المهاجر الأفريقي في الغرب: أهو كالمستجير من الرمضاء بالنار؟ (2)
8 May, 2009
في مقال سابق تعرضت لحال المهاجر الأفريقي في العالم الجديد، وذكرت ضمن ما ذكرت كيف أنه – علي وجه العموم- أكثر صحة وعافية من "أهل البلاد" من البيض و السود والصفر أجمعين. وعلق علي هذه الحقيقة – مشكورا- قارئ مثقف و كاتب حصيف وزراعي مجيد هو الأستاذ/ الأمين أحمد والذي كتب إلي يقول إن السبب في ما ذكرت قد يعزى للمناعة الموروثة والمكتسبة التي تنتج عن تكوين أجسام مضادة بسبب العيش في بيئة تكثر بها الميكروبات والطفيليات والمخاطر والملوثات في الماء والطعام وفي البيئة المحيطة بوجه عام، فيقوى عود الطفل منهم ويشب صحيحا منيعا. وذكر هنا مقولة نسبها لمستر آدم فضل الله سالم أخصائي الكسور والإصابات بمستشفى سوبا الجامعي، كان دوما يرددها وهي: أن "الشماسة" وأطفال الشوارع حسب ملاحظاته كانوا حينما تجرى لهم عمليات جراحية أو يصابوا بكسور، كانوا يبرؤون ويشفون بأفضل من غيرهم، وكانت عظامهم تجبر بصورة أجود وأسرع رغم هزال بنيتهم واتساخ أجسادهم وضعف تغذيتهم، بعكس ما يحدث عند من هم أكثر عافية وصحة منهم ممن يتمتعون بالغذاء و الدعة. و شبه الأستاذ/ الأمين ذلك بعملية ال "hardening"، وهي عملية تجرى للشتول وهي بعد غضة طرية تلقى رعاية وعناية وظل في المشتل، لكن حينما يتقرر نقلها إلى الحقل، تجرى لها عملية الهاردننق هذه بوضعها لبعض الوقت في شمس حارقة مع عدم إمدادها بالماء، وقبيل أن يصيبها الإرهاق الشديد تعاد مرة أخرى إلى المشتل ثم تنقل بعد ذلك إلى الحقل نهائيا وهي قد اكتسبت القدرة على معايشة الظروف الصعبة في مستقرها الجديد. هذا ما أفادنا به – مشكورا- الأستاذ/ الأمين أحمد، و رأيت أن أشرك فيه القراء الكرام فتعم الفائدة.
وبناء علي ما توفر لنا من ما هو منشور عن الصحة الجسدية والنفسية للمهاجر الإفريقي في العالم الجديد وفي أوروبا العجوز (وبالتحديد في إيطاليا) تبين لنا أن هنالك شيئا فاسدا متعفنا، ليس في الدنمارك (كما جرت العبارة الشكسبيرية)، بل في إيطاليا. فلقد نشر (بتمويل من وزارة الصحة الإيطالية) الباحث الإيطالي قيالدو روسو و زملاؤه في جامعة فيرارا مقالا في "مجلة طب الترحال" العدد 16 لعام 2009م عن صحة المهاجرين لمناطق بولونيا في شمال إيطاليا ذكرت فيه بعض المعلومات الغريبة عن هؤلاء المهاجرين، والذين كان معظمهم من السنغال والمغرب وتونس وباكستان أيضا. فلقد وجد أن البدانة (خاصة في منطقة البطن) فاشية وسط المهاجرين من المغرب، و كان أكثر من خمس عدد ذكور السنغاليين مصابين بارتفاع في ضغط الدم، وكانت المقاييس الجسمية لمعظم هؤلاء المهاجرين تختلف جدا عن ما هو معروف ومشاهد في سكان تلك البلاد الأصليين. و قبل ذلك نشر الدكتور دومينجيز (مع آخرين) من جامعة باليرمو بإيطاليا في عام 2008م بحثا في مجلة "الأمراض الإثنية" جاء فيه أن حالات ارتفاع ضغط الدم والأمراض القلبية الوعائية الأخري عند الأفارقة الذين يهاجرون لأوربا الغربية أكثر شيوعا وحدة من حالات تلك الأمراض عند الأفارقة في ذات العمر، الذين آثروا البقاء حيث هم في قارتهم "الحبيبة"! فكأنه بذلك يؤيد من طرف خفي مثلنا الشائع الذي يذهب إلي أن "من فات داره قل مقداره"! فهو يقول إن بحثه يثبت أن "من فات داره ارتفع ضغط دمه"، فطوبي لمن بقي في بلده الأم! و عزا الدكتور الإيطالي و زملاؤه تلك النتيجة إلي تغير نمط العيش والحياة، حيث "يرتاح" أولئك الأفارقة المكدودون وتزيد أوزانهم (خاصة في منطقة وسط الجسم) لإدمانهم علي أكل الطعام الرخيص نسبيا والمحتوي علي سعرات حرارية عالية لا تستهلك – كما هو الحال في القارة السمراء- في الكد و الجري من أجل لقمة العيش (التي غالبا ما تكون طعاما نباتي الأصل أكثر صحة مما يتناوله الفرد الفقير في أوربا مثلا)، وكذلك لتعودهم علي شرب الكحول والتدخين وغير ذلك من "المفاسد". وأثبت أولئك الأطباء الطليانة بالأرقام التي لا تكذب أنه كلما امتد بقاء المهاجر الإفريقي في بلده كلما ازداد وزنه وتضخمت كرشه وقلت حركته العضلية، فيعلو ضغط دمه ويزداد خطر إصابته بأمراض القلب والشرايين وغيرها مما يعرف الآن بالمتلازمة الإستقلابية (metabolic syndrome)، حيث تزداد معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم و تركيز السكر وارتفاع مستوي الدهون (الرديئة) في الدم!
وقد يقول قائل إن تلك "مؤامرة دنيئة" من صنع أولئك الفاشست السابقين واللاحقين الذين ما زالت فيهم بقية من فاشية عنصرية، إذ لم يجد هؤلاء سببا أو قدرة على طرد جيوش "الجراد الأسود" القادم من الجنوب المتخلف، فتفتفت عقولهم الماكرة عن حيل شيطانية تلبس لبوس العلم وتتدثر برداء الطب لإبعاد المهاجرين السود من ديارهم بدعوى أن نمط العيش الجديد الذي "سينعم" به معهم أولئك السود الجياع وملايين اللترات من الجعة، مع أطنان المعكرونة وتلال البيتزا التي سيفترسونها سيغير من طبيعة أجسامهم النحيلة التي ما عرفت إلا الجري (حرفيا) خلف لقمة العيش النباتية المتواضعة؛ وهي لم تر طبيبا قط، ولا دخلت جسدها حقنة تطعيم أو حبة دواء، و سيجعل نمط تلك الحياة الحضرية الجديدة من تلك الأجساد (والأرواح أيضا) مرتعا خصبا لسيء الأسقام و مزمن العلل. بيد أن حقيقة تغيير نمط الحياة من حياة ريفية بسيطة يقل فيها الطعام وتكثر فيها الحركة إلى بيئة لا يفعل فيها المرء سوي الانتقال (الكسول) من باب داره بالسيارة إلي مقر عمله المكتبي، ثم العودة والجلوس أو الانبطاح أمام التلفزيون (الصندوق الأبله كما يسميه الغربيون)، و فمه لا ينقطع عن ازدراد الطعام الدسم الحافل بالسكر والدهن أو الملح، كل ذلك لا يؤدي إلا لزيادة الوزن وتضخم الدهون في المنطقة الوسطي من الجسم (ومعلوم الآن أن تراكم الدهون فيها أخطر من غيره من المواضع)، وحدوث الأمراض التي سبقت الإشارة إليها. و في هذا الباب شهد شاهد من أهلها، فلقد جاء في بحث من جنوب أفريقيا نشر في مجلة "الصحة العامة والغذاء" في عام 2002 لعالم/ طبيب اسمه فورستر أن السكتة الدماغية stroke غدت في العقد الأخير مرضا شائعا وسببا مهما من أسباب الوفيات عند سكان مدن جنوب أفريقيا بسبب زيادة معدلات حدوث أمراض ضغط الدم العالي والبدانة وسلوك أهل الحضر غير الصحي في إدمانهم علي (خبز وحشيش وخمر)، بينما لا تزال الأرياف تنعم بنسب أقل من هذه المصائب وتنعم بالتالي بحياة صحية قلما تحدث فيها مثل تلك الأمراض القاتلة. ولعل هذا هو ما يحدث (وقع الحافر على الحافر) عند المهاجرين الآتين من أشد مناطق العالم تخلفا إلى أكثر مناطقه تحضرا. بيد أن ذلك لا يعني بالضرورة أن تكون المناطق المتخلفة أقل حظا في الصحة والعافية من سكان المناطق المتقدمة. وتحضرني هنا واحدة من تلك الرسائل الإليكترونية المتناقلة المرسلة لمئات الأشخاص ممن تعرف ولا تعرف وفيها نصائح طبية، أو وعظ وإرشاد ديني، أو دعوة (خبيثة) لمرافقة حسناء، أو تهنئة بالفوز المزعوم بملايين الدولارات... من تلك الرسائل رسخت في ذهني جملة قصيرة مفادها أننا في عالم اليوم، ومع تقدم الطب (كثيرا) إزدادت الأمراض، فتأمل المفارقة! وتحضرني هنا أيضا مقولة جاءت علي لسان بروفسير (خطير) مختص في مرض السكري، تحدث عن نسب مستوى السكر في الدم الذي بموجبه يتم تصنيف الشخص علي أنه صحيح خال من السكري، أو في مرحلة ما قبل السكري (prediabetic) أو مصاب بالفعل بالمرض (diabetic)، وعن أن تلك النسب ظلت تخفض بانتظام من فترة إلى أخرى، وأن ذلك الخفض له أسباب علمية محضة، وله أسباب ونتائج اقتصادية أيضا علي شركات التأمين الصحي، إذ أن "أصحاب السكري وما قبل السكري" مثل "أصحاب السوابق" يصعب التأمين الصحي عليهم، وقد يتضاعف ما يدفعونه نظير التأمين الصحي مقارنة بالمحظوظين من "غير ذوي السكري"! فتأمل تداخل الصحة والمال في عالمنا الشجاع الجديد.