العصيان كشف المخبأ .. بقلم سعيد محمد عدنان/ لندن/ بريطانيا

 


 

 

 

لقد دهشنا عندما وصلنا خبر عزم القوم في السودان على العصيان المدني، وبدأنا نتساءل في هدوء كمن لا يستطيع إعطاء ذاك الخبر مصداقية ولو قليلة، ولو أنه لم نحرمه مصداقيته في عكس صورة اليأس والقنوط التي دعت ل "إطلاق مثل تلك إشاعة". 

أنا شخصياً كنت قد بدأت انتبه كل صباح أنه لم يأت الأحد بعد لحسم ذلك الهاجس العنيد الذي استهواني، ولو أني بصراحة لم أك أعيل عليه أي سيناريو يحل للسودان وضعه غيرِ المحسودِ عليه، ولكنني برضه كنت لا انشغل عما سيفضيه يوم الأحد.
ولماذا أنشغل؟ بصراحة ليس في أفقي سيناريو لحل، فالسودان صحيح استلبته جماعة الإخوان المسلمين وتسببوا فيه في مآسي عدة (كنت قد عاصرتها حتى قذفت بي البلاد إلى هذه الغربة الطويلة التي غرّبتني عن بلادي عشرين عاماً تغريباً مطلقاً).
ولكن سرعان ما تم الخلاف بين هؤلاء المقامرين وانكشفت ألاعيبهم على بعضهم بعضاً، وتدخل المجتمع العالمي للمساهمة في حل مشاكل السودان، وقدمت الحكومة القرابين لتلك القوى مما أضفى على الأمر وضعية جديدة مختلفة من الهجمة والسذاجة الصبيانية الأولى التي سعى بها الإخوان للسيطرة على الحكم وتغيير هوية السودان حتى يحققوا أحلامهم في الدولة الإسلامية وهيامهم في السلفية الآفلة. الوضعية الجديدة تنم عن نضوج لأقطاب الحكم قد يدعوهم لتعديل مسار السفينة ونبقى فقط نتحسر على ما ضاع ولكن نكون راضين بإيقاف النزيف.
لكن لا يبدو نورٌ من ذاك الأفق
والمعارضة تسكن مع الحكومة تحت سقف السودان الواحد وتقضي أيامها عادية كبقية الرعية المسلوبة
والمعارضة المسلحة منبوذة على البعد وقد ألبسها النظام بدلة الشيوعية والعنصرية، وسخر منها بإتْباعِها مراشد مانديلا والتحريض الأفريقاني العنصري
هذا بالضبط ما نسمعه من مثقفيهم، أو دعني أصحح نفسي: أنصاف مثقفيهم، من أمثال السيد صلاح الدين عووضة الذي جلى لنا سعيه الثقافي وهيامه بالفلسفة فترك لها العلوم والرياضيات... ليتحدث عن ظاهرة الرهاب وكيف بعض المشاهير عانوا منها وكتموها، ولم يتحدث عما هو أخطر من ظاهرة الرهاب وترتبط بالفلسفة الحقيقية: ظاهرة الإرهاب..... كيف أن التضحية في سبيل الغرض بالروح "الانتحارية" والتي تفانى فيها أبطال "الدواس" ضد العداء والذين وعدهم الله تعالى في سورة الأنفال "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين ** وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيزٌ حكيم" أي أن جسدك وجسد ألفٍ من الملائكة مردفين ليسوا مصدر النصر وإنما لطمأنينة قلوبكم وما النصر إلا من عنده تعالى، أي النصر على المعتدين
ولم يقل إذهب واقتل المسالمين، مهما كان حسابك معهم، وأن الله سينصرك عليهم
ولكن أول من كان من غير المسلمين الذي وهب نفسه فداءاً إنتحارياً اقتداءاً بذلك المبدأ العظيم الذي سنه الله تعالى، هم اليابانيون في محاربي "الكاميكيز" الذين بعد اعتداء أمريكا عليهم في قعر دارهم وانهزامهم المضطرد، قاموا بقيادة طائرات تجرها طائراتهم الحربية ثم تتركهم يقودونها بلا ماكينات لتسقط على سفن أساطيل المعتدين محملة بالمتفجرات فيسقطون بها قنابل على أسطول العدو
هذا هو الجهاد والإستشهاد دفاعاً، أما ما تقوم به داعش ودعم الإرهاب فهو ما قام به هؤلاء، وتجارة السلاح وتهريبه عبر السودان قامت به تلك الحكومة لا لسبب لدفاع عن الأرض إنما لقتل السودانيين في حروبهم الأهلية التي سببتها وغذتها، والتدخل في شئون الدول الأخرى وهي غير قادرة على ستر رعيتها وحمايتها
ولو سألني السيد عووضة عن أين الفلسفة هنا، لقلت له أن النظام العالمي القائم، وبعد عراكٍ فكري كثيف من الفلاسفة والمفكرين في إيجاد حل لأرضية مشتركة لسكان الكوكب تسمح لكلٍ حريته في عقيدته وحقوقه وآرائه، بحيث يتعايش الناس في سلام، هو دعم "العقلانية" والتي يهاجمها الإخوان بتسميتها بالعلمانية، فالعلمانية عقلانية ولكن العقلانية تسمح بالعلمانية والعقيدة الدينية، فتقدم مفكر العصر التنويري "إيمانويل كانت" بالفلسفة التي بيّن فيها تلك الأرضية المشتركة هي ما يتفق عليه القوم من مصالح وقواسم مشتركة في ضروريات الهوية والواجب، وتكون معها المبادئ السامية التي توصل إليها العالم من حقوق في الحريات والمساواة واحترام حقوق الغير والاتفاق على الاحتكام، وأما العقائد الشخصية فيمارسها الفرد بحرية ولا يلزم بها غيره ولا يثنيه عنها أحد
وتم فصل الدين عن الدولة كأحد أسس النظام العالمي الحديث
فرُفضت فكرة الحروب الصليبية والحروب الدينية الإسلامية، خاصةً بين الشيعة والسنة، ومُنع الاحتلال التوسعي ورُسّمت الحدود الدولية، ووضعت لبنة الإحتكام والتحكيم الدولي
هذه هي الفلسفة التي بموجبها انتهى الرق وسهل الخطاب ووقفت الحروب التوسعية، وارتفعت حقوق الأنسان
والسودان من أكبر الكاسبين في ذلك، فقد منح الاستقلال بقوة ذلك النظام العالمي، ومصر حتى اليوم تجد في دواخلها أن السودان يتبع لها، بل واحتلت منه أجزاء بمكرٍ لا يجعل منه أزمة دولية، ولكنه يثبت "مسمار جحا" للعودة إليه لاحقاً
وتحدث حكام مصر الذين أزيحوا "جماعة مرسي" وقد انفضحوا في اجتماعٍ وزاري يتحدثون عن سد النهضة وكيف ضربه وتهددوا سلامة السودان وكأنه مستعمرة تخصهم
ورفض البشير أن يمتثل للتحكيم الدولي في حق مقهوريه من الشعب في دارفور ولم يكوِّن محكمةً وقضاءاً عادلاً مقبولاً لدى النظام العالمي، والذي تلذذ خلاله بحكمه الطويل عن طريقٍ ليس لأنه "جنكيز خان"، إنما فقط لأن العالم لا يسمح بالتعدي عليه لمجرد التعدي، فلم يقم بذلك، ورقص البشير ورقص معه زبانيته من أمثال السيد عووضة والطيب مصطفى
وهذا الأخير ظل يستهزئ بالمعارضين والمكلومين الذين لا حول لهم ولا قوة، همه الوحيد أن ينتهي من صمودهم وعزمهم فيُذلّون وهم صامتون... لماذا يتمنى ذلك إنسان له عقلية سليمة؟ إن العالم الحديث من حولك يا السيد الطيب مصطفى يرفضون للحيوان أن يعيش ذليلاً ومكسوراً، وبدأوا إطلاقهم في الطبيعة واوقفوا عملية ترويضهم و"كسر قرنهم"، ففُضّت كثير من "السيركات" التي تستغل تسخير الحيوانات، وتحولت كثيرٌ من حدائق الحيوان إلى منتزهات مفتوحة تعيش فيها الحيوانات حرة طليقة، وأرجعت كثير من الحيوانات إلى بيئتها في إفريقيا بتكلفاتٍ إضافية في تلك عملية
والشعب يائس مسلوب، لا قائد له ويسبح في سموم وتحريفات دينية وبواقي موروثاتٍ مشوهة من أزمان الجهل والفاقة جعلته يدافع عن المثالية التي يرسمها له مهندسو المجتمع من العصابة الماثلة، حتى انقلبوا على مصالحهم بمحاربة العالم والنظام العالمي، وأعاشوهم في ثقافة حروب الثأر ورفس مكاسب السودان التي حسدها عليه كل الجيران وكثيرٌ من الطامعين، وأعمتهم عن جحافل الطامعين والمتربصين
ولكن ما يجري الآن في العالم ينذر بما يشبه يوم النشر ولكنه يوم نشر دنيوي: يوم أن مادت الأرض بثقلها من جرائم البشر على أنفسهم وعلى كشف ما كان مخبأً.
فجأة شعرت الأمم التي ساندت النظام العالمي بعدم فائدة ذلك النظام الذي أول من نقضه وبصق عليه هي الشعوب التي قام النظام لحمايتها
وصدقني، السودان من أهم موردي تلك البصقات التي قتلت التعاطف من تلك الأمم
السودان الذي منح مليون ميل مربع وأرض بها ثلاثة أرباع المياه العذبة التي أصبحت سلعة نادرة في العالم، وليس به إلا مجموعة ضئيلة من البشر، والذي تحيطه تسع دول لا توجد حماية له منها إلا بمثل ذلك النظام. ومصدر الماء الرئيسي وهو نهر النيل يأتيه عابراً من عددٍ من الدول التي استيقظت لجرد حسابها فيه، ولن يحل مشاكله التي طفحت إلى السطح إلا مثل ذلك النظام العالمي
والآن بدأت لبنات انهيار النظام العالمي غالباً بانسحاب أمريكا من ذلك العالم، أو البقاء به وقتل نظامه الحالي إلى السيطرة والتسخير
فليس في مقدرة أمريكا أن تقود لإرغام أصحاب المال والقوة البيض للمثول للأعراق الأخرى بحجة المساواة، وهم لم يكتمل لهم الدرس بعد بصدق تلك المساواة، والتي لم ينبذها أيٌّ من المتشنجين من شعوبنا، ولم يصبروا حتى على تأسيسها...وواضحٌ جلياً كيف أن سرطان القومية ورفض الأجانب والعودة لما قبل النظام العالمي، كيف اشتعلت في أوروبا بخيار أمريكا الذي تميز في انتخاب ترامب.

وليس في مصلحة أمريكا أن تزج بنفسها في الحروب الدينية والرواسب القديمة التي لم تكُ أساساً جزءاً منها، بل تكونت أمريكا بالهاربين منها.
وليس من مصلحة أمريكا أن توقف استثمارها لطاقاتها الوقودية بينما تدفع ضريبة حماية البيئة بسبب رهن الدول المتسببة في تدهور البيئة (وهي الدوال البترولية) لدول العالم المحتاجة للوقود شريان حياتها
وقد عاد العالم لتطرفه اليميني في اعتداده بالقومية ضد اعتداده بالديمقراطية لأن أول من أفشل الديمقراطية هي الدول المتعددة الأعراق والأديان
وفي انهيار هذا النظام كما تبدو نُذُرُه، فسيعود العالم إلى الصراع التوسعي:
ومن هو أول الضحايا؟
السودان طبعاً
لأن أمريكا والعالم الغربي اليوم – وليس غداً – منزعجون من سيطرة الإرهاب في الصومال بسبب انهيار الدولة فيها، وذلك لانهيار البنية القومية فيها
وهي الآن لا شك منزعجة ومنزعج معها العالم في أن السودان بعد أن أصبح دولة فاشلة، بدأت تظهر عليه أمراض الموت السريع بسبب فساده ورهنه لإرهابيي العالم وتخصصه في صناعة الارتزاق كجنوده الذين يصدر لحرب اليمن، واستيراده الجنجويد من غرب إفريقيا، ولن يكلف الطامعين والمقامرين شيئاً لمحاولة التهجم عليه ولا شك أن المتربصين والمقامرين كثرٌ من الذئاب الكاسرة التي تنتظر سقوطه من جرح مفترسٍ له
وتفكّر معي هل دول الجوار ستترك ذلك يحدث وهي التي كان يسيل لعابها فيه؟
وهل اقترب الوقت الذي تسترد فيه مصر "أرضها السليبة"، ومن من؟ من مجرمين شاردين من العدالة الدولية التي بعدائها حطموا مؤسستها؟
ومن مصدري الإرهاب وزبانيته وهي التي عانت ما عانت من الإرهابيين
هل ترى كيف أن أمثال عووضة والطيب مصطفى من أنصاف المثقفين هم أخطر من الداء المثقف؟ هل ترى دورهم في قتل الروح والهمة في أجساد الشعب المرهق المكسور جناحه؟

izcorpizcorp@yahoo.co.uk

 

آراء