المواطن .. المواطن أهو كائن هلامي ؟

 


 

خالد فضل
5 January, 2019

 

 

يصيبني الإمتعاض كحالة شعورية في بعض الأحيان عندما أجد حديثا عن المواطن وجمعه مواطنين , وكأنّ المقصود أمر هلامي مثلما نُدرّس أبنائنا في المدارس عند محاولة تقريب مفهوم (الفكرة وتكوينها في العقل) , من ذلك مثلا كتابة أو قول البعض في تصنيف المتظاهرين في الشوارع والمعارضة في شكلها التنظيمي الحزبي وكأنهما ضدين لا يجتمعان , هنالك نوع متعمد من التضليل يبثه بعضهم عبر كتابته وحديثه وهويقسّم ثورة الشعب السوداني الباسلة إلى فئتين : الأولى هي الهبّة العفوية الساخطة التي خرج إليها المواطنون في عطبرة إبتداءا ثم تداعت لها بالخروج الجموع في مدن وقرى أخرى كثيرة , وبين ما نادت إليه القوى السياسية المعارضة من تأييد للمظاهرات وتأكيد على مطالب الثوار بسقوط النظام . فهل هناك في الواقع فئتان حقا ؟ أم أن تعريف المواطن (المواطنيين) يفترض وجودا هلاميا غير محدد المعالم يتحول كل لحظة ليتخذ شكلا مغايرا مثلما تفعل الفكرة , وهذه تجربة يعرفها الكاتبون وهي أنّ لحظة الفكرة قد لا تكون هي الكتابة ذاتها وفي أحيان كثيرة تجد الكاتب يكتب ثمّ يعيد الكتابة ,؛ ليقارب تعبيره فكرته .

في تقديري أنّ المواطن بمفرده وجمعه هو وجود قائم بشكله المادي (جسد) وبشكله المعنوي (روح) وبما يعتمل في دواخله من فكر ومشاعر وإحساس , ولذك يقال إنّ الشاة لا يؤذيها السلخ بعد الذبح , فالشهيد الصادق أو غيره من شهداء ماتوا بالرصاص أو تحت التعذيب الشديد بوساطة أشخاص آخرين , لا يعنيهم بعد مفارقة الروح للجسد إن تم تصنيفهم مواطنين( ساي) أو منتظمين وموالين لحزب سياسي أو حركة عبدالواحد . والشاب الجريح إبراهيم العامل في مطعم بالسوق العربي لا أظن أنّه خرج أو جاءته الرصاصة المطاطية في عقر محل عمله وهو يسعى لتنصيب جبريل إبراهيم وزيرا أو ياسر عرمان مستشارا , كما أنّ مواطنة تهتف في لندن أو هاملتون في كندا أو في لاهاي , لا يمكن الزعم أنّهم مواطنين ساي أو حزبيين معارضين , فالطبيبة تيسير , مثلا لا اظنّها اصطحبت طفلتها عفاف في البرد القارس من أجل أن يتنعّم الأستاذ محمد الخطيب بكرسي رئيس الوزراء . هذا على فرضية أنّ كراسي السلطة نعيم , وهو الآخر قول يحتاج إلى تدقيق أكثر , فارتباط فكرة السلطة بالقروش الكثيرة والمخصصات الوفيرة فكرة يجب تغييرها إلى فكرة أخرى تقول بتقاضي المسؤول لراتبه بناء على أدائه في خدمة المواطنين الساي والمنظمين في منظومات سياسية ونقابية أوغيرها من أشكال التنظيم , إنّ الإصرار من البعض على ربط مواقف السياسيين بجني الثمرة الناتجة من تضحيات المواطنين , تجعل من هولاء المواطنين سُذّج , تُبّع , ليس لديهم القدرة في اختيار مواقفهم بأنفسهم أو متابعة ومراقبة ومحاسبة السياسيين الحزبيين , هذا نوع من الإستعلاء والوصاية لا أجد لها مبررا , فليس هناك مواطن خرج ويخرج في مظاهرة تطالب برحيل البشير وسقوط الإنقاذ وهو خالي الوفاض من رأي , وقليل الحيلة إزاء تلصص الصادق المهدي أو إشراقة سيدأحمد للظفر بالمناصب في حكومة ما بعد الثورة , إنّها محاولات لدق اسفين بين الشعب (المواطنين ساي) وبين التنظيمات السياسية , وهي من الأساليب الأمنية المعهودة ضمن ممارسات فرق تسد البغيضة , فالشعب وشبابه خاصة ليسوا بهينين أو بسطاء تظللهم البلاهة لهذه الدرجة , المطلب الواضح برحيل الطغيان لتغيير وجه الحياة العامة في إتجاه الديمقراطية بكل محمولاتها , التغيير من جُب المظالم إلى فضاء العدالة , من بؤر الفساد والإفساد إلى رحاب النزاهة والشفافية والمحاسبة , من نتن العنصرية والإستعلاء إلى فضاء المساواة والقيم الرفيعة , من حضيض الإستبداد إلى حياة حرة كريمة , هذه المطالب ليست صنيعة حزب أو فرد بل هي مصير مواطنين أسوياء ليسوا أغبياء , شباب على قدر عال من الوعي لا يحتاج إلى وعظ معلّب , كما لا ترهبه هرطقة (خراج الروح ) ادى قوى البطش .

الحقيقة التي يجب قولها بصدق هي أنّ مطالب المواطنين المنظمين في أحزاب وتنظيمات سياسية وغير المنظمين هي مطالب مشروعة , ومعقولة , ومنصوص عليها في الدستور الذي يُفترض أنّ السيد عمر حسن أحمد البشير يحكم بموجبه , فاليخرج علينا أحد من ذوي الرأي المخالف لقولي ليقول لي لا إنّك مخطئ يا أستاذ . هذه مطالب غير واقعية أي خيالية , غير مشروعة أي جريمة , غير دستورية أي تمرُّد . ولا يظنن أحد مثلا أن مطلب سقوط النظام أو تنحي الرئيس ليس مشروعا أو غير معقول . بل هو في الواقع أكثر المطالب مشروعية ومعقولية , فحتى في فرنسا التي انتخب شعبها بالأغلبية الرئيس ماكرون , وصلته الهتافات (ماكرون تنحى) أي أرحل ! ناهيك عن عمر البشير الذي استولى على الرئاسة بالإنقلاب وليس الإنتخاب , فالمواطن الذي ردد ذلك الهتاف ليس ساذجا ينتظر من يقول له إنّ تنحي البشير يعني الفوضى , ألا يلحظ من يرددون هذه الفرية وعلى رأسهم البشير نفسه _اشارته إلى بلدان تسودها الإضطرابات بعد سقوط أنظمة قمعية _ أنّهم بإستدعاء نموذج سوريا وليبيا للتخويف إنّما يقدمون دليل إدانة مسبق لأنفسهم بإعتبارهم مسؤولين عن إشاعة الفوضى حال سقوط حكمهم الديكتاتوري , المواطن الثائر منظم أو غير منظم يستدعي نماذج ثورتي اكتوبر وأبريل السودانيتين , هما أقرب لمزاجه وخبرته, يستدعي نموذج تونس ومصر مؤخرا , وقبلها نماذج الفلبين وأوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية وحتى تحول جنوب إفريقيا السلمي , فلماذا ربط سقوط البشير بنموذج (القذافي / بشار)؟؟؟وهل بالفعل واقع السودان مثل واقع ليبيا وسوريا , وهل خبرة المواطن السوداني في وطنه ونظام حكمه تطابق خبرة الشعبين الليبي والسوري ؟

وهل صفة مواطن تنتفي عن البشير مهما تغطرس وتجبّر , فهو مواطن منظم في حزب المؤتمر الوطني وفي الحركة الإسلامية التي يرأسها وأمانتها العامة لدى الزبير محمد الحسن , والرئيس البشير له أهل ومعارف وصحاب وزملاء على المستوى الإجتماعي كما هو معلوم , ويذهب لأداء واجب العزاء في الموتى وحضور الزيجات والسمايات وغيرها من المناسبات الإجتماعية المستمرة , فماذا يفعل أو يقول إذا ذهب لعزاء في أقاربه وكان المتوفي من ضحايا القنّاصة في الشوارع الثائرة ؟ وكيف تكون حالته النفسية إذا سمع هتاف من الصيوان أو لحظ انقساما بين ذوي القتيل في قبول (الفاتحة منه) أو رفضها , أيأمر أمنه أم يتبرع أمنه بتفريق المعزيين بالبمبان والذخيرة الحيّة والمطاطية وإعتقال الرافضين لرفع أياديهم بالفاتحة مع البشير , لأنّه بغير ذلك سيصبح السودان مثل سوريا وليبيا !! لن يصبح السودان إلاّ في وضع أفضل حالما رحل عن قيادته الإستبداد والقمع والقهر , هذا هو الأكيد والمرجو من شعب عظيم شديد الباس ما بحبسو الترباس وما بشيلو أب كباس .

wadfadul85@gmail.com

 

آراء