العصيان المدنى: اللغة التى اعادت المعارضين السودانيين إلى ذواتهم!

 


 

 

 

و كأنى بالشعب السودانى يقول للمعارضة: مرحباً بكم فى دياركم و جيدا جيتو!

محمد عثمان (دريج)

و فى البدء كانت الكلمة/اللغة
العصيان المدنى الذى نُفذ فى الفترة ( اغسطس 27-29) و الذى دعت اليه قوى معارضة (اغلبها من قطاعات اجيال المعارضة الجديدة) مثّل بحق لفتة/نقلة نوعية فى العمل المناهض لسياسات حكومة الاسلاميين فى السودان فى خلال السبع و العشرين سنة الماضية والتى هى عمر النظام. فحتى قُبيل تنفيذ العصيان كانت المعارضة اسيرة التخبط و عدم الثقة فى الذات و ضعف التنظيم و عدم القدرة على التواصل مع الجماهير و حشدها لصالح العمل المعارض. كانت المعارضة تفتقر إلى لغة تواصل بينها و جماهيرها الحقيقية أو المزعومة.
و تتجلى اعراض ضعف المعارضة و تخبطها فى الماضى فى الإمعان فى المحكاة السطحية و إجترار شعارات ما بات يُعرف بـ"ثورات الربيع العربى" على شاكلة "ارحل" و "جمعة البطيخ" و "لا لشبيحة النظام"، إلخ إلخ؛ و هى الشعارات التى كانت تجعل من الثورة السودانية و كأنها إنعاكس شائه لما يحدث فى بلدان "الربيع" و ليس السودان. و تلك الشعارات ما كانت تنزل من "الزور" كما تقول الحكمة الشعبية؛ و لذا لا نشك لحظة فى ان هذا الإجترار السطحى لتك الشعارات "الغريبة" كان احد اسباب إخفاق الحراك المعارض فى السودان فى الفترة الماضية! و لعله من ابجديات نجاح العمل المعارض ان تمس شعاراته وجدان جماهيره، و لابد من إيجاد لغة تخاطب هذا الوجدان و تحركه و ترفده بمعانى الوجود و الإستمرارية. لقد غابت تلك اللغة طيلة السبع و العشرين السنة الماضية فقط لتنولد جنينيّاً مع العصيان المدنى فى نوفمبر الفائت.
و لكنها ككل لغة تُولد غير مكتملة النمو و لكنها تتطوررويداً رويداً عبر تغذيتها بمفردات مستمدة بالضرورة من بيئتها وعن طريق رفدها بقواعد وأُسس رأسية و أفقية قادرة على دغدغة وجدان الجماهير بشكل مثير و يومى؛ من ناحية؛ و إدخال الرعب والارتباك فى دهاليز السلطة و إقتصادها اللغوى/الايديولوجى و عملياتها القمعية الروتينية...فالسلطة بحرصها على البقاء و الاستمرارية طورت لديها القدرة على التميًز وبشكل قاطع ما بين الصوت الجماهيرى الحقيقى وذاك المزعوم.
و صوت الوجدان الجماهيرى الحقيقى لا يُقاس بالكم و إنما بالكيف؛ و لذا إذا ما نظرنا للعصيان المدنى فى نوفمبر ليس المهم قطعاً هو نسبة المشاركين فيه فى هذه المرحلة الجنينية بالذات بقدر أهمية قوة الايمان بجدواه و ضرورته؛ و هذا الإيمان وحده هو الكفيل بإقلاق مضاجع السلطة لأنه يرفد المؤمنين برسالته بدواعى الثبات و المقاومة و تحدى بطش و غطرسة السلطة وفضحها فضحاً بيّناً و كاملاً.
و تماماً كما تفعل اللغة، عمل العصيان على خلق تواصل خلاق و فعّال بين قطاعات كبيرة و مختلفة من الناس داخل و خارج البلاد و تم ذلك كله على مسمع و مرأى من السلطة و أجهزتها القمعية اللطيفة (كالإعلام) و الثقيلة (امن و شرطة و بلطجية‘ إلخ) و التى وقفت محتارة وعاجزة عن القيام بأى فعل سوى المشاهدة المجانية لهذا الفصل الهام فى تاريخ الشعب الذى قهرته طيلة سبع و عشرين عاماً، بينما هو(أى العصيان) ينثر نسائم الامل و التفاؤل بين الناس فى مساكنهم و تتابعه وكالات الانباء المختلفة و تتداوله منابر التواصل الاجتماعى المتنوعة، وفى هنا تكمن قوة و خطورة العصيان المدنى على الطريقة السودانية!
و كما أسلفنا القول، لغة العصيان على الطريقة السودانية هى التى كانت تعوز العمل المعارض طيلة الفترة الماضية و لكنها و قد إنولدت من رحم تجارب الشعوب نأمل الا يحاول البعض الإنحراف بها عن مسار تطورها "الطبيعى" و الذى يحتاج إلى نفس طويل و زمن اطول حتى يقوى عودها و حتى تتمكن من القيام بدورها "الوطنى" المرتجى و المأمول؛ و كذلك نأمل ألا يحاول البعض تحميلها فضاءات دلالية أكبر من قدرتها التطورية و المرحلية أو يقلل من شأنها لانه من شأن كل ذلك إرباك الجماهير المحتفلة بقدومها و المؤمنة بدورها و جدواها..فالجماهير هى الاخرى تحتاج إلى ان تتعلم اللغة الجديدة وفقا لمعطيات شروطها التاريخية و الحياتية، نقول تحتاج الجماهير إلى إمتلاك ناصية اللغة الوليدة رويداً رويداً حتى تتمكن فى الآخر من إنتاج جُملها الخاصة بها كالدعوة للإتنظام فى المناطق السكنية أو مقاطعة صاحب المحل الفلانى ما امكن ذلك لانه يتعامل مع زبانية النظام‘ إلخ إلخ. فهل يا تُرى سيتمكن العمل المعارض من تحمّل مطالب والإيفاء بإستحقاقات هذه اللغة الوليدة و رعايتها ام أنه سرعان ما سيتركها بفعل العجلة و ضيق النفس لتذروها رياح الكسل و الامبالاة و الانبطاح لشبق السلطة؟
ديسمبر 5/2016


zalingy@gmail.com

 

آراء