العلمانية التائهة بين المؤتمر الدستوري واشتراطات الحلو وعبد الواحد

 


 

 

العلمانية التائهة بين المؤتمر الدستوري واشتراطات الحلو وعبد الواحد
جمال عبد الرحيم صالح

تضج حياتنا السياسية والاجتماعية بفيض من الأوهام التي يستند بعضها على أنصاف حقائق أعطيت أكثر من قدرها لتتحول لثوابت سياسية. من ضمن تلك الأوهام ما يطلق عليه "المؤتمر الدستوري" الذي يتعامل معه عدد مقدر من قيادات التنظيمات السياسية كمفتاح سحري لمعالجة القضايا الرئيسية الخاصة بتطور البلاد، ومن ضمنها مسألة علاقة الدين والدولة. فبسبب هذا الوهم تنطلق دعوات من أحزاب واتجاهات ذات وزن تطالب بتأجيل معالجة هذا المشكل. كان آخر هذه الدعوات ما أبدته قيادات في أحزاب رئيسية من انتقادات للتفاهمات التي جرت بين قيادة "تقدم"، ممثلة في رئيسها، مع حركتي الحلو وعبد الواحد محمد نور باعتبار أن معالجة تلك القضية يجب أن تكون من ضمن أجندة المؤتمر الدستوري؛ هذا في حين أن المؤتمر الدستوري المأمول يجب النظر إليه كخطوة إجرائية وفنية ضرورية لصياغة عقد اجتماعي يؤسس لدستور دائم متوافق عليه من أغلبية السودانيين، وليس لابتدار نقاش حول القضايا المفصلية ومناقشتها والوصول لتوافق كامل حولها. فالمنطق والتجربة يشيران إلى أنه يستحيل نظرياً وعملياً أن يتفق ممثلو شعب كامل بكل قياداته السياسية والاجتماعية على وثيقة تعبر عن الجميع؛ كما يستحيل نظرياً وعملياً أيضاً على مؤتمر ما، مهما طالت فترة انعقاده، وتكاثرت عضويته، أن يبتدر نقاشاً تفصيلياً، ثم يتفق من بعد ذلك على رأي مجمع عليه في مئات القضايا مثل التي يجب على المؤتمر الدستوري الوصول لتوافق حولها.
يَنْبَني على فهمنا المشار إليه أعلاه بخصوص المؤتمر الدستوري باعتباره حدثاً إجرائياً، أن تُحوَّل إليه "حصيلة" المناقشات والرؤى والآراء والاتفاقات، التي تسبق انعقاده، حول القضايا والمسائل المرتبطة بتطور البلاد بغرض اعتمادها. بمعنى آخر فإن كل تلك القضايا، لابد أن تكون حاضرة، بشكل أو آخر، في المفاوضات والأحداث السياسية الحالية والمستقبلية. كمثال على ما نقصد، فإن مسألة علاقة الجيش بمؤسسات الدولة، إضافة لعقيدته العسكرية، وعلاقته بالمؤسسات الأمنية الأخرى، تعتبر أحد أهم القضايا الواجب أن يؤطرها بشكل نهائي العقد الاجتماعي المنتظر الاتفاق حوله في المؤتمر الدستوري، بيد أن واقع الحال يفرض التعامل الآني معها كأحد استحقاقات معالجة أمر الحرب القائمة والنظر في أمر تجويدها ودمجها في العقد الاجتماعي لاحقاً.
إضافة إلى ذلك فإن مسألة انعقاد ذلك المؤتمر يحيط بها الكثير من الغموض والتعقيدات المتعلقة بتحديد مرجعية ومشروعية الجهة الداعية له، وهوية ووزن القوى السياسية والاجتماعية المشاركة فيه، وكيفية ضمان التزام تلك القوى بالمشاركة ومن ثمَّ قبول نتائج مناقشاته وتوصياته. باختصار نحن نتحدث عن مؤتمر في علم الغيب حرفياً ولا ندري حتى ملامحه العامة!
نجيء الآن لمناقشة مسألة علاقة الدين بالدولة ومطالبات بعض حاملي السلاح بحسمها كشرط واجب لاندماجهم في العملية السياسية وبالتالي تنازلهم عن العمل المسلح، بينما يتردد آخرون في التعامل معها وتأجيلها للمؤتمر الدستوري المأمول. وفي هذا يعتقد كاتب هذه السطور أن مسألة فصل الدين عن الدولة، وطَرْقَها في المنابر في اتجاه خلق توافق واسع حولها، أصبحت أمراً لازماً، خاصة وأن الجهات التي تنادي بإسلامية الدستور والقوانين المستمدة من مبادئه، وأهمها إسلامويو المؤتمر الوطني، فقدت أي حجة لها في التمسك بدعاويها؛ بل ساهمت هي نفسها، نظرياً وعملياً، في تأييد ذلك الفصل بينهما (أي بين الدين والدولة)، ولا ينقصها سوى التصريح بذلك والإعلان عنه؛ ويُفهَم من ذلك تلقائياً، أن إسلامويي المؤتمر الوطني ليس لديهم فرصة في استغلال العاطفة الدينية للمواطن السوداني، هذا إذا أحسن المناهضون لهم مخاطبتهم لشعبهم بالرأي الواضح المسنود بالحقائق الثابتة، بما يزيل هذه الحساسية. دعونا ننظر في حيثيات ما نزعم:
* لابد من تثبيت حقيقة أولية، بل أبجدية، بأن علمانية أيّ دستور من عدمها، تُعرَف من خلال نصوص ذلك الدستور، ولا يوجد نص في أيِّ دستور معلوم لدينا يحوي بنداً يضم هذا المصطلح في متنه. وفي هذا يجدر القول بأن دساتير السودان التي كانت سائدة، وأقصد دستور 1956 و1973 و2005، تعتبر دساتير علمانية، مع وجود بنود محدودة، وممارسات قانونية سائدة سنتعرض لها لاحقاً، تشوش على زعمنا هذا. ربما تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن ما نتناوله هنا يعتبر تلخيصاً مصغراً لكتاب لنا صدر عن دار المصورات قبل أعوام قليلة بعنوان "الدين والدولة - مشروع رؤية لفض الاشتباك".
سنركز توضيحاتنا على دستور 2005 باعتباره يعبر عن إرادة إسلامويي المؤتمر الوطني، وبالتالي سيكون حجة عليهم باعتبار أن خطهم السياسي مبني على المتاجرة بالدين واستغلال الحساسية الدينية للمواطن المُتَنَازع بين تعلقه بمبادئ الدين من ناحية ورغبته القوية والمشروعة لرؤية قيم الدولة الحديثة متحققة أمامه، من ناحية أخرى. وفي هذا نقول بأن دستور 2005 يمثل دستوراً علمانياً، حيث ينص في فصله الأول المتعلق بتحديد طبيعة الدولة والسيادة وحاكمية الدستور على مبادئ "علمانية" بوضوح. فقد نص ذلك الدستور على أن السيادة للشعب وتُمارسها الدولة طبقاً لنصوص هذا الدستور، وعلى أن الأديان والمعتقدات والتقاليد والأعراف هي مصدر القوة المعنوية والإلهام للشعب السوداني، وأن التنوع الثقافي والاجتماعي للشعب السوداني هو أساس التماسك القومي وأنه لا يجوز استغلاله لإحداث الفرقة، وأن تُستمد سلطة الحكم وصلاحياته من سيادة الشعب وإرادته، وأن تحترم الدولة الحق في العبادة والتجمع وفقاً لشعائر أي دين أو معتقد، وعلى أن تكون المواطنة أساس الحقوق المتساوية والواجبات لكل السودانيين، وغير ذلك من النصوص.
* تمثل المبادئ أعلاه جوهر أي دستور علماني باعتبار أن المبدأ الأساسي الذي يحدد علمانية أي دستور هو وقوف الدولة على مسافة واحدة من مواطنيها بغض النظر عن الدين أو العرق أو النوع. بقبولهم لتلك المبادئ، أسقط إسلامويو المؤتمر الوطني كامل العمود الفقهي الموروث في مجال السياسة والحكم، ذلك المسمى بالسياسة الشرعية؛ التي تقوم على فكرة "الحاكمية لله"، وتدعو للتمييز بين المسلم وغير المسلم، وبين المرأة والرجل؛ كما تستند على قاعدة الولاء والبراء التي تؤكد ذلك التمييز وتُشَرعِن فقه الجهاد والغنائم ومحاربة الآخر على أساس الدين وغير ذلك من قواعد الفقه الموروث، المجمع عليه سابقاً.
* بعد كل التوضيحات أعلاه، ما هي، إذن، تلك العقدة التي حملت جماعة الحلو وعبد الواحد وآخرين للإصرار على علمانية الدولة، رغماً عن ما أوردناه من أدلة تثبت قبول أنصار الإسلام السياسي "بمبادئ العلمانية"؟ الإجابة هي ذلك الإصرار من قبل الإسلامويين على تطبيق الفقه الإسلامي الموروث في مجال المعاملات، وبالأخص العقوبات الحدية التي زج بها نظام مايو في القانون الجنائي، وذلك لأسباب سياسية محضة تتعلق باستغلال العاطفة الدينية للشعب، وتصوير خصومهم بمظهر المعادي للدين، ومن ثم استغلال تلك العاطفة والتسلق عبرها لسنام الحكم.
* والحال كذلك، فإنه يمكننا دحض مزاعمهم تلك بكل ارتياح، استناداً على ما أثبتته تجربتهم، واعتماداً على أقوال وأفعال قياداتهم. في تقديرنا، أن إلغاء قوانين سبتمبر وتعديلاتها، من أجل مصلحة البلاد وشعبها، وفقاً لما سيأتي من حيثيات؛ إضافة إلى وضع قيود دستورية تضمن عدم اللجوء مرة أخرى لديها، سيحرر القوى المتطلعة للسلام والحكم المدني الديمقراطي، من الخوف والتوجس من إلغائها، ويجرد إسلامويو المؤتمر الوطني من كرت الضغط والابتزاز الرئيسي لديهم.
* لقد تجاوز القانون الجنائي لعام 1991، الذي وضعه وطبقه الإسلامويون، الكثير من المبادئ والأحكام المُجمَع عليها فقهياً والمسنودة بنصوص واضحة من الكتاب والسنة، لرفع الحرج عنهم نسبة لاختلاف الأزمان وتبدل الظروف. من أمثلة ذلك، مساواتهم بين المرأة والرجل في الشهادة وفي الدية، ومساواة المسلم وغير المسلم فيهما؛ كما من أمثلة ذلك وضعهم لقيد في تعريف السرقة الحدية لم يرد فيه نص من الكتاب أو السنة كما لم يرد في فقه المذاهب الأربعة، حيث أضاف القانون الجنائي لعام 1991 في المادة 172 الخاصة بمُسقِطات حد السرقة شرطاً مطاطاً يدرأ الحد عن أي سارق تقريباً، وهو اذا كان الجاني في حالة ضرورة ولم يأخذ من المال إلا بما لا يجاوز النصاب فوق كفاية حاجته أو حاجة من تجب عليه نفقته للقوت أو العلاج. فإن كان رفع الحرج، والنظر في مصلحة الناس، ومراعاة تغير الأزمان، موجباً لتجاوز مبادئ فقهية مسنودة بنصوص واضحة، فتعطيل عقوبات البتر والجلد والرجم أوجب؛ حيث أوجد العصر زواجر أخرى لم تكن موجودة إبان عهد الفقهاء الأربعة، لكنها تؤدي الغرض، وفي ذات الوقت تتفق مع المواثيق التي تواضعت عليها البشرية من جهة، وتحقق مقاصد الدين من جهة ثانية.
* لقد خلت، على وجه التقريب، تجربة الثلاثين عاماً من حكم الإنقاذ من تنفيذ أي مادة متعلقة بالبتر أو الرجم أو القصاص في الأعضاء؛ وقد كان الاستثناء الوحيد هو عقوبة الجلد، والتي استخدمت في الواقع لإذلال الناس أكثر من كونها تطبيقاً للشرع؛ فقانون النظام العام الذي كانت تمارس من خلاله، ليس لديه مرجعية شرعية مقبولة، حيث لا يوجد نص ديني، كمثال، يسمى بالشروع في الزنا. تجدر الإشارة، وبدون الدخول في تفاصيل نسبة لضيق المجال، إلى أن استخدام عقوبة الجلد في حد الخمر، لم تكن موضع إجماع حتى من الفقهاء. بل أن تعريف الخمر ذاتها لم يكن موضع اتفاق بينهم.
* نشير في هذا الصدد إلى أنه، وحتى عقوبة الردة المنصوص عنها في المادة 126 من القانون الجنائي المشار إليه، لم يتم تنفيذها في الحالتين اللتين وصلتا للقضاء، حيث تم التحايل بشكل واضح حتى لا يتم تطبيقهما كما هو معلوم (حالتي السيدة أبرار الهادي والسيد محمد صالح الدسوقي الملقب بالبارون) وذلك درءً للحرج وتفادياً لضغوط الرأي العام العالمي. الجدير بالذكر أن حد الردة هذا ليس موضوع اتفاق على المستوى الفقهي، وفي هذا يمكن الرجوع لآراء الترابي والقرضاوي والعوا، وغيرهم كثير. كما نشير إلى أنه وفقاً للثابت من النصوص والموروث من أبجديات الفقه، فإن الدية في حالة القتل تساوي 100 جمل أو قيمتها (المادة 42 من القانون الجنائي لعام 1991)، إلا أنه لم يجر الالتزام بذلك مطلقاً بالسودان من قبل السلطات المختصة، في مراعاة واضحة لمصلحة شركات التأمين.
* تشير التجربة التركية في مجال القانون، إلى أن التقيد الحرفي بالنصوص المتعلقة "بالشريعة" ليست بأمرٍ ملزم طالما هناك من البدائل ما هو أكثر ملاءمة لظروف العصر ومصالح الدولة وشعبها، حيث بلغ اتساع مبدأ المصلحة لديهم درجة إلغاء حكم الإعدام، وتجريم تعدد الزوجات، تماهياً مع المعايير التي ارتضوها، بدون أن يُتَّهموا في دينهم. لقد تعرضنا للتجربة التركية باعتبار أن تركيا محكومة بحزب سياسي يتبنى نفس أطروحات إسلامويي السودان الأيديولوجية، وظلَّ متمكناً من مفاصل الدولة، وبتأييد شعبي، إلى ما يربو على العشرين عاماً؛ بيد أنه تبنى مبدأ النظر للنصوص باستصحاب سياقاتها الظرفية، مراعياً في ذلك مصالح البلاد والعباد. هذا مع الوضع في الاعتبار أن تركيا أكثر تجانساً قومياً ودينياً من حالتنا السودانية، كما أنها تعتبر النموذج الذي تهفو إليه قلوب الإسلامويين أنفسهم، حيث جعلوها المتكأ الذي يحتويهم عندما ضاقت بهم بلادهم. وفي الواقع، فإن قطاعاً واسعاً من زعماء الإسلام السياسي، كراشد الغنوشي، أقروا بشكل لا جدال فيه على مبدأ فصل الدين عن الدولة، فما هو المسوغ الذي يجعل ممن هم أقل تأهيلاً دينياً وسياسياً وأخلاقياً، مثل جماعتنا هنا، يعرقلون تطور بلادهم وسلامة أرضها وشعبها؟
* الدعوة لفصل الدين عن الدولة تُعَبِّر عن القطاع الأوسع من جماهير شعبنا وقواه الحية، وصلت مقبوليتها درجة المناداة بها من قبل قطاع واسع من الإسلاميين أنفسهم، يأتي على رأسهم المؤتمر الشعبي في وقتنا الحالي، وقد أشارت إليها آراء د. الترابي صاحب الرمزية الأعلى وسط الإسلاميين. بل أن رئيس حكومة الأمر الواقع الحالية المسنودة من قِبَل إسلامويو المؤتمر الوطني، البرهان، سار في ذات الاتجاه عندما وقع على اتفاق مع القائد عبد العزيز الحلو، يحمل ذات المعاني والمضامين، وكان قبلها قد مهر بتوقيعه قانون التعديلات المتنوعة الذي تم بموجبه إلغاء مادة الردة وإباحة الخمر لغير المسلمين، وخلافه. بل أن زعيمي أكبر حزبين سياسيين، قائمين على موروث ديني، قد سجلا مواقف شبيهة وذلك عندما وصف الإمام الراحل الصادق المهدي قوانين سبتمبر بأنها لا تسوى الحبر الذي كتبت به، وعندما وافق الميرغني على تجميد الحدود في اتفاقه مع الراحل جون قرنق.
* لكن، وبعد ذلك، هل يعني ما نقول أن نطالب بإبعاد الدين عن حياة الناس؟ بالتأكيد لا، فالدين هو المؤثر الأقوى على ثقافة الناس وقرارتهم الحياتية، ولا تعني المطالبة بفصله عن الدولة غير وضعه في مكانه الصحيح المستحق باعتباره يمثل الإطار القيمي الذي يحيط بالفرد ويضبط سلوكه، لذا ليس غريباً أن يكون قانون الأحوال الشخصية مستنداً على الدين في السودان تحت مظلة دستوري 1956 و 1973 "العلمانيين" غض النظر عن تحفظاتنا على بعض مواده. وليس غريباً أيضاً أن يكون السجال السياسي والقانوني حول قضايا الإجهاض وزواج المثليين في الغرب "العلماني" يحمل في أحشائه المؤثر الديني، أو وجود أحزاب رئيسية يلتقي أفرادها حول القيم الدينية كالحزب الديمقراطي المسيحي بألمانيا.
* نخلص لنقول أن الوقت قد حان لاتخاذ قرارات شجاعة بشأن تعديل القانون الجنائي، في اتجاه إلغاء العقوبات الحدية، وإعطاء الضمانات المطلوبة بعدم طرحها مستقبلاً، فوطننا ممزق بسببها بينما دعاتها يتمتعون بالأمان ورغد العيش في تركيا الإسلامية التي لا تطبقها عمداً، مراعاة لمصلحة مسلميها، رغماً عن أنها تفوقنا قوة ومنعة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.

gamal.a.salih@gmail.com

 

آراء