحف اليومية، وتكاد تتخصص تماماً وكلياً في عرض مقالات الرأى، وتساهم بقدر كبير في سد حاجة الجمهور منها.
صحفنا السودانية في واقع الامر تقدم لقارئها خدمات واسعة من الأخبار والتحليلات والتحقيقات والرياضة والفن والثقافة والمنوعات. وليس صحيحاً بأى مقياس أنها تحولت الى (صحافة رأى). والالحاح على طرق تلك المقولة وتكرارها لن يجعلها كذلك!
(3)
لا بد لنا – عندما نقرأ - ان نفرق بين الحديث المرسل بدليله، والحديث المرسل بغير دليل. والزعم بأن السلطات تمنع تدفق المعلومات بينما تشجع على تداول الاعمدة والمقالات ربما جاز ان يُبذل على اطلاقه في سماوات الأسافير. أما فوق الأرض فلا بد له من عضد يسند ظهره، وأدلة تقيم حجته وتشهرها، فلا احكام بغير حيثيات!
نريد من حبيبنا لطيف اذن ان يعرض علينا حيثياته، وأن يبين لنا نوع وطبيعة وحجم الاخبار والمعلومات التي يحظرها النظام عن الصحافة، وما هي الآليات المتبعة لانفاذ مثل هذا الحجر؟ فإن كان مقصده الرقابة القبلية قبل سنوات، فكلنا يعلم ان تلك الرقابة وقعت في غالب أمرها على الرأى وكتاب الرأي، وتلك لا تدعم مقولته، بل تصلح لهدمها.
أما الموضوعات التي قدّرت السلطات، في فترات متباعدة، أنها ذات حساسية أمنية خاصة وطالبت الصحف بتجنب اخبارها، فلا يجوز، لمحدوديتها إطاراً ومقداراً، ان يُبنى عليها حكم شمولي من شاكلة ان صحافتنا بسبب ذلك الحجر الانتقائي قد اصابها التلف قولاً واحداً، فاستحالت الى (صحافة رأي) على حساب الخدمة الصحفية الكلية. تلك لعمري خلاصة متزيّدة وتخريج متعسف لا تسنده المقدمات، ولا تعضده الحقائق الشاخصات.
(4)
أما قضية ارتفاع اجور الكتّاب وانخفاض رواتب المحررين، وهي في ظني مبتدأ الشكوى وخبرها، فلم أسمع لها عند لطيف حسّاً ولا ركزا. لعلع الرجل وبعبع في كل شئ الا في أمر المال.
ولكنني أتوقع، عن معرفة اكيدة بهذا الحبيب، أنه سيقود مبادرة لاقناع رصفائه من الكتاب بالموافقة على تخفيض مكافآتهم الراتبة، وسيتقدمهم هو شخصيا ان شاء الله فيعلن تخفيض مكافأته الشهرية (المتلتلة) الى النصف، دعماً لمحرري صحيفة (اليوم التالي)!
يلا يا لطيف .. فيك الخير!
نقلاً عن صحيفة (السوداني)