برحيلها رحل الصبر عن ديارنا

 


 

 


كثير من نساء ورجال هذا الوطن تطوى صحائفهم عند رحيلهم من هذه الفانية بذات الايقاع السريع لعالم اليوم ... وقليل من بني جلدتنا من يسعى لتخليد بعض مأثر الراحلين بغية إيجاد تربة صالحة لنمو الخلف. وبدون هكذا جهد ستندثر العديد من كريم خصائل السلف وتصبح أثرا بعد عين. 
ونسبة لضعف ثقافة التوثيق لمآثر الأشخاص يوما بعد يوم وعاما بعد عام أضحت أرض القيم السودانية فاقدة للكثير من خصوبتها وما تزال تستنزف ما تبقي من رصيدها الأخلاقي المتميز لصالح قيم مستوردة من أسواق العولمة المفتوحة الفضاءات. فلا عجب أن صارت أخلاقنا بضاعة مزجاة فيها شئ من سماحة وطيبة أهلنا وكثير من نواقص الأخرين.  فما ظنك - أعزك الله- بهكذا بضاعة إلا أن تورث عمى بعد بصيرة ومسخا بعد أصالة فتزل أقدام بعد ثبوتها.  ولم لا وقد أضحى حالنا يغني عن السؤال والله المستعان.
تذكرت كل ذلك من على البعد وجموع غفيرة من أهلنا تبكي بحرقة حال وداعها لإمراة ظلت ولأعوام طويلة خلت مضرب المثل في الصبر وتجاوز الإبتلاءات العسيرة والمتراكمة والمزمنة وكأن كل تلك المعاناة لم تحل بجسدها يوما أو تقيم بفناء دارها أعواما متصلة. فعاشت جل حياتها معطاءة ومضيافة ومؤنسة ومجاملة لكل أهلها ومعارفها فضلا عن قيامها بواجباتها تجاه الأسرة والأهل والوطن رغم كل تلك المعاناة واشفاق الجميع عليها بل وتوسلاتهم المستمرة لها بالركون إلى الراحة وعدم تكليف نفسها فوق طاقتها. 
وأظل متيقنا وغير متجاوز للحقيقة قيد أنملة إن زعمت بأن مدينة وادي حلفا قد أجمعت بكل طوائفها وسحناتها وألسنتها وهي تشارك في مراسم وداعها الأخير بأن تلك المرأة كانت مضرب المثل في الصبر على الشدائد، فلا عجب أن  أضحت ولسنوات عديدة مضت  ملاذا أمنا للساخطين على قسوة الحياة ووعورتها ولأهل الابتلاءات النازلة صباح مساء....  فزيارة واحدة لها كانت كافية لتزودك بشحنة من  الصبر تحيل التذمر إلى حمد والقنوط إلى أمل والتجهم إلى ابتسامة، فما أعظمها من شعلة للأمل وما أنفعها من مستودع للصبر وما أجزعنا بانطفاء تلك الشعلة ونفاد ذاك المخزون.
لقد ترعرت المرحومة ازدهار صالح كواحدة من أنشط الفتيات في ربعنا، فكانت تقوم بكل الواجبات المنزلية في كنف والديها ولذوي الحاجة من الجيران وهي بعد صغيرة لم يقو عودها على تحمل المسئولية وذلك في زمان عز فيه معين المرأة من مقتنيات المنازل من غسالات وبتوجازات وثلاجات بل وانعدمت فيه بعض الخدمات الضرورية مثل الكهرباء والماء، ولك أن تقدر جسامة المهام وحجم إنجاز تلك الفتاة اليافعة في كل صباح باكر قبل أن تنضم لزميلاتها من الطالبات في الهجرة المدرسية اليومية لتلقي العلم.
وحري بمثل تلك الفتاة أن تستقطب الراغبين في الزواج من كل حدب ونسل، وبالفعل حمي الوطيس في مطلع الثمانينيات وسط الأمهات في ديارنا عسى أن تكون الفتاة من نصيب ابنها أو من الأقربين إن لم يشارف أي من أبنائها مرحلة الزواج. وبالفعل تزوجت في سن صغيرة مقارنة مع جيلها وكنا الأسعد بذلك الزواج ليس لأنها تزوجت ممن تربطه صلة قرابة بي فحسب – رغم عظم ذلك - ولكن لأن الزوج – يرحمه الله - كان ممن عرف بتقديره للمرأة وعشقه للحياة.
وكعادة هذه الدنيا الحبلى بما يكدر صفو الليالي نزل البلاء على الزوجة في ريعان شبابها بمرض لم نعرفه في اسلافنا الأولين، وقيل أنه يصيب القليل جدا من كثير البشر ولا يفارق الجسد المنهك رغم كثافة وديمومة العلاج،  بل وترتفع درجة حرارة الجسم بصورة حادة تحيل الجلد إلى جزر متقاطعة الألوان من المعاناة.  واستمرالحال سنوات طويلة زادت على الثلاثة عقود  ومع مرور كل بضع من السنوات يزداد الجسد ضعفا ولا يقوى على مقاومة القادم من بنات الدهر من صويحبات المتنبئ في حميته المشهورة، فتكاثرت الابتلاءات وتعددت الأمراض. 
ولأن المصائب لا تأتي فرادى أصيب زوجها بجلطة دماغية ألزمته الفراش لما يقرب من عشرين عاما حتى توفاه الله راضيا عن زوجته - التي  رغم حالتها الصحية - قامت بكل واجباتها المنزلية تجاه الزوج والأبناء والوالدين والأهل بل وشكلت حضورا دائما في كل المناسبات فضلا عن قيامها بالواجب الاجتماعي على أفضل الوجوه. ولك أن تعجب كل العجب إن علمت بأنها فوق هذا وذاك كانت تشارك عبر إذاعة وادي حلفا في تقديم برنامج يربط الجيل الجديدة باللغة النوبية. ولعلها أرادت توجيه رسالة مبطنة للجميع بأهمية العطاء في كل الأحوال والظروف حتى وإن طال أمد الظلام وادلهمت الخطوب، وكما قيل بحق: لأن تضئ شمعة واحدة خير من أن تلعن الظلام ألف مرة.
وتحضرني في هذا المقام تجربة شخصية مع المرحومة أبان مرض الوالد واصابته بكسر في أعلى الساق، إذ بينما نحن جلوس في انتظار دورنا في جلسة العلاج الطبيعي أطلت المرحومة من باب المشفى لزيارة الوالد وهي تلهث وفي حالة من الاعياء والانهاك الشديدين، فما كان من والدنا الذي كان لا يقوى وقتها على الوقوف أو المشي دون مساعدة إلا أن نهض لوحده وتقدم لتحيتها وأصر على عودتها فورا...
رحم الله المرأة الفاضلة وسيدة الصابرات الأخت العزيزة أزدهار صالح علي حسن - التي انتقلت لجوار ربها في مطلع العام الحالي -  رحمة تغشاها صباح مساء إلي يوم النشور، وتقبل يا رحمن شهادة كل من عرف صبرها الجميل وأثنى عليها بما هي أهل له وأنزلها يا رب منازل الصابرين الذين يوفون أجورهم بغير حساب، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
sbeteik@hotmail.com
/////////////

 

آراء