بقلم: بروفسيور عبد الرحيم محمد خبير* أستاذ الآثار والتاريخ القديم – جامعة بحري أثارت الإكتشافات الحديثة للبعثة السويسرية بالسودان عن حضارة مملكة كرمة إهتمام العديد من الباحثين والمهتمين بالثراث السوداني. وأورد أدناه رؤيتي الشخصية عن هذه الإكتشافات ودلالاتها الثقافية والحضارية. أماط اللثام عن حضارة مملكة كرمة عالم الآثار الأمريكي جورج أندرو رايزنر (1913-1916م) الذي قاد البعثة المشتركة لجامعتي هارفارد- بوسطن الأمريكية وكشفت النقاب عن مدينة صغيرة على الضفة الشرقية للنيل على بعد 25كم جنوب الشلال الثالث. وتتميز هذه المنطقة بعدة مميزات أهمها خصوبة الأرض وإمتداد الرقعة الصالحة للزراعة التي تصلها مياه الفيضان المحملة بالطمي كل عام. وإضافة لهذا الموقع الرئيسي فقد إكتشفت مواقع كثيرة توجد بها جبانات وقبور كرمية لعل أهمها وأكبرها موقع جزيرة صاي في أقصى الولاية الشمالية. أما المواقع الأخرى فمعظمها جبانات صغيرة كتلك التي في فرص، دبيرة، أبوصير، توماس ومرجيسة وصرة شرق. تجدر الإشارة إلي أن الحفريات الآثارية في مواقع مملكة كرمة نفذت على مرحلتين: المرحلة الأولي: قام بها العالم الأمريكي جورج رايزنر(1913-1916م). وإهتم بالجبانة وحفر عدداً كبيراً من المقابر في الناحية الجنوبية للموقع الأثري (388 قبراً). كذلك إهتم بالمعابد الجنائزية في الجبانة ووصفها بصورة تفصيلية. وكتب تقريراً عن إثنين منها(ك2وك11) ويعرفان بالدفوفة الشرقية (العليا) ,بالإضافة إلى الدفوفة الغربية (السفلى) الواقعة على بعد 2كلم شرق النيل والتي تتشكل من كتلة ضخمة من الطين اللِبن وسط المدينة. أما المرحلة الثانية من حفريات كرمة فقد بدأت عام 1975م ولا تزال مستمرة حتى اليوم حيث إهتمت البعثة السويسرية إهتماماً ملحوظا بالمواقع المدنية ولكنها لم تهمل الجبانة والأجزاء التي لم يتم التوسع في حفرها في وسط وشمال الجبانة. وبالإضافة إلي حفريات البعثة السويسرية بقيادة البروفيسور شارلس يونيه، فهناك حفريات مهمة للغاية أجرتها البعثة الفرنسية بإشراف بريجيت قراتين في جزيرة صاي التي تعتبر المركز الثاني المهم لحضارة كرمة. وتوصلت هذه الباحثة بعد دراستها للقبور الكرمية إلي ما يعرف بكرونولوجيا (تزمين) حضارة كرمة. وأصبح لدينا أربع مراحل لهذه الحضارة: كرمة القديمة (2500-2050ق.م)، كرمة الوسطى (2050-1750 ق.م) ,كرمة الكلاسيكية (1750-1575 ق.م) فكرمة المتأخرة (1575-1500ق.م). تشير نتائج الحفريات المشتركة للبعثة السويسرية-الفرنسية- السودانية (يناير 2016م) بموقع "دوكي قيل" بمنطقة كرمة إلي إكتشاف حصون دائرية وأبراج ذات قطر كبير أمام قاعة ضخمة. وتتميز تلك الحصون بمداخل ثلاثة أروقة مؤدية إلى داخل المدينة بإتجاه مبنى دائري ذي مساحات ضخمة. ويبلغ طول البوابة(23) مترا وعرضها (32) مترا من الطوب الأخضر (اللِبن ). أما البوابة الأمامية فهي بإرتفاع (100) متراً مما يجعلها واحدة من أكبر البوابات المعروفة في التاريخ. وأكد المكتشفون أهمية هذا الكشف الأثري ووصفوه بأنه "عظيم" وسيسهم في توضيح عمق الحضارة السودانية. ولعل أكثر الإكتشافات الجديدة إثارة ما صرح به عالم الآثار السويسري شارلس بونيه في محاضرته العامة بجامعة النيلين (9/فبراير/ 2017م) حيث كشف النقاب عن إكتشاف ثلاثة معابد جديدة بموقع "دوكي قيل" على بعد كيلومتر من مدينة كرمة حيث يجري بونيه وفريقه حفريات منذ عدة عقود خلت. وأشار إلي أن هذه المعابد مستديرة وبيضاوية الشكل تؤرخ للفترة ما بين 2000-1500ق.م. ولفت بونيه الإنتباه إلي أن هذه المعابد ليست شبيهة بالمعابد المصرية أو الكوشية (النوبية) سيما وأن الأخيرة تتسم هندستها بالأشكال المربعة أو المستطيلة. وإضاف قائلاً" أن هذا النمط من المعابد (المستديرة) لا يعرف عنه الكثير في العالم لإجراء مقارنة. ومن شأن هذه المعابد الكشف عن أسرار جديدة بشأن الحضارة الأفريقية". وفي تقديري، أن نتائج الحفريات المتلاحقة وبخاصة الأخيرة للبعثات الأجنبية (السويسرية والفرنسية) أمدت الباحثين بمزيد من المعلومات التي تؤكد أن كرمة التاريخية هي مملكة كوشية (نوبية) وليست محطة تجارية يديرها حاكم مصري أسماه المكتشف الأول لهذه المملكة جورج رايزنر بـ(هبزيفا Hapzefa) .وأن هناك تنظيماً سياسياً إجتماعياً معقداً لدولة كبيرة وليست فقط دولة – مدينة (City- State) كما إعتقد بعض الباحثين في وقت سابق وقبل معرفة الكثير عن الإمتداد الجغرافي لهذه المملكة الكوشية الرائدة. لعبت هذه المملكة بمنطقتها الخلفية الغنية بالثروات (الحيوانية والمعدنية "الذهب") دوراً كبيراً في التاريخ السياسي والإقتصادي لوادي النيل والعالم القديم. وتعتبر كرمة أول بناء سياسي مؤسسي تحت سلطة مركزية جمع السودان القديم "كوش" في وحدة ثقافية وقوة إقتصادية يسندها جيس نظامي دخل به المعترك العالمي. وتشير السجلات التاريخية (باللغة المصرية الهيروغليفية إذ لا توجد لغة مكتوبة لكرمة) أن لهذه المملكة صلات تجارية وعلاقات دبلوماسية لم تقتصر على مصر القديمة بل تعدتها إلي بعض أقاليم حوض البحر الأبيض المتوسط الشرقية (الشام وفلسطين). وكان على رأس هذه المملكة حاكم محلي عرف في المحيط الدولي حينها بإسم " حاكم كوش" يقف على قدم المساواة بين الدولتين اللتين حكمتا مصر وقتها: دولة الهكسوس الآسيويين (1674-1667ق.م) وحكمت كل من الدلتا ومصر الوسطى وعاصمتها عند تل الضبعة (أفاريس) ودولة الفراعنة المصريين(الأسرة السابعة عشرة ,1650-1552 ق.م) وإمتد نفوذها بين قوص (مصر الوسطى) وألفنتين (أسوان) وإتخذت مدينة طيبة (الأقصر) عاصمة لها. ومما سبق إيراده، فإن كرمة (المملكة والحضارة) تعتبر أحد أبرز الحقب التاريخية المفصلية ليس في السودان ووادي النيل القديم فحسب بل في كافة أرجاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إذ تحمل كل مقومات الدولة التي تجسدت في بنية جيو-سياسية مؤسسية ومشروعية سلطة عبر أطوال التاريخ الكرمي الممتد من منتصف الألفية الثالثة وحتى منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد. تنويه: جزيل شكري وتقديري للصحفي السوداني صلاح الدين مصطفي (صحيفة القدس العربي – لندن) الذي راسلني في وقت سابق طالباً منى إبداء الرأي العلمي عن نتائج الحفريات الجديدة لمملكة كرمة. .وسأفرد في وقت لاحق حديثا مفصلا عن المقولة المنسوبة لعالم الآثار الفرنسي شارلس بونيه وفحواها أن الحضارة المصرية الفرعونية ترجع جذورهاإلى بلاد النوبة بشمال السودان.
موقع كرمة المدينة التاريخية –الدفوفة بروفيسور عبدالرحيم محمد خبير khabirabdelrahim@gmail.com