الوثيقة الدستورية: القراءة والتأويل

 


 

 

ربما لم تحظ وثيقة في تاريخنا السياسي الذي لم يكن تمثل فيه المرجعيات الدستورية والقانونية والوثائق السياسية التي تكون ملزمة التطبيق أو التعهدات السياسية منذ اتفاقية البقط في القرن السابع؛ مثلما حدث ويحدث الآن من جدل لاجب حول مرجعية الحكم للمرحلة الانتقالية أو ما يعرف بالوثيقة الدستورية وما احدثته من ضجة أكثر من أهمية فاعليتها الدستورية السياسية والقانونية وتطبيقاتها الإجرائية في تنظيم شكل الحكم على أرض الواقع. وبدا من مجريات الأمور والأحداث على الساحة السياسية أن هذه الوثيقة أصحبت الحبل الذي يشده الجميع في حمأة الصراع كمرجع لتبرير سياسيات وسلطات اكتسبت بموجبها وأصبح لها صلابة شرعية دخلت حيز التنفيذ منذ تاريخ التوقيع عليها 2019م. وعلى الرغم من أن هذه الوثيقة قد صيغت لتؤسس لتشكيل حكومة الفترة الانتقالية بين مكوني الحرية والتغيير (المكون المدني) والمجلس العسكري (المكون العسكري) وآخرين بين ذلك ليسوا بعسكرين أو مدنيين ولكنهم ممثلون بنص منطوق الوثيقة ويحتكمون إليها كحجة نزيل عنهم كل شبهة.
وما دامت هذه الوثيقة أو العهد او المرسوم أو أي مسمى آخر يحمل صفة الدستورية Constitutionalism ما لم يقتضي السياق معنى أخر بلغة القانون فهي تعني إنها نص دستوري يقرأ لما ينص عليه من عبارات ومفردات تفيد معنى محددا لكل فقرة من فقراته. والنص المدون بحاجة لفعل القراءة حتى تنطق كلماته، وتفهم معانيها، ولا يساورنا شك بأن من يحكمون على هديها الآن قد قرأوا ما ورد في نصوصها حتى أولئك الذين تعسر عليهم القراءة ويستعصي الفهم. ومع ذلك فإنهم ملزمون بوثيقة مرجعية تحتاج عباراتها الى تأويل (تفسير) لا يغيب عن الراسخين في القانون والسياسية وإن لم يؤمنوا بما جاء فيها. فكما تشير ديباجتها فهي نص دستوري ذي طبيعية مرحلية غير دائمة فإعدادها تم للظرف الذي من اجله أعدت توافقت عليه كظرف طارئ للتعامل مع وضع سياسي جديد يستلزم اطاراً دستورياً دون ان يكون بديلاً عما يتفق عليه لاحقا. فالمرحلة ما بين سقوط النظام السابق وقيام الفترة الانتقالية تمثل حيزاً سياسيا ونطاق ولاية Jurisdiction الوثيقة الدستورية. لذلك أول ما اشارت اليه في فصلها الأولى بإلغاء العمل بدستور 2005م الذي ستحل محله الوثيقة الدستورية توافقاً بين كل الأطراف الموقعة مضافاً اليها ملاحقها والمراسيم التي ستصدر خلال هذه الفترة. وبقيام أي ثورة أو تغيير كما يقول الفقه الدستوري يقتضي يسقط الدستور السابق بسقوط نظام السياسي والتشريعي.
وما يدعونا لإعادة قراءة الوثيقة وقد تصاعد الصراع السياسي بين كل الأطراف وجعل منها كل طرف نصا يستند عليه في صراعه ليست اعتماداً على ما احتوته من عبارات واختصاصات هيكلية في إدارة الفترة الانتقالية وإنما تضاد معاني التفسير بين أطراف الصراع. ومن المفارقة أن الجهات التي هاجمت الوثيقة الدستورية في بدايتها بأنها أهملت الدين واللغة العربية إلا أن نصها قد كتب بلسان عربي مبين ويقابله نصها المترجم الى الإنكليزية Document/وثيقة أو Charter/عهد Draft/مسودة مشروع قرار أو غيرها من المترادفات اللفظية ومتقابلاتها في العربية إلا أنها تظل وثيقة لها خصائص فنية في الصياغة وهو الأمر المعتاد في اعداد الوثائق حتى تطابق ما تواضعت عليه دول العالم من وثائق وعهود واتفاقيات وخلافه مما يعد يدخل في إطار القانون والمواثيق والمعايير الدولية المعتمدة. فإذا لم تكن القراءة بقصد الفهم فماذا تعنى؟ كيف قرأت القوى السياسية تلك التي في شراكة الحكم عبارات الوثيقة وكيف فسرت (تأويل) نصوصها. فإذا كانت قراءة النصوص بالتعبير النقدي الأدبي تختلف باختلاف خلفيات القراء فإن النصوص ذات الصبغة القانونية لا تختلف فحسب بل تظل نصوصا قابلة للاختراق لأن العامل السياسي تمتد ظلاله الى النصوص بذرائع تحكمها الرؤية السياسية المتغيرة أو المتصارعة لا منطق النصوص الثابتة.
وإن من اول الأخطاء في تفسير نصوص الوثيقة هي أن الجميع نظر إليها باعتبارها عقد توظيف Employment Contract بالمناصفة في حكم البلاد وليست وثيقة تؤسس لمفاهيم، ومبادئ دستورية ناظمة لأجهزة الحكم والدولة بصورة مؤقتة. ومن هنا أحس الطرف الأقوى (المكون العسكري) بزيادة حصته من نسبة السلطة والقرار أي ممارسة السلطة بقوة الأمر الواقع وإن لم تنص عليها الوثيقة واحكامها. والأمر الثاني ثمة تفسيرات شابها خلط في التفسير والممارسة وافتقدت بالتالي الى الحس السياسي فليست الستة عشر فصلا الواردة بالوثيقة نصوص جامدة لا روح فيها مثل قضيا التنمية والسلام والهامش والكرامة والحرية وغيرها أمور بحاجة الى تدبير سياسي أكثر مما تعنيه العبارات النصية حرفيا. فقد ذهب رئيس مجلس السيادة مؤخراً مقترحاً أو مهدداً بحل مجلس وزراء الحكومة بفهم أن من اختصاصه بنص الوثيقة: تعيين رئيس مجلس الوزراء الذي تختاره قوى الحرية والتغيير والتعيين ليس هو الحل وإلا انعقدت له سلطة رئيس الدولة وليس سلطة مجلس يمثل رأس الدولة ويضم بنص الوثيقة أعضاء من العسكريين والمدنيين وتصدر قرارات مجلس السيادة بالتوافق أو بأغلبية ثلثي أعضائه في حالة عدم التوافق.
وبدلا عن استكمال ما نصت عليه الوثيقة الدستور من تشكيل للمجلس التشريعي والمحكمة الدستورية وعيرها من أجهزة حكم قيد الانتظار، فقد ترّكز الصراع حول سلطات الأفراد وهو ما يعني بالتعبير الدارج صراع المصالح الذي تغذيه اجندة داخلية (الفلول) والتدخلات الخارجية المتحالفة معهم. وكلها لا تعنيها نصوص الوثيقة وإنما مجبرون للتعامل معاها بشكل تكتيكي ريثما تحين فرصة الانقضاض. ومن هنا تمثل الوثيقة الدستورية هاجساً مقلقاً وإن لم يبدوا ذلك.
ومن شأن المراحل الانتقالية في حالات التحول السياسي العنيف أو السلمي البحث عن شرعية نصوص شكلية كانت أو حقيقية ولكن تبقى العبرة في استخدام وتوظيف النصوص التي تعبر عنها الوثائق. وهذا الأمر قد خبرتها أمم سابقة علينا في التنظيم السياسي فبريطانيا التي أسست للديمقراطية البرلمانية في العالم لا يحكمها دستور على شاكلة دساتير الدولة نصا وإنما أعراف شكلت اطاراً دستوريا منبعه يعود الى وثيقة الماجنا كارتا أو الوثيقة العظمى. فسودان اليوم يصعب التعامل مع قضاياه السياسية والاقتصادية والأمنية التي قد لا يمثل وجود وثيقة دستورية مرجعاً أو منظومة قوانين مصدراً للحل ولكن كأخر ما يمكن اعتباره ممارسة الممكن ضمن صلاحيات واردة في نص مدون. فالتنظيم الدستوري - الوثيقة- المطلوب للمرحلة الحرجة نحو الانتقال الديمقراطي لن يكون دستورا لمدينة جمهورية افلاطون في مثاليته الفلسفية المطلقة وإن عرف السودان وجرب أغرب القوانين والدساتير منذ شريعة النميري الى التوالي السياسي في النظام المباد وانتهاء بالمنظومة الخالفة وكلها تنسب الى عراب واحد.
وإن يكن ثمة تحليل للوثيقة الدستورية مقروءة مع واقع الأحداث التي باتت مهددات مباشرة لاستمرار الفترة الانتقالية والتحول الديمقراطي، فإن تداعيات أحداث الفترة الأخيرة والتي عبر عنها رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك في خطابه أول أمس التي كشف فيه عن حجم الانشقاقات بين مكونات الحكم لم تزل الوثيقة الدستورية هي المرجع كل الأطراف أو كما قال: مرجعية التوافق بين مكونات السلطة الانتقالية هي الوثيقة الدستورية، وهي مرجعية يجب أن تحترم وتنفذ نصاً وروحاً، ويمكن مناقشة كل المواقف والقضايا استناداً على هذه المرجعية.
نشر بصحيفة_ الديمقراطي#عدد اليوم الأحد 17/10/2021م

anassira@msn.com

 

آراء