القومية بين النظرية والركام: حالة أهالي غزة

كتب الأستاذ الجامعي د.محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com
في العلاقات الدولية، تُعدّ مسألة القومية (Nationalism) من أكثر القضايا تعقيداً وأهمية، لأنها تمسّ جوهر المادة نفسها — من حيث الفعل ومن حيث التسمية. فالأنسب، في تقديري كباحث في العلاقات الدولية، أن نطلق عليها العلاقات بين الأمم، إذ إن الأمم والسياسة هما خلاصة الديناميات التي تؤلف دولاً للتفاعل داخل هذا الفضاء الأممي أو المسرح الدولي.
وتُعزى صعوبة فهم القومية إلى تداخل مستويين متشابكين فيها: العاطفة والعقل، كما ذهب إلى ذلك بالمر وبركنز (Palmer & Perkins) في مؤلفهما الكلاسيكي An Introduction to International Relations. فالقومية عندهما ليست أيديولوجيا سياسية فحسب، وإنما شعور عميق بالانتماء إلى جماعة بشرية تشغل رقعة جغرافية محددة، تنسج وجودها من ترابها، وتتغذى على رموزها وثقافتها وتاريخها.
وفي هذا السياق، قدّم بالمر وبركنز تعريفاً مانعاً جامعاً للقومية، بوصفها: (شعوراً عميقاً بالولاء والارتباط بجماعة بشرية تشترك في الأرض والتاريخ والثقافة، وتتطلع إلى تحقيق ذاتها في كيان سياسي مستقل يعبّر عنها ويحمي مصالحها.)
فالقومية عندهما ليست مجرد انتماءٍ عاطفي أو شعارٍ سياسي، بل هي رابطة مركّبة تجمع بين الوعي بالذات الجمعية والقدرة على ترجمة هذا الوعي إلى مشروع بقاءٍ وسيادةٍ على الأرض.
هذا التعريف الأكاديمي يجد تجسيده الحي اليوم في عودة أهل غزة إلى مدينتهم المدمّرة. فقد كانت آلة الحرب تسعى لاجتثاثهم من المكان بكل ما أوتيت من قوة: قتل وتجويع وحرمان من مقومات الحياة، وهدمٍ للمنازل وطمرٍ للأحباب تحت الركام. ومع ذلك، فإن عودتهم إلى المدينة ليست فعل تحدٍّ فحسب، وإنما تعبير عن انتصار الارادة على الآلة؛ نصر مستمد من وشيجة العلاقة بالمكان الذي أُريد لهم أن يُقتلعوا منه.
إن ما قدّمه الفلسطينيون في هذا الثبات درسٌ عامر بالعِبَر؛ درسٌ في التمسك بالتراب، وفي الإيمان بأن الأرض ليست رقعة تُسكن، بل كينونة تُصان. وهو في الوقت نفسه درسٌ مُرّ للعرب الذين رأوا المذبحة رأي العين، فازدردوا الخيبة كؤوساً مرة من هول ما جرى: جثث متفحمة، وأجساد هزيلة، وعيون غلبها الوجع والحيرة.
إن ما فعله أهل غزة لا يمكن وصفه بمجرد الاستبسال أو التضحية، فقد جسد وبشكل دقيق ما ذهب إليه بالمر وبركنز في تعريف القومية: عمق الارتباط بالأرض، وتعهد تلك العلاقة بالرعاية المستمرة من رموز الأرض ذاتها — إن كانت الزيتونة، كما في رائعة الشاعر الفذ توفيق زيّاد (على جذع زيتونة) عندما أكد صميمية وحميمية العلاقة حين قال:
حفرتُ اسمي على جذع الزيتونة
كي تبقى الشجرةُ تعرفني*
إذا ما عدتُ يوماً، وإن طالَ الرحيلُ
أو كانت البحرَ المفتوح وسواحله التي تردد سجع صدى الموج بألا فصام بين الماء والانسان، أو الكوفية التي صارت علامةً ثقافية على الذاكرة الجمعية، أو اللغة التي تحفظ الحلم بالعودة كما تحفظ الوجع بالتهجير منذ نكبة ال 48.
في المقابل، يبدو الوجه الآخر من القومية عند الإسرائيليين هشّاً بطبيعته؛ إذ لو تعرّضوا لما تعرّض له أهل غزة من عسف وتجويع وتشريد، لارتدّوا على أدبارهم كلٌّ صوب الموطن الذي جاء منه، فما يجمعهم ليس آصرة العلاقة بالأرض، وإنما مصالح القوة. فبحسب تعريف بالمر وبركنز، القومية تنبع من علاقة حية بين الإنسان والتراب، من تاريخ وثقافة ورموز مشتركة — وهذه جميعها تكاد تنعدم في المجتمع الإسرائيلي، القائم على وعدين كلاهما جزافي:
الأول، وعد لاهوتي قوامه العودة إلى “أرض الله”، تماهى فيه الإيمان بالأسطورة والدين بالسياسة والوهم.
والثاني، وعد سياسي مؤدلج تمثّل في وعد بلفور (1917م)، الذي يصدق عليه القول الخالد: (وعد من لا يملك لمن لا يستحق)
وهكذا، فإن قيام إسرائيل بموجب هذين الوعدين الجزافيين لم يكن نتاج تطور طبيعي لوعي قومي أو لتفاعل جماعة بشرية مع أرضها، بل حصيلة تركيبٍ مصطنع جمع بين الأسطورة والبندقية، وبين الوعد السماوي والانتداب الأرضي.
على عموم الأمر هناك نقطة محورية لا يلتفت إليها الا العالمون بأسرار علم العلاقات الدولية وهي أن إسرائيل وبحسب معيار الدولة الحديثة كما تبلور في صلح وستفاليا (1648م)، لا تُعد دولة طبيعية (Natural State)، إذ لم تنشأ من رحم التاريخ والجغرافيا، بل من خلال الوعدين الجزافيين.
فالإقليم مسلوب، والشعب مُستجلَب من كل فج عميق، والسيادة مرهونة بدعم الخارج — وكلها تناقضات تُسقط عنها شرطها الوجودي الأصيل: أن تكون الدولة تعبيرا عن وعي الأمة بذاتها في أرضها.
ومن هنا يتجلى الفرق الجوهري بين من يحفر اسمه على جذع زيتونة كي تبقى شاهدة على انتمائه في علاقة الرمز بالمرموز. الرمز الزيتونة بما تحمله من دلالات الثبات والتجذر والعراقة، والمرموز الإنسان الفلسطيني الذي يرى في الأرض امتداد ذاته واستمرار اسمه عبر الأجيال. ومن يزرع دبابته مكانها ليدّعي جذوراً لم تنغرس يوماً في التراب.
د.محمد عبد الحميد

عن محمد عبد الحميد

محمد عبد الحميد

شاهد أيضاً

بين جارين كبيرين: السودان على موقد النار

كتب الأستاذ الجامعي د.محمد عبد الحميدwadrajab222@gmail.com في الأول من سبتمبر ٢٠٢٥، انتشى الإثيوبيون في أعلى …