بالميرا: (قصة قصيرة)

 


 

 

 

ذو اللحية الشقراء والعينين الزرقاوين ينضح العرق والصرامة من وجهه ؛بعد اقتحام أحد أوكار الباطل ، يشير بسبابته تجاه الرجل ، موجهاً نبرات حديثه لك بغضب : اقض عليه !، رغم كل الصراع الفكري بينكما ، وتلك الانعطافات الحادة والمتباينة في وجهات النظر، لم تشفع لك الأشهر القليلة التي قضيتها تحت الراية السوداء من تغيير نظرته تجاهك ، يصنف كلماتك بأنها تمثل تهديداً فكرياً للمجاهدين ، طنين سؤال ملح يتردد داخل جدران رأسك : لماذا اختارك أنت بالتحديد لتقوم بتلك المهمة ؟ صوبت آلة القتل باتجاه رأسه ، لم تجد توسلات الرجل في اثناءك عن ذلك ، الرصاصة تزمجر في غضب ، يقتلها الصبر وهي على أهبة الاستعداد لانتزاع روحه الشريرة ، ترمق بازدراء تلك السلسلة الذهبية التي تتدلى على أسفل عنقه ، تهمس :(وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) ، حين ارتد إليك طرفك ، ورأيته مستقراً فوق صدره يصرخ ويتوسل في فزع ، مدافعاً ببراءة الأطفال عن خور أبيه ، هاهي ذات اللحظة تولد من جديد ،تتناسل بصور شتى ، هي ذات المأساة الإنسانية ؛ هو إفساد الإنسان في الأرض ، انجذابه لأصله ، لطينته الصلصالية ، لكنك هناك لم تكن جزءاً من الحدث ، وها أنت هاهنا تسهم في صناعته، هنالك كان والد محمد الدرة يدافع عن نطفته ، عن براءتها ..، قوة اصبعك تتراخى شيئا فشيئاً عن الزناد.

طاف عليك طائف من الذكرى ، صرخة وا معتصماه هي من أخرجتك من بيتك كارهاً ،ازهاق الباطل هو طريقك إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، اقامة العدل ومحاربة الظلم وإخماد أنفاسه ؛هو العهد الذي قطعته على نفسك وبايعت عليه ، هو ما حملك أن تدير ظهرك للجامعة العاصمية المرموقة ، بعد أن قالت هيت لك ؛إذعاناً لتفوقك ونبوغك ، كيف تخلد إلى الأرض ويهنأ لك بال؛ وأعراض المسلمين تستباح صباح مساء!؟ وكيف يغمض لك جفن ؛ وصور الجلاد وهو يمعن سيف جبروته في رقاب العزل الضعفاء؟ لم تجد توسلات شيبة والدك ، ولم تثنك ضراعة ضعف أمك، ولا نداءات أرض السمر ، ولا دموع سعاد وقلبها المتبول ، حملت معك كل شجاعة وبسالة قبيلة الجعليين وإقدامهم ومروءتهم، تسربت كما الماء عبر الحدود التركية السورية .
بعد عناء ومشقة عظيمين ،وتحمل صبر المسير والجوع ، وتوخي الحذر من حقول الألغام ونقاط التماس مع الأعداء ،ها أنت تصل مع مجموعة من المهاجرين برفقة الدليل إلى لؤلؤة الصحراء ، معسكر المجاهدين يغلي كمرجل همةً ونشاطاً،كخلية نحل تنظيماً الكل يعرف مهامه وأدواره ، بعد إكرام وفادتكم وأخذ قسط من الراحة ، أطل عليكم بلحيته الكثة الشقراء وعينيه الصغيرتين ، وضفيرتي شعرٍ تعانقان كتفيه ، عرفكم بنفسه، تحدث بعربية مكسرة ولسانٍ أغلف وكلمات مقتضبة : (أبو البراء الشيشاني ، قائد مجموعة الاقتهام والمناوشة ، ستكونون تهت أمرتي وضمن هدود المسؤوليتي ، ستخدعون لتدريبات شاقة هتى تكونوا قادرين على تهمل المهام الموكلة إليكم ) ، بعدها أخذكم الدليل برفقة أحدهم إلى جولة في مدينة تدمر الأثرية ، تسيرون بجانب عشرات الأعمدة الرخامية الضخمة متقنة الصنع ، رأيتم بأم أعينكم المدافن الملكية ، التماثيل تنظركم من جميع الزوايا ، امتلأت عيناك دهشة حد الثمالة لهذا الجمال المتقن ، تبادر إلى ذهنك سؤال : كيف برع هؤلاء القوم في فنون العمارة والنحت منذ مئات السنين؟ يا لعظمة حضارتهم ! زجرت إبليس تفلت عن شمالك ثلاثاً؛ لئلا يتسرب النفاق إلى قلبك وأنت تعظم أصناماً.
وصلتم بعدها إلى مكان فسيح أخبركم الدليل أنها قلعة المعن ، تستطيع ترويض عقلك وترجمة معلومات الدليل واقعاً منظوراً ، ها أنت تراهم يسجدون للثالوث، الإله بعل ويرحبول وعجلبول ، ترى الملكة زنوبيا تجلس ببهاء على عرشها وقد ارتدت حللاً زاهية ،وهي تضع في وقار تاجها المرصع بالذهب والمجوهرات ، محاطة بعزة بالكهنة والنبلاء والعبيد ، ترهف السمع يتردد صدى تراتيلهم وهم يقدمون القرابين في خشوع وانكسار ، قطع أحلام يقظتك أحدهم يأمركم أن تهدموا عزة أحد التماثيل ؛ احتساباً للأجر عند الله ، التمثال لأسد يفترس في قوة ضعف غزالة ، ذات المطارق والأزاميل التي برعت في نحته ، هاهي تنهش جسده من جديد ، شعرت وقتها كأنك أحد الصحابة الفاتحين لمكة .
في مقبل الأيام خضعت اجسادكم لتدريبات عسكرية شاقة ؛تهيئكم لمجابهة العدو ، تنامت خبرتكم القتالية باستعمال الأسلحة وتفكيكها وصيانتها، بالتكتيك العسكري والالتحام والالتفاف والمراوغة ، أضحيتم على أهبة الاستعداد لمجابهة العدو .
العدو قوات الطاغية وأصحاب الرايات الصفراء ، الهدف نقطة انذار متقدمة ، هكذا جاءت كلمات الأشقر قبل الشروع في تنفيذ المهمة ، وشرح التفاصيل الدقيقة لعملية الاقتحام ،عندما أتت ساعة الصفر كنت تسأل الله إحدى الحسنيين ، تذكرت أبيات قديمة في الحماسة لأم تحث ابنها على الموت في ساحات الوغي :
ما ديرالك الميتة أم سواد شح
دايراك يوم لقى بدميك تتوشح
الميت مسولب والعجاج يكتح
أحي على سيفه البسوي التح
أبليت بلاءاً حسناً بشهادة الجميع كنت فارس تلك الليلة ، نُكست الرايات الصفراء وتم احتلال الموقع في زمن وجيز ، أديتم صلاة النصر في خضوع وخشوع ،بت رأس الرمح في الحرب عليهم ،لا تفوتك موقعة ولا غارة ، لكن حين انفتحت كوة أخرى في جدار الحرب ضد المدنيين العزل ؛ بحجة ادخالهم في دين الله أفواجا،رسوخ قناعتك يتزلزل ، لم تخرج من بيتك ابتغاء ترويع الآمنين الضعفاء ، بدأت بأضعف الإيمان وأنت تنافح عنهم ، ثم امتلأ بها عقلك وقلبك حتى فاضت على لسانك نصحاً للمجاهدين ، لم يردعك لين ولا قسوة ولا تهديد ووعيد ، تنأى بنفسك عن كل شبهة نصحاً لله ورسوله والمؤمنين ..،.
قطعت مجدداً النبرة الشقراء حديث الذكريات وهي أشد غضباً، تبدو متسمراً أمامه ، يأمرك بتصفيتهم ، باطاعة التعليمات ، وعقلك الباطن يردد وصايا المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تقتلوا شيخاً ولا طفلاً ، سمعته بأم أذنيك يتلو:( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ) ، انطلقت رصاصة متعطشة للدماء تجاه هدفها .

umeraltayb248@hotmail.com
//////////////

 

آراء