القصة الكاملة عن نجاة نجار (2ـ2)

 


 

حسن الجزولي
9 January, 2022

 

الميدان ترفع غطاء الغموض
عن ملهمة من غير ميعاد!.
* التيجاني سعيد يصرح أن (من غير ميعاد) كانت سبباً في علاقة عاطفية فاشلة أخرى أدت لإنتاج أغنية (قلت أرحل )!.
* من نحنحات شيخ وقور كان يتوضأ ولدت المقدمة الموسيقية للحن (من غير ميعاد)!.
* هل توجد ثمة علاقة بين مصرع ملهمة من غير ميعاد وبين دخول الشاعر صومعة تصوفه؟.
* هل وفد التيجاني سعيد من الفلسفة للشعر ،، أم العكس هو الصحيح؟!.
حسن الجزولي
مقدمة:ـ
عندما كنت أتجاذب أطراف الحديث مع الصديق الشاعر محمد نجيب محمد علي، وصلت بنا المؤانسة لبعض شعراء الأغنية العاطفية وإبداعهم فيها، فتناولنا من بين هؤلاء الصديق التيجاني سعيد ـ وتربط صلة قرابة بين الشاعر والشاعر ـ أي بين محمد نجيب والتيجاني سعيد حيث هو ابن خالته، فنقلت له محاولاتي الفاشلة في الوصول لشخصية ملهمة التيجاني سعيد في رائعته (من غير ميعاد) وبأني حاولت معه كثيراً التعرف من خلاله على تلك الشخصية، إلا أنه لم يفصح عن أي شئ مستعصماً بالصمت، فأسر لي نجيب بأنه يعلم قليلاً عنها!، وعندما طالبته بالمزيد من الايضاحات نفى أن تكون لديه معلومات مكتملة حول اسمها ومن تكون، سوى أنه يعرف أنها من بنات الحارة السادسة بمدينة الثورة، وقال أنه سمع (طراطيش كلام) بأنها تعيش خارج البلاد، والبعض يقول أنها تسكن حلفاية الملوك وآخرين يشيرون إلى أنها رحلت قبل سنوات طويلة، مشيراً لحوار صحفي أجراه مع الشاعر التيجاني الذي حاول فيه الكشف عن تلك الملهمة ولكنه فشل هو الآخر!، ودلني على الحوار المنشور بصحيفة السوداني. في ذاك الحوار لم يفصح التيجاني ولم يشف غليلي، سوى أنه عمق من تساؤلاتي وأعلى من درجات حب الاستطلاع والتشوق والاصرار على سبر غور تلك الملهمة وغموضها الساحر!، وهكذا تركني تيجاني أدخل في مغامرة البحث المضني عن ملهمته التي أدهشت كلمات القصيدة التي كتبها فيها مستمعيها عند تقديم وردي لها في العام 1968، وذلك لما تحمله من مضامين شعرية جديدة في المفردة وناعمة في الرومانسية، وهو ما حدى بوردي للاعتناء بلحنها حداً أصبحت فيه إحدى أبرز أغنيات السودانيين العاطفية!.
***
يحكي التيجاني سعيد عن جوانب من وقائع تلك القصيدة الرومانسية البديعة قائلاً أنه كتبها وكان وقتها طالباً في السنة النهائية بالثانوي!، وأن القصيدة وصلت وردي عن طريق الصحف عندما نشرها الشاعر محمد يوسف موسى على صفحته الفنية التي كان يحررها، وأن التيجاني لم يصدق أن وردي سيغني له، لذا تهيب مقابلة وردي أو التعرف عليه، وقد تم ذلك بعد تقديم الأغنية، حيث وما أن وقف التيجاني أمامه بنادي الفنانين مقدماً نفسه له، لم يصدق وردي وأخذه بالأحضان ومازحه يقول (لو كنت عارفك شافع ما كنت غنيت ليك)، ويوضح تيجاني أن للأغنية وقع خاص عليه حيث هي التي قدمته للناس والمجتمع وبها استطاع أن يتربع على عرش القصيدة العاطفية جنباً لجنب مع كبار شعراء وردي، يقول أن كثيراً من الشعراء والمطربين الذين قدمه وردي لهم في ذلك اليوم أبدوا اعجابهم بالقصيدة وشجعوه وفي مقدمتهم الشاعر اسماعيل حسن والفيتوري وصلاح أحمد إبراهيم كما أبدى إعجابه به كل من الكاشف وأحمد المصطفى وصلاح بن البادية الذي أوصاه مداعباً بألا يحتكره وردي كما احتكر اسماعيل حسن!. وقد اعترف الشاعر التيجاني سعيد بأن (من غير ميعاد) كانت سبباً في علاقة عاطفية فاشلة أخرى أدت لإنتاج أغنية (قلت أرحل ) الذي قال عنها أن قصتها ستروى بعد أن يموت!.
وأما عن لحن من غير ميعاد فقد أشرت لما حدثني به الراحل وردي ذات أمسية عطرة معه، أبان لي فيها كيف أنه أتى باللحن المتفرد، وقد نشرته في مقال صحفي أوضحت فيه:ـ أنه في نهاية ستينات القرن الماضي، وتحديداً في عام 1969 والشاعر المغمور وقتها يستعد كطالب في المرحلة الثانوية لآداء إمتحانه للشهادة السودانية، في هذا الوقت تحديداً أمكن للمطرب الراحل محمد وردي أن يقرأ قصيدة بديعة منشورة له في مجلة الاذاعة والتلفزيون والمسرح وقتها، قرأ وردي المقطع الأول من القصيدة ، ثم الثاني، وعندما وصل لمقطع في القصيدة يقول:- "صحيتي في نفسي الوجود ورجعتي لعيوني النهار" عاد مرة أخرى لقراءة مقاطع القصيدة بتمهل وإعجاب، هنا أحس الموسيقار محمد وردي وبحسه الموسيقي العالي بطعم الشعر المموسق يجري بين سطور ومقاطع القصيدة، في هذه اللحظة قرر محمد تلحين وآداء هذه القصيدة التي عرفت فيما بعد باسم "من غير ميعاد" لشاعرها التيجاني سعيد. يوضح لي الخال والصديق محمد أنه لم تكن هناك سابق معرفة بينه وبين الشاعر، بل أن الشاعر نفسه لم يكن معروفاً في الوسط الفني الذي كان يحتشد بأسماء كبار شعراء الأغنية العاطفية كمحمد يوسف موسى والحسين الحسن ومبارك المغربي وحسين بازرعة وإسماعيل حسن وإسحق الحلنقي وغيرهم، فلم يكن التيجاني نفسه وهو يكتب تلك القصيدة يتنبأ بأنها ستلحقه بقائمة كبار شعراء الأغنية العاطفية، بل لم يكن في الأساس يخطط أو يحلم بهذا الأمر!. يحكي محمد عن الظروف التي لحن فيها أغنيته البديعة "مين غير ميعاد" قائلاً أنه وبمجرد أن قرأها في تلك المجلة ظل محتفظاً بذلك العدد لفترة طويلة تحت وسادته دون أن يجرؤ على الاقتراب منها مرة أخرى، ولكنه كان قد حفظها عن ظهر قلب، وظل هذا الأمر سائداً لفترة طويلة نسبياً. فقط كان يعود لقراءتها مرات متعددة دون أن يفكر في التخطيط لوضع أي مشروع لتلحينها، مؤكداً أنه قام بتلحين وتقديم بعض القصائد التي استلمها بعد حصوله على نص قصيدة التيجاني، وحول قدراته في التلحين صرح مرة خلال حوار صحفي لي معه بأن تلك القدرات قد تصل به درجة أن يلحن حتى مقالاً صحفياً مطولاً! وقال أن للحن أغنية من غير ميعاد قصة طريفة مفادها أنه كان في رحلة عودة من مدينة ود مدني، حيث كان في زيارة لأسرة زوجته الراحلة السيدة علوية رشيدي، فقد توقف بهم البص في إحدى الاستراحات على الطريق السفري بين مدني والخرطوم، وقال أنه اختار طاولة تبعد قليلاً عن زحمة الرواد وطلب كوباً من الشاي مع زجاجة عصير، في الأثناء قال أنه شاهد رجلاً كبيراً في عمره يحمل إبريقاً ويمر بجانبه للوضوء، وقال أنه سمع بعد قليل نحنحات للرجل وهو يتوضأ، وبتلك النحنحات المموسقة، وبحسه الموسيقي التقط محمد أولى مفاتيح لحن (من غير ميعاد)، التي ظهرت من نحنحات الرجل كبير السن، وعلى الفور أكمل وردي الجملة الموسيقية، والتي جاءت فيما بعد كمقدمة موسيقية للحن أغنية "من غير ميعاد" كأحد الأعمال الموسيقية الكبيرة التي أكدت على إبداع وردي وقدرته الموسيقية في بنائه لمشروعه الموسيقي الضخم لفترة السبعينيات التي أنجب فيها روائعه الموسيقية الست " مين غير ميعاد.. بناديها .. جميلة ومستحيلة .. قلت أرحل .. أسفاي ..الحزن القديم"!.
وأما عن الشاعر المبدع فلنتحدث حتى يبين خيط الفجر! ،، أول سطور الملاحظات والأسئلة هي كيف بمبدع بكل هذه الشاعرية الغنائية في قصائده ،، لم يرفد المكتبة الغنائية العاطفية إلا بعملين فقط؟ ( علماً بأن معينه لم ينضب)!.
سألته مرة عن هذه الاشكالية وكان ذلك فترة تصوفه وهجرة للقصيدة العاطفية في ثمانينيات القرن الماضي قبل أن يعود، فنفى أن يكون قد هجر الشعر العاطفي، وفاجئني بقصيدة عاطفية تحتشد بكم هائل من العذوبة والنضارة في مستويات الابداع التي وصلها سعيد ،، وما يزال السؤال يجول بالخاطر بحثاً عن إجابة شافية، لمً يحجم التجاني عن تزيين المكتبة الغنائية إلا بهذا القدر اليسير رغم شاعريته المفرطة ،، هل يكفينا من هذا الشاعر الرومانسي العذب (من غير ميعاد) و(قلت أرحل) فقط يا ترى ؟!.
وبخصوص (تصوف) التيجاني سعيد والذي احتواه لفترة وعن أسباب ذلك، فإنني ومن خلال توقفي على سيرة (ملهمته) الراحلة هئنذا أطرح افتراضاً وربما بحذر وتروي، قد يصدق أو يخيب لا أعلم!.
لقد راجعت الفترة التي صُرعت فيها (ملهمته) بتلك الطريقة المأساوية، وكانت بداية ثمانينيات القرن الماضي، وتحديداً العام 1980، وهي ـ كما أذكر ـ نفس الفترة التي دخل فيها التيجاني صومعة تصوفه!، فهل هناك ثمة علاقة يا ترى بين رحيل الملهمة ودخوله صومعة التصوف؟! أذكر إني طرحت عليه هذه الفرضية دون أن الزمه بالتأكيد أو النفي، ولكنه بدلاً عن ذلك شرح لي مطولاً معنى (التصوف) إعتماداً على معين موسوعيته في التراث الديني وكمتخصص في الفلسفة، وأشهد أنه بذاك الشرح فقد عزز من فرضيتي ووفر لي بالتالي أسباب إقتناعي أكثر بوجاهة ما طرحت بأكثر من نفيه لها!.
جاء في تقديم ديوانه بعنوان (قصائد برمائية) الصادر سبعينيات القرن الماضي:ـ إذا رأيت فناناً سعيداً فعليك أن تشك في موهبته!، هكذا يعلمنا الشاعر الفيلسوف الذي لا يعلم عنه أحد حتى اللحظة أهو شاعر دخل إلى الشعر عبر بوابة الفلسفة، أم فيلسوف دخل إلى الفلسفة عبر بوابة الشعر؟!.
رحم الله الراحلة نجاة نجار ملهمة (من غير ميعاد) وأمد لنا من عمر الصديق الشاعر التيجاني سعيد وأبقاه.

hassanelgizuli3@gmail.com
////////////////////////////

 

آراء