انهيار القلد ومستقبل السلام في شرق السودان ؟ 

 


 

 

وما الحرب الا ما علمتم وذقتموا .. وماهي الا كالحديث المرجم

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة .. وتضرم اذا أضرمتموها فتضرم

 فتعرككم عرك الرحى بثقالها .. وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم

فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم .. كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

تداركتما عبسا وذبيان بعدما .. تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

 زهير ابن ابي سلمي


رياح السموم القادمة من البحر المعجونة بالرطوبة الخانقة تستبيح الأجساد  وتشوي الوجوه كأنها خارجة من براكين اسطورية استيقظت لتوها من سبات عميق معلنة الحرب على كل شيء .. لم ترحم أحدا حتى خيمة العزاء المنصوبة في قلب الشارع الترابي الذي يعلوه الغبار لاستقبال المعزين لم تنجو من وبلاتها ومع ذلك لازالت الخيمة صامدة تنازع مابقى لها من روح  تقاوم بها أشعة الشمس اللعينة لتوفر ماتيسر لها من  ظلال باهتة لا ظهرا أبقت ولا أرضا شقت حتى اذا ما أختفت الشمس وراء الجبال الرمادية المتناثرة في الافق البعيد تسلل الفرقاء ضحايا المواجهات الدامية قبل الأخيرة بين أحد اثنيات البجا وبين البني عامر (القاسم المشترك الاعظم في الحروب الأهلية التي تندلع دون مقدمات كاعاصير الصحاري القاحلة ) تحت جنح الظلام هروبا بأطفالهم من مأواهم في ديم النور (أحد أحياء بورتسودان) بحثا عن ملاذات آمنة في الاحياء النائية .


(2)

 سأقول مابقي لى من روح أهلنا البنى عامرلأن الذين يشعلون النيران الأن ليسوا العظام الذين نعرفهم والذين ربطتنا بهم وشائج من علائق نبيلة كانت تقتات من الملح والعيش الذي جمع بيننا بل قلة ضالة تعزف لحنا نشازا خارج السرب لدمغ هذه القبيلة العريقة بالدم والدموع .. تجسدت هذه التراجيديا في رجل طرق باب منزلى خلال الأيام الدامية يسأل بحرقة عن بيت للايجار .اعتذرت وأنا أتأمل حزينا سيارته المتهالكة وقد حشد فيها أطفاله وزوجته وحماته وما خف وزنه من متاع الدنيا باحثا عن النجاة من كابوس الليلة الماضية .


(3)

 لم يترك لى اللاجيء مساحة لكي أسأله ان كان قادما من غزة وهو يحكي عن ليلة ليلاء عاشها تحت دوي طلقات الرصاص وأعمدة الدخان المتصاعدة في سماء الأحياء الجنوبية طرفاها هذه المرة اثنية الفورو البني عامر كما جرت العادة .تابعته حزينا ممزق القلب حتى اختفى عن الأنظار وهو يبحث عن ضالته والليل يزحف على صدر المدينة البائسة..ترى أين انتهى الحال بذلك الرجل ..هل وجد فجة تأويه هو وأطفاله أم اصطادته طلقة عشوائية طائشة في بلد المليون ميل الذي حوله مجانين آخر الزمان الى أصغر من قد الابرة .


(4)

أنها الحرب التي خلدها الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته التي سارت بها الركبان والتي خاطب بها كلا من الحارث بن عوف وهرم بن سنان اللذين أطفأ نار حرب جرت بين عبس وذبيان رغم ان زعيمي

القبيلتين كانا قد أدخلا أيديهما في عطر منشم ومنشم هذه امرأة عطارة

كان المقاتلون الذين توافقوا على القتال حتى الرمق الاخير يضعون ايديهم في عطرها وفاءا  بالعهد .


(5)

الأنكى والأبغض في هذه الحروب القبائلية التي تعصف بالاقليم ليست النتائج الكارثية التي تنتهي اليها عادة كسفك الدماء وازهاق الارواح واحتراق الممتلكات فكلها مقدور عليها بدفع الديات وجبر الخاطر وتأمين التعويضات اللازمة ولكن ماتعرضت لها موروثات وأعراف عشائرية كانت حجر الرحي في تحقيق الأمن والسلام المجتمعي وأقصد بها القلد والذي يعتبر هدنة بين الفرقاء الذين تتقد في دواخلهم جذوة الحقد والعداء والانتقام..


(6)

 يعتبر القلد في مجتمع  البجا عرفا مقدسا وملزما للجميع والخارج عليه يعتبر منبوذا معزولا مبغوضا يتبرأ منه الجميع. بعد استعادة للهدوء والعقلانية يجلس هؤلاء البدو الاعراب عادة تحت شجرة ظليلة ويعملون عصيهم المحنية الرؤوس في الارض يرسمون بها أشكالا يعرفونها وينتهون الى مخارج وحلول مرضية للجميع لمشاكل وخلافات تقف القوانين الوضعية عاجزة أمامها ..كيف توصل هؤلاء الاعراب الى ضروريات تهدئة الامور بالقلد (الهدنة ) لاطفاء مراجل الغصب في النفوس بالحكمة انطلاقا من حقيقة علمية تقول ان المتوتر لن يحل ولن يريط بل سينجب مزيدا من التوترات مهما أوتي من علم ومعرفة.


(7)

 هذه عبقرية جديرة بالتأمل والدراسة سيما وأن عرابوها ومهندسوها بدو تنتشر وسطهم الأمية وهي نعمة تحفظ  للاقليم هدوئه وتضمن له الأمن والأستقرار . وقد كنت حتى عهد قريب أعتقد بأن هذا القلد صناعة بجاوية لحل وادارة الازمات المحلية الأهلية

                                                                    Management crisis

حتى قرأت مؤخرا كتاب سواكن لمؤرخه محمد صالح ضرار الذي أكد بصلاحيته لحل كل الازمات فقد ذكر ان الوالي العثماني استنجد بناظر الارتيقة في سواكن لاستدعاء طرفي نزاع بين قبائل جهينة ورفاعة في وسط السودان بتطبيق الأعراف المحلية ومنها القلد وبالفعل تم تفعيل الآلية وحل الخلافات .


(8)

الآن تعرضت هذه الأعراف والقيم المقدسة الراسخة الجذور الى هزة عنيفة مزلزلة بعد تجاهل القلد الذي تم ابرامه عقب الاحداث الدامية التي تلت زيارة الامين داؤود الى بورتسودان قبل عامين رغم التحذيرات فقد داست القلة الضالة على القلد ولم يجف حبره بعد بالتورط في جريمة تقشعر منها الأبدان .داست على الاعراف والقيم المجتمعبة  التي تحرم الاعتداء على الشرائح المستضعفة في المجتمع كالنساء والاطفال والعجزة والمجانين والاعتداء الجماعي على رجل وحيد واعتبارهم أهدافا مشروعة وكلها تابوهات عند البجا.


(9)

 كانت جثة الرجل المتفحمة المتيبسة المتكلسة بسبب النيران والتي لم تجد حتى الكلاب الضالة في الارض الخلاء مزعة لحم تقتات منها كافية لذبح القلد من الوريد الى الوريد .. وهذا يعني تجريد هذه الآلية من دورها التأريخي كضامن للأمن المجتمعي بتأشيرة خروج نهائية وهذه خسارة كبيرة لن تعوض رغم التواجد الكثيف للتاتشرات التي تعلو ظهرها مدافع الآربي جي فالهدوء هنا ماهو الا استراحة محارب مدجج بالضغائن يراقب ويتحين الفرص للانقضاض.


(10)

 النتيجة ان الوضع الآن كارثي ملبد بغيوم سوداء رغم احترامنا للأجهزة الأمنية في استتباب السلام فهو أشبه بسفينة تتقاذفها الأمواج والانواء في بحر عاصف لجي وقد تحطمت مجاديفها ولا ندرى متى ستتهشم ومتى ستغرق أو أشبه بطائرة مختطفة تطير بسرعة الصوت وتتعرض لمطبات هوائية خطيرة في سماوات التيه اسمها فقدان الارادة وموت الثقة وغياب الشجاعة ولاندري متى وأين ستنفجر.


(11)

يعلم الله أن هدفي من هذا السرد ليس انحيازا لطرف وليس تجييشا للعواطف ولا تحشيدا للرأي العام ضد فئة في مواجهات عبثية يعرف القاصي والداني أن نهايتها الخسران المبين للجميع في الدنيا والآخرة لأنني بصريح العبارة لا أؤمن بها ..ولكن آن الأوان أن نضع النقط على الحروف لنخاطب العقلاء وثوار الاسافير من الدجاج الالكتروني على حد سواء الذين ملأوا الدنيا ضجيجا وطنينا بأن ارتكاب الكبائر ثم دمغ الآخرين باتهامات العنصرية والقبلية وبث ثقافة الكراهية ورفض الآخرين ما هي الا كلمات حق أريد بها باطل بل هي تجسيد لمثل شعبي قديم يقول (ضربني وبكى وسبقني واشتكى ) ولن تنطلى على أحد  فالنيران ستحرق الايدي القابضة على الزناد وأن الفئة الضالة المتقوقعة حول نفسها لاستعداء كافة مكونات الشعب السوداني ستخسر كل شيء.


(12)

الآن الحاجة ماسة لسلام يرفع رايته من يتحلى بالشجاعة والحكمة ويتسامى على المرارات ويؤمن بصفرية خيار المواجهات لترميم ما أكلته الحروب والعدائيات.. السؤال الذي يفرض نفسه هنا ألا يوجد بين هذه الاثنية أمثال الحارث ا بن عوف وهرم ابن سنان ؟ هل فرغت الساحة من عقلاء يستطيعون تحقيق السلم المجتمعى بعد ان فقدت هذه القلة بوصلتها ودقت بينها وبين الآخرين عطر منشم ؟ ألا يوجد من يجنبنا مشاريع الموت المجاني ..ألا يوجد بينهم رجل رشيد ؟




hassan.abozinab4@gmail.com

 

آراء