الصورة المقلوبة: العسكريون في حمى المدنيين

 


 

 

د. أحمد جمعة صديق
يتمثل الوجود العسكري في المدن السودانية في وجود المؤسسات العسكرية (الوزارات- الثكنات - المصانع - الخدمات العسكرية) في داخل المدن وسط المعمار المدني. فالقيادة العامة (ب ابراجها العالية وسورها المزدوج) مثلاً تتوسط الخرطوم، وهي تقع في منطقة حيوية تعج بالسكان المدنيين والطلاب والنشاط الاقتصادي والتجاري، كما تقع في مسار رئيسي لمهبط الطائرات في مطار الخرطوم الدولي.
كما تتواجد أسلحة كاملة بعدتها وعتادها داخل المدن. ويعلم كل سوداني بمواقع هذه المؤسسات العسكرية. وهناك عدد لا يستهان به من الاسلحة الفنية داخل المدن، تقتضي طبيعة وطريقة عملها ان يكون وجودها عملياً في (البر) وليس داخل الحواضر. فالمدرعات والطيران والمدفعية، هذه أسلحة تقتضي طريقة عملها وفعاليتها وجودها بعيدا عن المدن.
والشاهد ان وجود هذه المؤسسات يوحي بأن المدنيين هم الذين يقومون بحماية العسكريين طالما كل المؤسسات العسكرية تختبئ خلف ظهر المواطن المدني في هذه الحواضر. كما ان وجود هذه المؤسسات العسكرية داخل الحواضر يجعل من المدنيين دروعاً أو تروساً بشرية في حالة النزاع بين أي فصيلين متقاتلين كما هو الحاصل اليوم؛ بين الجيش وقوات الدعم السريع. وفي الغالب يكون المدنيون هم الضحايا في حرب المدن اذ يؤخذوا كسواتر أودروع بشرية بين المتقاتلين.
وهناك مظاهر اخرى عسكرية، وهو وجود الدبابات والمركبات في شوارع المدن؛ كنقاط ارتكاز اوحراسة مما يتسبب في مضايقة السابلة وفي عرقلة وانسياب الحركة داخل الحواضر. ففي كل ركن الآن هناك دبابة او مركبة عسكرية. وأحياناً تتحرك هذه الناقلات بسرعات جنونية، وكثير منها لا يحمل لوحات أمامية أو خلفية مما يعد تهديداً صارخاً لسلامة المدنيين وانتهاك لقانون الحركة العام.
وجود القوات العسكرية في المناطق الحضرية مثل عاصمة البلاد والمدن الكبيرة في السودان كان جزءاً هاماً من المشهد اليومي، الاجتماعي والسياسي في البلاد لعقود من الزمن. وقد تضخمت هذه المؤسسات العسكرية فصارت تحتل مساحات شاسعة من أرض المدن وصار العساكر أكثر تمدناً من المدنيين اذ تحتل الابراج السكنية العسكرية كثيراً من هذه المدن. وهذا يضيف عبئاً آخر على الخدمات التي كان ينبغي ان تقدم للمدنيين، فيزاحم فيها العسكريون أيضاً بحكم انهم مواطنون، وليس في االقانون ما ينفع الاستفادة من الخدمات التي تقدمها هذه المؤسسات المدنية. بينما يظل العكس صحيحاً اذ لا يستفيد من المؤسسات الخدمية التابعة للجيش سوى عدد محدود من الناس؛ وفي الغالب هم من في معية او تبعية العساكر.
وقد ارتبط الوجود العسكري في هذه المدن والحواضر دائماً بالاضطرابات السياسية متمثلة في الانقلابات العسكرية والتي يتبعها انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان،وتعطيل أو تباطؤ في عجلة النمو الاقتصادي في البلاد. واليوم خرجت جميع المصانع في العاصمة المثلثة من الخدمة لعدم الاستقرار الامني ولأن عدداً كبيراً من هذه المصانع قد تعرض للنهب من قبل المتفلتين من العسكر والمدنيين على السواء أو انقطعت عنه الطاقة الكهربائية أو تعذر نقل المواد منها واليها وانعدام التسويق لانعدام الامن. ومعالجة المظاهر العسكرية داخل لمدن والحواضر في السودان يعتبر أمراً لا جدال فيه ليمهد للسودان في الانتقال نحو الديمقراطية والاستقرار والتنمية وارساء قواعد الدولة المدنية مظهراً ومخبراً.
فما هي التحديات التي تعترض إزالة المظاهر العسكرية في مدن السودان؟
وما هي استراتيجيات للتخلص منها؟
الاضطرابات السياسية:
يعكس الوجود المتكرر للقوات العسكرية داخل مدن السودان تاريخاً من الاضطرابات السياسية والحكم الاستبدادي. فقد استخدمت الأنظمة الحاكمة العسكرية القوة لقمع الاحتجاجات والحفاظ على سيطرتها على السلطة، مما أدى إلى نقص الحريات السياسية والمؤسسات الديمقراطية. وترتبط عسكرة المدن في السودان بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والتعذيب والقتل خارج إطار القانون. وغالباً ما تعمل هذه القوات العسكرية في ظل قوانين الطوارئ مما يعرقل سيادة القانون ويعزز ثقافة الخوف بين المدنيين.
التنمية الاقتصادية
ويعيق الوجود العسكري الثقيل في مدن السودان أيضاً التنمية الاقتصادية. اذ يتم تحويل الموارد التي يمكن تخصيصها للخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية إلى الإنفاق العسكري. وقد ثبت ان 80% من ميزانية الدولة تذهب في الصرف على القطاع العسكري والامني، من غير ان يكون للحكومة المركزية رقابة على صرف هذه الاموال او متابعتها، على الاقل عن طريق وزراة المالية، وهي الجهة المخّول لها دستورياً الاشراف على السياسة المالية والنقدية في البلاد. فجميع مؤسسات الجيش لاتخضع لديوان المراجع العام وهو الجهة المسئولة عن متابعة الصرف من بنود الميزانية العامة للدولة في جميع وزاراتها ومؤسساتها. علاوة على ذلك، فإن الإحساس بعدم الأمان الذي يخلقه التسلح يثني عن الاستثمارات الأجنبية ويعيق النمو الاقتصادي.
الإصلاحات السياسية:
يعد إقامة نظام سياسي ديمقراطي مبني على سيادة القانون وفصل السلطات واحترام حقوق الإنسان خطوة أساسية في إزالة المظاهر العسكرية في مدن السودان. ويتطلب ذلك إجراء إصلاحات سياسية شاملة، بما في ذلك صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات حرة ونزيهة وإنشاء هيئات قضائية مستقلة وآليات رقابية.
إصلاح قطاع الأمن:
يعد إصلاح قطاع الأمن امراً أساسياً لإزالة المظاهر العسكرية في المدن. يتضمن ذلك إعادة هيكلة القوات المسلحة للتركيز على الدفاع عن حدود البلاد والتهديدات الخارجية، بدلاًمن مراقبة السكان المدنيين. علاوة على ذلك، يجب بذل الجهود لتحسين مستوى تدريب قوات الشرطة، وتعزيز مساءلتها، وضمان التزامها بمعايير حقوق الإنسان.
برامج إعادة الانضمام والإعادة التأهيل
لتقليل وجود القوات العسكرية في المدن، يجب تنفيذ برامج شاملة لإعادة الانضمام والإعادة التأهيل للمقاتلين، بما في ذلك تسليم السلاح وإعادة إدماج الجنود في الحياة المدنية. ينبغي مرافقة هذه البرامج بدعم اجتماعي واقتصادي، بما في ذلك التدريب المهني والتعليم ومساعدة في التوظيف، لتسهيل الانتقال إلى الحياة المدنية.
مشاركة المجتمع المدني:
يلعب المجتمع المدني دوراً حاسماً في المطالبة بإزالة المظاهر العسكرية في المدن وتعزيز الرقابة المدنية على قطاع الأمن. يجب دعم وتمكين منظمات المجتمع المدني لمراقبة الأنشطة العسكرية، وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، ومحاسبة قوات الأمن. علاوة على ذلك، يجب بذل الجهود لتعزيز الحوار والمصالحة بين القوات العسكرية والمدنيين.
الدعم والمراقبة الدولية:
يمكن للمجتمع الدولي أن يلعب دوراً بناءاً في دعم جهود السودان لإزالة المظاهر العسكرية في المدن. ويشمل ذلك تقديم المساعدة الفنية والدعم المالي وبرامج بناء القدرات لإصلاح قطاع الأمن ومبادرات إعادة الانضمام والإعادة التأهيل. كما ينبغي دعوة المنظمات الدولية ومراقبي حقوق الإنسان لمراقبة وتقديم تقارير عن تقدم الإصلاحات وضمان الامتثال للمعايير الدولية.
ونخلص من ذلك بالقول ان إزالة المظاهر العسكرية في مدن السودان ضرورية لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية. ويتطلب ذلك إجراء إصلاحات سياسية شاملة، وإصلاح قطاع الأمن، وبرامج إعادة الانضمام والإعادة التأهيل، ومشاركة المجتمع المدني، والدعم والمراقبة الدولية. من خلال معالجة الأسباب الجذرية للعسكرة وتعزيز الرقابة المدنية على قطاع الأمن، يمكن للسودان أن يفتح الطريق نحو السلام والاستقرار والازدهار المستدام ولا يتم ذلك الا في ظل الدولة المدنية، وهي بالضرورة دولة المؤسسات حيث يتساوى الناس جميعا في الحقوق والواجبات والتقاضي امام القضاء.

aahmedgumaa@yahoo.com

 

آراء