العلمانيون واللغة .. التقية العلمانية أو معضلة التوصيل المخاتل (2) !
(التهميش بدأ منذ عهد سيدنا بلال )
أسامة سعيد
(أنا لا احرش الاسلاميين علي صناعتهم وهي قتل خصومهم منذ حروب ما يسمي حروب الردة)
اسامة سعيد
كنت أنوي تخصيص المقال الثاني لإستنطاق وتفكيك بعض مقولات علي حرب ومحمد أركون، تمشياً مع تطلعات العلمانيين في أن تكون محاكمة النصوص وإستنطاقها وإستجوابها هي من الممارسات التي لا يسلم منها نص ، ولكن قررت تأجيل ذلك ، دفعني إلى ذلك نقاش مع الأخ أسامة سعيد القيادي بالجبهة الثورية- جناح مالك عقار . تذكرت مقولتيه هاتين لما تحدث - كما يكرر كثيراً - عن "التاريخ الدموي" للمسلمين الأوائل . فرأيت أنه من المناسب أن أقوم بتفكيك المقولتين والكشف عن مضمناتهما وإفتراضاتهما في سياق ما قدمت له في المقال الأول من الأساليب العلمانية في التوصيل المخاتل الذي يحوم حول المعاني فيؤشر ويومئ ظناً بأن ذلك يجنبهم ورطات كثيرة ، على أساس أن ما فوق السطور محتشم وحذر، وأن الورطة ستتحملها الدلالات الحافة والمحيطة أو الثانوية فيستلمها القارئ الصديق فيُعجب فلا ورطة إذن، بل هي الجرأة والإبداع العلماني في قمته ، أو يستلمها القارئ المتشكك فيكون الجدال معه أسهل لأنه يدور في مساحة ضبابية تسهل فيها المناورات، وذلك بإستخدام العبارات الموحية ذات الحمولة الدلالية التي تتجاوز حدود كلماتها، والتي تترك لما بين السطور الجزء الجوهري الذي يُراد إيصاله .
إذا أخذنا المقولة الأولى القليلة الكلمات المشحونة حد التخمة بالدلالات ، وحاولنا استكشاف فضائها الدلالي، وسبر أغوار المعنى وطبقاته، وما يحلق حولها من دلالات حافة ومحيطة، ومن إفتراضات تتأسس عليها، وما تحتويه من مضمنات لا يمكن أن تؤدي أي معنى أو تؤسس لمحاجة بدونها، دون التورط في خطأ فرط القراءة أو التعسف والتزيد ودون إغفال أو تغاضي أو تعتيم ، وذلك بأن تكون المقولات الضمنية مستخرجة من عمود المقولة الصريحة الفقري وجملتها العصبية ، بحيث لا يكون للمقولة الأصلية أي دلالة بدونها، وبحيث لا يمكن نفي صلتها بالمقولة الصريحة إلا بالتبرؤ من الأخيرة ، إذا التزمنا بهذه الضوابط وتفحصنا المقولة، سنجد الإفتراضات والمضمنات التالية : أن يكون سيدنا بلال مؤذن رسول الله (ص) ليس فيه تشريف بل فيه تهميش واضح يمكن التأريخ به لبداية التهميش . وسيدنا بلال كان يرغب في مناصب عليا، وكان مؤهلاً لها .ولا يمكن نفي تهميشه - كأسود مثلنا - إلا بتوليته منصبا كبيراً، وهذا إمتياز يتمتع به وحده بسبب لونه دون آلاف الصحابة غير السود الذين لم يتولوا مناصبٓ عليا، والتهميش كان مقصوداً وكان بسبب لونه وخلفيته الإجتماعية . وبالتالي كان سيدنا بلال يشعر بهذا التهميش لأنه كان راغباً في المناصب العليا ومؤهلاً لها، وبالتالي قبل القيام بمهمته الهامشية على مضض، أو كان درويشاً مغيباً مستلباً - حاشاه - لم يشعر بإستحقاقه للمناصب العليا وبالتهميش وانخدع بالتكريم الشكلي الهامشي !
ولو لم يخلد التاريخ سيدنا بلال ولم يكلفه الرسول "ص" بالقيام بالأذان وبالتالي لم يصلنا اسمه مثلما لم تصلنا أسماء آلاف الصحابة، فإن ذلك كان سيكون دليلاً أكبر على التهميش بل السحق الكامل، والمؤكد أن من بين من لم تصلنا أسماؤهم من الصحابة من هم سود مثلنا ، وبالتالي فإن هؤلاء السود الذين لم يُعطوا مناصب تخلد أسماءهم هم أيضاً كانوا ضحايا هذا التهميش التأسيسي . أيضاً تتضمن المقولة زعماً فحواه أن التهميش ليس طارئاً مستحدثاً تورط فيه المتأخرون من المسلمين الذين حادوا عن طريق الرسول (ص) وصحابته الكرام ، بل هو تهميش مؤسس يستند على وينتج من إتباعهم والعمل بسنتهم، وعلى إرث وتاريخ مجيد يحظى بالتقديس الأعمى والإحترام غير المستحق ، وعلى وعي مأزوم أصيل وضارب بجذوره في عمق الثقافة والدين كما مارسه المسلمون الأوائل وعلى رأسهم نبي الإسلام نفسه (ص)، فوجود سيدنا بلال في هذا الوضع "الهامشي" وعدم حصوله على منصب كبير كان بقرار منه (ص)، ولا يمكن الحديث عن تهميش، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني الظلم والجور والعنصرية، دون أن نحدد الظالم الذي بدأ التهميش وأسس له فجعلنا نعاني منه حتى الآن، وأي محاولة للهروب وتجهيل الفاعل أو توزيع المسؤولية بما يجنب صاحب القرار مسؤولية قراره هو بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على المقولة، فلكي يكون لها معنى يفكر فيه الناس ويستنتجوا وبالتالي يعالجوا ويتجنبوا "الخطأ التاريخي" الجسيم الذي أسس لكوارث تهميشية لاحقة كما يوحي صاحب المقولة، فإن هذه الدلالات الضمنية يجب أن تكون حاضرة، ليتجنب الناس فساداً أسس له الإسلام في نسخته الأكثر مثالية في المخيال الجمعي للمسلمين ! وليبحثوا عن إسلام آخر تؤسسه العلمانية وتشكل قيمه وتحدد شكل ممارساته المرغوبة .
بالنسبة للجملة التانية، فهي تتضمن الإفتراضات والمضمنات التالية:
الإسلاميون الذين نعاديهم ونختلف معهم ونعتبر قتل الخصوم هو صناعتهم ليسو هم فقط تيارات الإسلاميين الموجودة اليوم ، فالتسمية لدينا تتمدد زماناً ومكاناً لتشمل الخلفاء الراشدين والصحابة الأوائل في الجزيرة العربية، والجيوش التي خاضت حروب الردة من الجانب المعتدي هي جيوش الإسلاميين الأوائل ، ولذلك فإن الخلفاء الأربعة وكل الصحابة الذين أيدوا أو شاركوا في حروب الردة هم إسلاميون قتلة بالفطرة .. لذلك إسلاميو اليوم لا يحتاجون إلى تحريض على القتل، فقتل الخصوم هو صناعتهم التي ورثوها من آبائهم الإسلاميين الأوائل : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وغيرهم من الصحابة (رض) . ومعركة نشر الوعي يجب أن تحدد العدو بكل وضوح ، فالإسلام منذ عهده الأول دين قتل للخصوم ،إذن على من أراد أن يستمر في تمسكه بالإسلام أن يبحث عن إسلام غير الذي مارسه الصحابة وأسس لصناعة قتل الخصوم، بحجة الردة بينما كانت في حقيقتها حروب لمواجهة التمرد على الدولة . والتمرد على الدولة، وبالذات تمرد من أُتهِموا بالردة في عهد أبي بكر، هو عمل مشروع ما كان ينبغي مواجهته بأي شكل حتى لو جمع بين التمرد على الدولة والخروج من الدين، أولئك هم الثوار الأوائل أسلافنا الذين نستمد منهم روح الثورة، ولا يخدش وقوفنا مع حكومة الجنوب في حربها على المتمردين عليها في صدقنا ومبدأية تعاطفنا مع أؤلئك الثوار الأوائل ضحايا الإسلاميين، فالتمرد مشروع ولكن فقط إذا كان ضد الأنظمة الإسلامية المتجبرة كنظام أبي بكر الصديق !
في الختام لا بد من الإشارة إلى أن ما أقصده ليس هو محاكمة أسامة سعيد ولا التفتيش عن نواياه، فالرجل كما أعلم مسلم ،وما قمت به هو فقط استجواب واستنطاق لجملتين فقط ،وهما كانتا، بطريقة صياغتهما، كريمتان لا تتأبيان على التفكيك والبوح، وكل ما أقصده هو أن الكلمة مسؤولية وأن الكثير من العلمانيين لا يتعاملون معها كما يجب، ولذلك كما أوضحت في المقال الأول فإنهم في كثير من الحالات يحتاجون إلى بابين أحدهما يفتح النص على آفاق التمرد وخلخلة الثوابت ومحاكمة المقدسات، وآخر للتراجع وإعادة التفسير ،في محاولات للجم أقوالهم وتحجيم ما يشع منها من فيض دلالي كان، إلى ما قبل فحصها وفضح ألاعيبها، هو ميزتها ومكمن "إبهارها" ومثوى "شجاعتها" !
salaby2013@yahoo.com