الفنان أحمد الشريف عبود – فى رحاب السماء نودعك والله يرحمك

 


 

 

 

رحلة الحياة مرهونة بوجود الإنسان الذى خلق ليمشي على هذه البسيطة، ليسكن عليها وليعمرها ثم يغادرها تاركها لآخرين يأتون من بعده . لذا فنصيبه فيها حيزاً محسوباً من مساحة واقع لا يتعدى حدوده، منه المحسوس وكذلك الغير محسوس. فشكل الإنسان أو حجم جسمه لا يعنينا فى هذا المجال لأنه قد يتراءى لك الرجل نحيفاً فتزدريه ولكن عندما تتجلى لك حقيقته تجده وفى أثوابه أسود هصور وبالمقابل يعجبك الرجل الطرير فتبتليه فيخلف ظنك وقد يحسب فى صور أخرى الشحم فى من شحمه ورم وقد تحسب البطولة فى من يعلوا صوته تسلطاً سايكوباثياً على الخلق وحقيقة المستور عنه أنه ما هو إلا أجبن الناس إذا جن الليل . فالحياة تكون حلوة عندما تحلوا فيها نفوس من حباهم الله بطيب القلوب وحسن النية وحب واحترام الغير والنفرة لنجدة المحتاج من غير أجر ومقابل وكذلك من خصهم الله بأريحية فى رحاب تلك المساحة الهلامية التى لا نحس بأبعادها الهندسية أو اللونينة لكن تحس بمحيطها الامرئي حواس قلوبنا وبصائر بصائرنا لذلك قد تتسارع أرواح لتتعارف وتأتلف مع أخريات أثناء اللقاءات العابرة التى تجمع هذا وذاك فى إحدى محطات رحلة الحياة طال أم قصر أمدها لا فرق.

لقد سعدت منفرداً أو مع أشقائي بالإخطلاط بخلق كثير داخل وخارج السودان عرباً وعجماً بيضاً وصفراً وخضراً وسوداً فكنا نفرح بلحظات الرفقة مهما كانت قصيرة أو مديدة أو فرصة اللقاء بهم مرة أخرى ونحزن كذلك عندما يحل الفراق ونتوادع. لكن يبقي رنين عجلات القطار وهو يواصل مسيرته يذكرنا بوجوه كم أحببناها عندما كانت فى رفقتنا وكم قد تمنينا بقاءها معنا حتى نكمل ما تبقى من الرحلة سوياً. وعند كل محطة وقوف تطل علينا عبر شباك القطار تلك الوجوه الصبوحة خيالاً محسوساً فيثير كوامن الشجون ويبعث الذكريات الحبيبات من مرقدها صوراً مرئية.

اليوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر ديسمبر تصلني رسالة حررت الساعة الرابعة من فجر نفس اليوم من قبل الفنان التشكيلي أحمد الشريف عبود تتكون من رسالتين متتابعتين ؛ فى الأولى يدعو مترحماً على زميلهم عبدالله أحمد البشير (بولا) كما لن ينسي أن يضم والداه ومن لهم حق عليه فى ذلك الدعاء. الرسالة الثانية كانت بخصوص سيدة إستيقظت من غيبوبة استمرت تسعة أشهر بأحد مستشفيات الرياض فى السعودية بعد أن بالصدفة يقرأ عليها رجل جاء زائراً بعضاً من الآيات القرآنية. والرسالة لأنها تحتوي على بعض المضامين المفيدة طلب مني إرسالها للآخرين علهم يستفيدون منها.

بعد ساعة فقط من مطالعتي لتلك الرسالة تصلني رسالة عاجلة من الأستاذة هدى أحمد شبرين إبنة شقيقتي تقول "لا حولا ولا قوة إلا بالله الفنان أحمد الشريف توفى هذا الصباح بمنزله! إنا لله وإنا إليه راجعون".

وقع علي الخبر المحزن وقوع الصاعقة! حزنت كل صباحي ويومي فقد عرفته وأحببته وأسرته المكونة من زوجه السيدة إلهام التى كان يحبها وتحبه وأصدقائه التشكيليين الثلاث الزبير وأحمد الصديق والأستاذ محمد حسين الفكي. كانوا يمثلون شلة فريدة منسجمة تعطر الأجواء بالحب والترفع والذوق الرفيع سلوكاً وتعاملاً مرموقاً وحضارياً . مستوى رفيعاً لا يبارى. كان أحمد الذى عرفته من ذلك النوع من البشر الذى تحسبه ملاكاً يسير بين الناس على الأرض. ترتاح له النفس من أول وهله وتصادقه للتو بدون الضرورة للبحث عن مصادر ومراجع تعزز مكانته فهو عزيز بطبعه ولوفاً هيناً ليناً ودوداً سمحاً كريماً هاشاً باشاً مخلصاً لأساتذته وزملائه . إضافة إلى نجاحه كفنان تشكيلي ذو إتجاه فني خاص به فى الرسم له أيضاًقدرات فنية لا تقدر فى مجال التصميم والطبخ والطب البديل وثقافة عامة فى التراث والترحال . كان يعاني من تداعيات مرض السكري الذي جعله يصارع السفر من مركز إلى مركز ليجد فرصة غسيل تعويضاً لعمل كليتيه وقد توقفتا عن العمل سنين عددا. برغمه كان صامداً متفائلاً ( يقع ويقوم) وكان يعد الإنتاج الحثيث لإقامة معرض أسود وأبيض خلال نهاية هذه السنة فقال لى قبل أسبوعين "حتى الآن جهزت خمسة عشر عملاً" .ولكن لرحلة الحياة قدر معلوم ونهاية قد تفاجئ المسافر من غير إنذار وقد كانت اليوم الجمعة الجامعة يوم السعد نهاية رحلة صديقنا أحمد الدنيوية وبداية رحلته السرمدية عبر تخوم السموات والمجرات ليلقى ربه راضياً عنه رحيماً به كريماً عليه ولا يسعنا سوى الدعاء لك يا أحمد وإنا على رحيلك والله لمحزونون. اللهم أغفر له وارحمه واجعل الفردوس مسكنه وصبر المكلومة زوجته الفاضلة السيدة إلهام التي كانت بعطبرة لزيارة شقيقتها وللأسف لم تحضر وفاته ولا حتى دفن جثمانه. العزاء لأصدقائه المذكورين أعلاه وغيرهم من زملائه وتلاميذه وأسرته. إنا لله وإنا إليه راجعون عبدالمنعم عبدالمحمود.

drabdelmoneim@yahoo.com

 

آراء