الفداء والوفاء – ابراهيم واسماعيل

 


 

 

تمر علينا ذكرى الفداء الأكبر ذلك الدرس والامتحان العظيم الذي لا يجلس على طاولته الا النبيين، والنبيون اعلى مقاماً من الصديقين والشهداء والصالحين، لذا يكون الاختبار على قدر هذه الدرجة العالية الرفيعة، فامتحانات الكيمياء والفيزياء والرياضيات الاضافية ليست كمثل ورقة الأدب والنصوص المتطلبة للحفظ على ظهر القلب دون تقليب للعقل وسبر غور تعقيدات الرموز والارقام، هكذا هما عالما الغيب والشهادة يموران بالغث وبالسمين، فلا يُلقّى الحظ العظيم في هذين العالمين الا العظماء ولا يرزح تحت سفح الجبال الا بغاث الطير، وبذات العظمة تكون النتائج والخواتيم للذين افلحوا وقدموا الغالي مهراً للوصول، فالقاعدون يتواضعون درجات مقارنة مع القائمين المشرأبين نحو العلياء، فشتان ما بين التضحية والخزلان، فالذي يضحي يكافأ والمتخازل لا يجد غير المكوث في ارض وحضيض متراكمات اغبرة نعل السابلة والعابرة، والتفاني في سبيل ادراك الغايات النبيلة أمر لا يقوى عليه ذوو الهمم والهامات القصيرة، فالتنازل عن الجسد من اجل سمو الروح من شيم الانبياء.
النبي ابراهيم تضرع لرب العباد ليهبه اسماعيل واسحق وهو مايزال شيخاً كبيراً طاعناً في السن، وقد استجاب له الله، ولك أن تتخيل حب الوالد كبير السن لولده القادم من صلب الضعف والوهن والكبر، كلنا مررنا بمثل هذه التجربة مشاهدة ومعايشة في مجتمعنا الانساني ذي الفضاء الواسع، فالولد الخارج من رحم الغيب بعد طول عناء وانتظار يكون لصيقاً بسويداء قلب الوالد، ولا يمكن لكاهن أن يتصور عظم الحب والارتباط الوجداني بين هذا الأب الحنون وذلك الإبن الفريد، في عالمنا المعاصر يحاط مثل هذا الولد الفريد بحصن منيع من الدعوات الساهرات بأن يحفظه الرب ويباركه، خوفاً وجزعاً من الوالد تجاه فوبيا وهلوسة الكوابيس المزعجة والمحاذير المرعبة المثيرة للمخاوف من فقدان فلذة الكبد، ما بالك يا عزيزي القاريء بنبي الله ابراهيم المغتبط المسرور بمقدم الابن النبي اسماعيل وهو يقول حامداً شاكراً :(الحمد لله الذي وهب لي على الكبر اسماعيل واسحق ان ربي لسميع الدعاء)؟!، هذا الولد الفريد المحتفى بمقدمه الميمون كان محوراً لدوران حركة الكون، ونقطة تحول اكبر من الانفجار العظيم، وكان ذرية من الانبياء والصالحين بعضها متناسل من بعض، وجدّاً للأمة الخيّرة التي اخرجها الله للناس.
سيّدنا ابراهيم عليه السلام يستجيب طائعاً مختاراً لأمر الخالق العظيم بتقديم هذه الدرة النفيسة والفريدة والحبيبة القريبة الى القلب، قرباناً للاله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً احد، ومن المعلوم أن ابراهيم هو رائد الملة الابراهيمية الحنيفية والرائد لا يكذب أهله، ولو كان الرب قد طلب من المُمتَحن (بفتح الحاء) تقديم روحه التي بين جنبيه تقرباً لله عز وجل لكان أهون عليه من بذل روح ولده ذبحاً، ما اصعبها وما اقساها تجربة أن يكون الولد هو محور التحدي، وأن لا يكون هنالك بديل آخر للمقايضة أو المساومة أو التنازل أو التحاور غير التضحية بهذا الولد القريب الحبيب والفريد العجيب، يا له من موقف يهتز له عرش الرحمن ويوم أشد بأساً من يوم وضع الأقدام على الصراط، انظروا الى حجم الابتلاء وهول البلاء وقارنوه بمقامات الأنبياء والرسل، ستدركون السبب والحكمة من وراء وضع ابراهيم على قمة هرم هؤلاء: اسحق وايوب ويعقوب وذي الكفل ويوسف وموسى وهرون وداؤود ويونس وسليمان وزكريا ويحى وعيسى واليسع والياس ومحمد.
جاءت البشرى العظمى والبشارة الكبرى بعد أن قام الرجل الذي حُرّم جسده على النار - يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم – بوضع آلة الذبح الحادة على عنق الولد والنبي الوفي، إنّ وفاء اسماعيل لأبيه لا يعادله أي عمل صالح جاء به الأولون والاخرون من اوفى الاوفياء من البنات والبنين البارين بوالديهم، منذ أن حملت الجودي على ظهرها من نجا من ذكر وانثى من بني آدم ومن الدواب وانقذتهم من الغرق المحتوم يوم الطوفان الأشهر، منذ ذلك اليوم المشهود حتى يوم الناس هذا، لقد حصد صاحب الوفاء جائزة الفداء الكبرى من رب الأنبياء جزاءًا وفاقا، فعلى قدر اهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم، فبقدر الوفاء يكون الفداء، فلتكن مناسبة عيد الأضحى المبارك تذكرة لمن أراد أن يدكر من ارباب الأسر والحكام والمديرين والقادة، وعبرة لكل راع له رعية يقوم على رعايتها يريد الاعتبار، فالمعادلة لها كفتا ميزان متعادلتين ومتساويتين، وكلما عظمت التضحية قابلها بالضفة الأخرى عظم الوفاء.

اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com
19 يوليو 2021

 

آراء