الموت الذي نعرفه لا مفر منه

 


 

 

 

 

(1) أولاً أبدآ بالعزاء الحار للأخ والصديق الموقر الدكتور حسن حميدة الذي فقد خلال أسبوعين فى الأيام المنصرمة والدته أولًا ثم تبعها والده عليهما رحمة الله وغفرانه شهداء نحسبهما عند الله إن شاء وهو أرحم الراحمين أن يجعل لهما من الفردوس الأعلى قصراً منيفاً ينعمان فيه خالدين راضياً عنهما ربنا إنه أرحم الراحمين ونعم المولى ونعم النصير.
كانت المفاجأة أن يكتب بالأمس عن فاجعتنا آل الشيخ عبدالمحمود العربي الأخ والصديق إبن خالنا حسن تاج السر المقيم بلندن، وهو غني عن التعريف دبلوماسيا ثم رجل أعمال وخير وبر وصاحباً وصديقاً وفياً لما لا يحصى عدده من خيار القوم من درجة الخفير إلى الوزير. وإن كتب عنا فهو يعبر عن حزن أسرة هو من داخل بيوتها دماً ولحماًً. وجاءت اليوم المفاجاة الثانية وبالصدفة كتابة فى نفس الموضوع سرداً وتعبيراً بليغاً ومشاركة إنسانية بل فى وصف دقيق من قلم الكاتب والأديب البارع والبروفيسور المشارك المحاضر بكليات الطب بألمانيا الأخ الفاضل الوقور المهذب المجامل حسن حميدة. حسن الكاتب الراتب صاحب القلم الجريء بسودانايل والتي هي عرفتني به والحمد لله منذ مدة قاربت العشر سنوات وإن لم نلتق بعد تجدنا عزيزي القاريء نتصل من وقت لآخر ونتشاور فى بعض الأمور العلمية وغيرها. خلاله عرفت فيه إضافة إلى حسن المعشر ودماثة الأخلاق أنه مهتم بشؤن تربية الأطفال وبحوزته أكثر من ثمانمائة قصة من تأليفه وله مشاركات أدبية وثقافية فى نفس المجال تعدت الحدود حتي وصلت كوريا. حسب معرفتي بدكتور حسن ليس هو فقط باراً بالوالدين بل بجميع أفراد العائلة وهو جمل شيل كل هموم الأسرة الممتدة. ومن خلقه الرفيع وتأدبه ونكران ذاته تجده عزيزي القاريء رغم هموم يحملها تهد الجبال يجاملك ويتصل عبر التلفون يسأل عن أحوالك وأهلك خاصة إذا علم أن منهم من يستشفي. كان سنداً قوياً لى عند وفاة أشقائي شيخ مجذوب وبابكر وفى نفس يوم وفاة بابكر يأتيه نبأ وفاة والدته فأخبرني صبيحة اليوم الثاني وهو يعاني فقد الأمً لم ينسى أن يواصل تصبيري واستمر يتابع مرض الشقيق علي . إتصلت به لأخبره بوفاة دكتور علي فحزن ودعا له وشجعني على الصبر وصار يضرب لى الأمثال والآيات القرآنية بهدوئه المعهود. عندما اردت وداعه فاجأني قائلا لى " رحم الله والدي فقد توفى اليوم لاحقاً بوالدتي". أعرف عنه أنه كأن يحضرهما سنوياً إلى القاهرة لإجراء الفحوصات وأيضاً للترويح براً بهما . أما المصائب إذا كشف لنا عنها المستور فنجد أن دكتور حسن قد عاني الكثير من أحزان أسرته المتجددة وقبل رحيل والديه الكريمين رحلت كومضة البرق خلال نهاية العام المنصرم الطفلة النابغة الجميلة ملاذ ابنة شقيقته التي يحبها وتكفل بعلاجها على نفقته بمصر والهند وكان ينوي إحضارها إلي ألمانيا ولكن كان لله شأن آخر. أما والدته أم كلثوم فيقول عنها أنها كانت تتكفل برعاية إثنتين من نساء العائلة وقد عمرن فوق المعتاد ولم تكل أو تضجر بل تخدمهن بكل أريحية. سيفتقدنها وحنانها وخدمتها وإنشاء الله سيكون كل ذلك الرصيد الذي يزيد ويضاعف حسناتها وكنز هو من ضمن زادها المضمون يوم الحساب .

أسأل الله العلي القدير أن يرحم والديك يا أخانا المحترم دكتور حسن حميدة ويجعل الفردوس الأعلى مسكنهما والكوثر الفياض مشربهما وأن يجعل قبريهما رياضاً من رياض الجنة. جزى الله والدك خيراً وهو فى عليائه أسماك حسن فأله أن تكون حسن السلوك والأخلاق والتعامل الراقي فقد كنت ولم تخيب ظن والدك. بارك الله فيك أبناً باراً بوالديك وكل أهلك. البركة فيكم جميعا وجزاك الله عن أسرتنا أحسن الجزاء

(2) الموت الذي نعرفه: الأطباء هم أكثر الناس الذين يعرفون الموت ويواجهونه فى حياتهم اليومية بدءاً من دراستهم الأولية بكليات الطب ثم أثناء ممارستهم أطباء متخصصين أو ممارسين تحت التدريب بالمستشفيات. الموت عند أصحاب الإيمان بالله لواقع وحق وأنه قدر الخروج المحتوم النهائي من الدنيا الذي لا مفر منه وإن تحصن الناس فى بروج مشيدة، ولا أحد يوجد فى الدنيا يحب الموت. أصعب انواع الموت تأثيراً على الأحياء موت الفجأة وكذلك إذا اختار صغار السن أو مريضاً كان يتفاعل مع العلاج بالإيجاب فيتحسن وفجاة ينتكس . فى هذه الحالات الأخيرة يتصدع كيان قصور من آمال عريضة كان قبس نورها الذى يضيء الجوانح يدخل متسللاً خافتاً عبر نافذة الرجاء . هذا النوع الأخير من الموت هو اصعب ما يواجه الأطباء. فى هذه الحالات من واجب الطبيب المعالج أن يتصرف بحكمة عند إخطار ذوي المريض بأن حالة قريبهم قد قاربت نهاية سفرة الحياة ويستحيل شفاؤها. هنا فى العادة أن نقوم بتهيئة كلاً من المريض للإحتضار " إن كان كامل الوعي" وذويه لتحمل وقع الخبر المحزن خاصةً فى حالات السرطان متقدم الإنتشار أو تسمم الدم الذي لا يستجيب للمضادات الحيوية . ويوجد بروتوكول خاص من الأدوية المهدئة تستخدم حتى أن يحين اليوم والساعة الموعودة لخروج الروح. منذ بداية العام المنصرم تفشي مرض الكوفيد الفيروسي وهزم كل إمكانيات العالم وكان هو هادم اللذات الأول من غير منازع، حرٌم الأهل من زيارة مرضاهم وحرم الناس من تشييع الموتى وحتي تبادل العزاء والمواساة كلها صارت عبر الهواتف.

السؤال : هل أي إنسان عندنا فى السودان أو أي بلاد المسلمين الأخري عنده إستعداد لقبول الواقع والتعاون مع الأطباء لكي يقوموا بوقف مواصلة الأدوية والفحوصات لكي لا يتعذب المريض إذا الأطباء يرون أن راحته أفضل من تعذيبه بالإستمرار فى المصارعة مع مرض لا شفاء منه وتدهور مستمر لا رجعة منه؟

سأعرض لك القاريء العزيز هنا حالة من ضمن يومياتنا ( ولا تخلوا من تخصص الأخ دكتور حسن حميدة) ونحن نمارس التطبيب فى إنجلترا ومثل ذلك قد يحدث فى أي دولة من الإتحاد الأوروبي. قبل شهرين جاءتنا عبر قسم الطواريء حالة سيدة إنجليزية فى الخامسة والخمسين من عمرها. تعمل سابقا ً ممرضة مرخصة لكنها توقفت عن العمل نتيجة أحد متلازمات تدهور الذاكرة التى لا يرجى شفاؤها. كانت مشكلتها لدخول المستشفى عدم الأكل والشرب الكافي منذ فترة زاد فيها تدهورها خلال الستة أشهر الأخيرة. كانت تعيش فقط على أكل القليل من الكورنفليكس إذا قبلت ، فنقص وزنها وصارت جلداً يكسو عظاما. وزنها (52 kg) دون مستوى وزن عمرها الطبيعي. إضافة إلى ضعفها العام جاءت فى شبه غيبوبة وعندها جفاف متقدم أدى إلى قصور حاد فى وظائف وعمل الكلى. أيضاً كان عندها باكتيريا فى البول تحتاج إلى علاج بالمضادات الحيوية. بحمد الله تمت السيطرة على إلتهاب البول وتضرر الكلى الحاد ( الفشل الحاد) الذي بدوره تحسن إلى معدلها الطبيعي لكن واجهتنا متلازمة التغذية التى فى مثل هذه الحالة تسمى Refeeding syndrome (إعادة التغذية للذين يعانون من سوء التغذية مع نقصان الوزن بمقدار حوالي عشرين فى المائة خلال فترة ستة أشهر). هذه المتلازمة تحدث عند الذين يصومون فترة طويلة إضراباًً عن الطعام أو نتيجة أمراض نفسية أو عضوية مثل السرطان أو صعوبات بلع الطعام والسوائل عبر البلعوم .....إلخ والقائمة تطول بما فيها إدمان الكحول وغيره. علاج هذه المتلازمة ليس من السهل ويتطلب التعاون من إختصاصي الجهاز الهضمي والتغذية ونسبة الموت عالية عند هذا النوع من المتلازمات. السبب أن الأملاح المهمة لإكمال عميلة التمثيل الغذائي داخل خلايا الجسم ( الفوسفور والماغنيسيوم والبوتاسيوم وحتى ملح الطعام) ينخفض معدل تركيزها داخل الخلايا نتيجة تحولها خارج الخلايا لكثرة السوائل الداخلة للدورة الدموية أثناء تقديمها عن طريق الوريد أو أنابيب التغذية. لذلك يجب فحص هذه الأملاح ومراقبتها بدقة يومياً وتعويضها وببطء شديد . هذا شرح مبسط وموجز لك عزيزي القاريء وايضاً لكي تفهم كذلك أن أسباب الموت ممكن تكون نتيجة سوء التغذية ومن ضمن نتيجة سوء التغذية ومتلازمة الريفيدنق السكتة القلبية إذا فشلت السيطرة على إصلاح خلل معدلات ال electrolytes فى الدم .
تلك المريضة تم عليها تجريب كل ما هو متاح من إمكانيات لوجستية ومهنية وعلاجية لكن برغم كل ذلك ظلت تتدهور وكنت اشاهدها كل يوم يمر تكون هي أقرب إلى الموت. تيم الأطباء الصغار الذين يعملون عندي كانوا يتواصلون كل يوم مع زوجها نسبة لمنع الزيارة وعلمت أنه قد فهم أنها تحسنت بعض الشيء حتى وإن لم يكن تحسن ملحوظ فيستحسن ترتيب خروجها من المستشفى إلى بيوت الرعاية. لكن زوجها قال إنه مستعد لتحمل عودتها لمنزلها إذا توفرت لها الرعاية الإجتماعية . عندما عاودتها صباح يوم الإثنين كانت قد تدهورت أكثر فقلت للطبيبة التي أوكلت لها متابعة علاج وفحوصات المريضة يجب علينا ان نلغي كل الترتيبات السابقة بخصوص خروجها لمنزلها ونوقف كل الأدوية لأنها حسب ما أراها ستودع غالباً اليوم إن لم يكن غداً ولابد من إخطار زوجها ويستحسن يحضر اليوم. إنهارت الطبيبة وسالت دموعها وقالت لي لكنها مش عجوز! قلت لها تشجعي وستتعلمين مواجهة هذه المواقف وسأتصل بنفسي مع زوج المريضة. فعلاً تحدثت معه تيليفونيا ً وكان رجلاً عاقلاً قال لى أولا أسمح لي أن أشكركم كلكم أطباء وطاقم تمريض على مستوى العناية الفائقة التى وجدتها زوجتي عندكم وثانياً أنا أبداً لا استغرب لأنني كنت أراها تقترب كل يوم من الموت خلال الستة أشهر الماضية ، وأنا عملي السابق كان بالمشرحة ومع البوليس ومتعود على مباشرة الموتي فى ابشع صورهم وتقطيعهم لكن يا دكتور عندما يكون الموت فى قريب أو عزيز لك فوقعه آخر!! أسلمت روحها فى نفس اليوم وعندما وصلنا كانت قد عبرت بهدوء فذرف دمعات الفراق أثناء مؤاساتنا له.
أهلنا فى السودان يقولون " الجمرة تحرق الواطيها " أي الذي يطأ عليها. لذلك لا تتوفر فى ثقافتنا سياسة إيقاف العلاج حالة تدهور المريض بل يدفع الأهل الغالي والنفيس ليدخل مريضهم العناية المركزة التي بدورها لا يرجى فيها خير

الشكر للإخوة الأستاذ حسن تاج السر ودكتور حسن حميدة وكذلك لكل من كتب أو اتصل بنا

drabdelmoneim@gmail.com

 

آراء